الجزء الأول
الصراع بين حكومتي امريكا وايران على توجيه السياسة العراقية وبلورة نظام سياسي واقتصادي يحاكي نظاميهما بدأ منذ الايام الاول لاجتياح الجيش الامريكي للعراق واسقاط نظام البعث في التاسع من نيسان عام 2003.
اتبعت ايران سياسات وان ناقض بعضها الآخر في فترات معينة لكنها جميعا صبت في هدف واحد الا وهو هزيمة المشروع الامريكي في العراق, والتناقض الذي بدا على سياسات ايران في هذا الخصوص فرضته ضروف وتداعيات كل مرحلة من مراحل الصراع بين الادارتين على الساحتين العراقية والدولية.
يمكن تلخيص المشروع الايراني في العراق بما يلي: سيطرة الاحزاب الاسلامية الشيعية وحتى السنية التي تتناغم مع او على الاقل لاتتعارض مع مشروع اسلمة النظام السياسي في العراق واعتباره امتدادا لامة اسلامية كبيرة تقودها جمهورية ايران الاسلامية.
ومن أجل هذا الهدف ابدت ايران ليونة كبيرة وقدمت ولازالت مستعدة لتقديم دعم غير محدود للحركات الاسلامية السنية في العراق والدول العربية الاخرى. يمكن القول ان ايران تدعم او على استعداد لدعم كل الحركات الاسلامية السنية التي تفضل التعامل مع الحكومة الايرانية الاسلامية على التعامل مع الحكومة العلمانية أو المسيحية الأمريكية اوالحكومات العربية غير الاسلامية أو على الاقل لاتعارض المشروع الايراني لتصدير الثورة.
يخطيء من يعتقد ان ايران تعادي السنة لانهم مجرد سنه, انها في الحقيقة تعادي كل فكر يتعارض مع افكار نظامها الثيوقراطي لذا فعدائها اشد للشيعة الذين يحملون افكارا علمانية, والمطاردات والسجن والاغتيالات التي حصلت وتحصل لعلمانيي شيعة ايران معروفة للجميع فما بالك بشيعة علمانيين عرب.
الجزء الثاني
اما في مايخص اقليم كردستان فموقف حكومة ايران منه هو تطويقه واختراقه من خلال دعم بعض الاحزاب الكوردية واحتوائه كي يبقى الاقليم كما هو عليه يتمتع بحكم ذاتي محدود لايرتقي لمستوى كونفيدرالية او دولة مستقله كي لاتحفز الحقوق الاضافية الطموح القومي الكردي بدولة تحفر حدودها داخل الدول الاربعة المتجاورة وقد تقيم علاقات مع امريكا واسرائيل وتاليا تجد ايران نفسها مطوقة بعدوين سنيين علمانيين تركي وكوردي يقيمان علاقات أو احلاف عسكرية مع الغرب واسرائيل.
لاتدع حكومة ايران مناسبة تمر الا وتعلن دعمها للحكومة العراقية ووحدة العراق وهذا كلام يبدو جميلا للسامع لكنه ليس كذلك فالدعم للحكومة هو دعم مشروط لحكومات اسلام سياسي شيعي, واما وحدة العراق فالمقصود بها معارضة ايران للنظام الفيدرالي الذي اقره الدستور العراقي أو اي تنازل يمكن ان تقدمه حكومة المركز لصالح الحكومات المحلية.
قد يتسائل قاريء لماذا تعارض ايران نظاما فيدراليا في العراق؟ والجواب هو من وجهة نظرنا أولا ان ضعف الحكومة المركزية وتوزيع صلاحياتها على الفيدراليات يعقد مهمة المخابرات الايرانية لانه يفرض عليها التعامل مع واقع جديد غير مستعدة له, وثانيا صعوبة ايجاد حكومات عميلة أو حليفة في كل الفيدراليات بسبب الاختلافات القومية والمذهبية وبالتالي صعوبة منع نشوء نظام علماني في الاقليم السني يمكن ان يتعاون مع الاردن والسعودية لقطع الامتداد الايراني الى سوريا ولبنان.
لقد اعترفت الاوساط السياسية والعسكرية الامريكية ان ايران هي المستفيد الأول من حربي امريكا في افغانستان والعراق لان ايران تخلصت من عدوين على خاصرتها منعاها من توسيع نفوذها او تصدير ثورتها. اضافة الى ذلك استثمرت ايران الواقع الجديد في الدولتين ونجحت في ادعاء النجاحات الامريكية لنفسها ومن ثم تصوير الوجود الامريكي ومشروعه الديمقراطي على انه الشر المستطير.
الجزء الثالث
بعد الغضب الامريكي لاحداث الحادي عشر من ايلول عام 2001 واجتياح امريكا لافغانستان شعرت ايران بخطر حقيقي لاول مرة في تاريخ الثورة الاسلامية وبدأت تتوسل المجتمع الدولي لضمانات عدم اعتبارها الهدف القادم, لذا لم تبد اي اشارات رفض لاجتياح الجيش الامريكي للعراق رغم انها لم تؤيد هذا الاجتياح علنا.
لكن الحكومة الايرانية تنفست الصعداء عندما بدأت امريكا تواجه صعوبات في مراحل اعادة الاستقرار للدولتين المذكورتين وترنحت الجهود الامريكية لاعادة بناء مؤسساتهما وفق مفاهيم وقيم جديدة, ولاحظت ايران انه كلما ازدادات هذه الصعوبات كلما ازدادت الخلافات الحزبية والمعارضة الشعبية في داخل امريكا نفسها, اضافة الى ان الازمة الاقتصادية في امريكا ادت الى تزايد الضغوط الشعبية على الأدراة الامريكية لسحب قواتها من الدولتين حتى قبل انجاز المهمة.
ساعدت هذه المستجدات ايران الى التحول من الدفاع الى الهجوم فبدأت بدعم زعماء حرب ومجاميع ارهابية وميليشيات لعرقلة الجهود الامريكية في اعادة بناء مؤسسات الدولتين وايجاد انظمة ديمقراطية.
سنركز على العراق لانه موضوعة البحث, بعد ان اتفق الكورد مع الشيعة على تقاسم تقريبا كل شيء بعد سقوط نظام البعث بدأ نوع من انواع المقاومة في المحافظات العراقية السنية قاده بعثيون واسلاميون اخذ بعدها طابعا راهابيا.
وبما ان هدف المقاومة ,بعد الجيش الامريكي, هم شيعة العراق ولخوفها من المجتمع الدولي لم تعلن ايران دعمها للمقاومة السنية –أو الارهاب السني- لكنها أكدت دائما رفضها للاحتلال الامريكي رغم ان الانتخابات التي اقيمت تحت اشراف الاحتلال اتت باحزاب اسلامية شيعية ترتبط بعلاقات قوية مع حكومة ايران.
آوت ايران بعض قادة القاعدة الفارين من افغانستان ونسقت مع حليفها نظام الاسد في استقدام المتطوعين واقامة معسكرات لتدريبهم ومن ثم تجهيزهم وارسالهم الى العراق لعرقلة المشروع الامريكي وابتزاز الحكومات الجديدة واغتيال معارضي المشروع الايراني في المنطقة
فاستمرت العمليات الارهابية في العراق وكان الارهابيون السنة اكثر عددا واكثر اصرار على هزيمة المشروع الامريكي واعادة الوضع الى ماكان عليه فتبنتهم حكومتا ايران والاسد, لكن العمليات التي كانت تحصل رغم كثرتها وشدتها لم تكن توحي بامكان هزيمة المشروع الأمريكي فلم يبق امام ايران الا اشعال صراع طائفي وفعلا تم لها ذلك عام 2006 نتيجة تفجير الضريحين في سامراء الذي أكدت مخابرات دولية تورطها فيه.
الجزء الرابع
عندما تعاونت بعض العشائر السنية مع الجيش الامريكي,تم طرد تنظيم القاعدة من العراق وبدأت بوادر استقرار ولاح في الافق نجاحا للسياسات الامريكية في العراق, وفي هذه الاثناء كانت ايران نجحت في اعداد وتدريب مجاميع شيعية للبدء بمقاومة للمشروع الامريكي من حيث انتهت المقاومة السنية المتمثلة بالقاعدة في بلاد الرافدين فبدأت تنشط مجاميع عصائب اهل الحق وكتائب حزب الله ولواء اليوم الموعود وما الى ذلك من المجاميع الارهابية الشيعية هذه المرة وكانت هذه المجاميع وبالاخص عصائب اهل الحق مسؤولة عن اغلب الهجمات ضد الجيش الامريكي بعد هزيمة القاعدة في المنطقة الغربية.
واخيرا نجحت ايران في اجبار امريكا على اشراكها في تحديد نوع نظام الحكم الذي سيحكم العراق وهوية الافراد الذي سيكون لهم الدور الاكبر في قيادة العراق بعد الانسحاب الامريكي. وقعت امريكا في الفخ وارتكبت اكبر خطأ خلال وجودها في العراق وهو تنيسقها مع ايران في التجديد لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي رغم خسارته لانتخابات 2010 ضنا منها ان ترأس الفائز بالانتخابات اياد علاوي وهو الشيعي العلماني المعارض للمشروع الايراني, ترأسه للحكومة من شأنه ان يغيض ايران وتاليا يقوض امن العراق بعد الانسحاب الامريكي, اثبتت الدورة الثانية لحكم المالكي كارثية هذا الخيار.
كاد المشروع الايراني في العراق أن يوشك على النجاح لولا الثورة السورية التي قلبت الطاولة وخلطت الاوراق, فتخبطت ايران وفقدت توازنها وتباينت سياساتها بين دعم المجاميع الارهابية على الارض السورية والعمل مع حكومة نوري المالكي لتهريب الكثير من الارهابيين الذي كانوا في سجون العراق وتسليحهم لتقوية شوكة الارهاب في سوريا وتاليا دفع المجتمع الدولي لدعم اهون الشرين (نظام الاسد) الى ارسال الميليشيات الشيعية المرتبطة بفيلق القدس لمنع سقوط نظام الاسد بحجة حماية الاضرحة الشيعية هناك.
ومما عقد الامور على ايران هو ان المالكي الذي كان خيارها لم يكن كما تمنته قائدا يستطيع التوفيق بين كسب ود الشعب العراقي ودعم المشروع الايراني في المنطقة ,كما هو حسن نصر الله في لبنان, حيث افتقر المالكي الى الكاريزما والحكمة وغلب عليه جشعه ونزوعه الى الحكم الديكتاتوري واعتمد على جيش من مستشارين واعوان فاسدين. لم يكن الكثير يعلم بمدى ضعف وهشاشة حكومة المالكي حتى سقوط الموصل ثاني اكبر مدن العراق على ايدي بضع مئات من الارهابيين وبضع عشرات من العجلات المدنية.
الجزء الخامس
لابد ان حكومة ايران صعقت من هول الصدمة عندما كشف لها سقوط الموصل ان رجلها في العراق وقواه الامنية لايستطيعان ليس انقاذ نظام الاسد ومنع سقوط المنطقة الغربية بيد داعش فحسب بل لايستطيعان حتى حماية بغداد أو النجف, حينها وجدت حكومة ايران نفسها غارقة في المستنقع الذي خلقته لها سياسات المالكي الغبية, فاضطرت للتدخل بنفسها لمحاربة داعش التي اصبحت الآن على ابوابها الغربية.
تقدم داعش واحتلاله لاراضي سورية وعراقية واسعة واعلانه لدولة الخلافة عليها اضطر المجتمع الدولي بقيادة امريكا للتدخل بطلب من سنة العراق وحكومات الدول العربية المجاورة وهذا آخر ماكانت تتمناه الحكومة الايرانية في هذا الوقت لانها قد لاتستطيع مواجة هكذا تدخل
كونه مدعوما عربيا ولانها منشغلة بمعارك على اكثر من جبهة وتاليا ليس لديها مايكفي من العملاء والميليشيات لمواجهة تواجدا امريكيا كسب شرعية ودعم اقليمي أكبر هذه المرة.
بعد ان ايران يأست ايران من منع سنة العراق من التعاون مع امريكا كثفت جهودها على الشيعة وكأنها تعلن تقاسم النفوذ في العراق من الآن. بدأت ايران حملة اعلامية ضد الجهود الامريكية من خلال بث الدعايات التي من شانها تقويض هذه الجهود وزرع الشكوك حول النوايا الامريكية فاوعزت الى اذرعتها في العراق ببث الدعايات فلا يمر يوم هذه الايام الا ونقرأ شيئا او نسمع جدلا من هذا القبيل دون تقديم دليل واضح واحد: امريكا تسرق النصر من الجيش العراقي والحشد الشعبي, امريكا لاتقصف داعش, امريكا ترمي اسلحة ومؤن لداعش من الجو, امريكا تدرب عناصر داعش, امريكا تقصف الجيش العراقي عندما يحاصر داعش, امريكا تريد اعادة احتلال العراق…الخ.
الجزء السادس -الأخير-
استغل فيلق القدس والجهات السياسية والميليشيات العراقية العاملة بامرته, استغلوا فتوى السيد علي السيستاتي في الجهاد الكفائي, وجيروا جهود الحشد الشعبي لصالح المشروع الايراني في العراق, وما التوجيهات المتكررة من قبل وكلاء السيد على السيستاني لعناصر الحشد الشعبي بالانضباط واحترام حقوق سكان المدن المحررة الا انعكاسا للصراع الحاصل بين حوزة النجف وقادة فيلق القدس حول توجيه الحشد الشعبي.
عين فيلق القدس المطلوب الدولي بتهم ارهابية ابو مهدي المهندس واحد قادة فيلق القدس هادي العامري عينوهم لقيادة الحشد الشعبي الذي لاينتمي افراده الى اي جهة سياسية او ميليشيا بل هبوا لتلبية فتوى الجهاد الكفائي.
تشير الدلائل الى ان المشروع الايراني في المنطقة قد يلفظ انفاسه الأخيرة قريبا ويتبدد الطموح الايراني بعراق قوي واحد ,تحكمه مركزيا حكومة اسلامية شيعية, ينتمي الى المعسكر الايراني السوري اللبناني.
ذلك لان امريكا هذه الايام تعمل مع حلفاءها من الحكومات السنية في المنطقة لاعداد قوة عسكرية عراقية من ابناء المحافظات الغربية السنية لكي تمسك الارض بعد هزيمة داعش, لذا لاتبدو امريكا متعجلة لطرد داعش قبل الانتهاء من اعداد هذا الجيش, واذاما نجحت امريكا في هذا الأمر فانها تكون قد وضعت اللبنة الاولى للاقليم السني وتاليا عراق فيدرالي أو كونفدرالي بثلاثة اقاليم.
ايران بدورها لاتريد لهكذا مشروع ان يتحقق لانه لو تحقق ستجد نفسها لاتسيطر الى على جزء بسيط من العراق وهو الاقليم الشيعي الجنوبي الذي سيكون اشبه بلبنان لسوريا ايام الاحتلال السوري وهذا لايلبي طموحات المشروع الايراني الكبير, لذا فهي (اي حكومة ايران) تسابق الزمن وتدفع بالحشد الشعبي والجيش العراقي للاستعجال بطرد داعش من المناطق السنية العراقية التي احتلها التنظيم مهما كانت التضحيات كي تعيدها تحت سيطرة حكومة مركزية حليفة قبل ان تنجح امريكا بتأسيس اقليم سني يمنع الثورة الاسلامية في ايران من التمدد من خلال العراق الى سوريا ولبنان ومن ثم فلسطين.