أشكالُ الصراعات باردة أو ساخنة ,وقد تكون قضائية أو اجتماعية ,وقد تكون فكرية، أو عقَدية ، أو سياسية واختلافها من حيث الهدف و الوسيلة والأسلوب
صراع الإرادات..وصراع الأدوات!
مفهوم النزاع من خلال تحديد الظروف الموضوعية لبروزه، فيوجد النزاع عندما تلاحظ مجموعتان أو مجموعات أن مصالحها متناقضة أو التعبير عن مواقفها أصبح يتم بعدائية أو تحاول تحقيق أهدافها بأعمال تؤدي إلى الإضرار بالمجموعات الأخرى. وقد تكون هذه المجموعات أفرادا أو مجموعات صغيرة أو كبيرة.
الصراع أو النزاع والسلام ظاهرتان يمكن تفسيرهما، ليسا ساكنين بل حيويين (ديناميكيين)، يتطوران بعامل الزمن. لا ينتهي كل نزاع بالعنف فهناك العديد منها يحل بشكل سلمي. ويتطلب منع ظهور النزاع العنيف (Violent Conflict) أو وقفه فهم أسبابه وحيوية (Dynamism) النزاع السلمي والعنيف، وإدراك مكونات السلام. وتطبيق سياسات وبرامج وآليات متعددة تناسب نوع الصراع والمستوى الذي وصل إليه.والصراع الداخلي بأنه التنازع بين مجموعات مختلفة (عرقية، سياسية، دينية..) من خلال مخالفات غير منطقية لأعراف الحياة اليومية للمجتمع. غير أن ممارساتها غير المنطقية لا تمنع وجود أسباب وأهداف منطقية تقف وراءها، كما هو مشاهد في مطالب العديد من الأقليات الدينية والعرقية والسياسية.
موضوعات النزاع
حددت بعض الدراسات العناصر المتنازع عليها في التالي:
– الموارد أو الثروة، مثل: الأقاليم والمال ومصادر الطاقة والغذاء، وكيفية توزيع تلك الموارد.
– السلطة إذ يتم التنازع بشأن كيفية تقسيم آليات الحكم والمشاركة السياسية في عملية صناعة القرار.
– الهوية وتتعلق بالمجموعات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
– الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ومنها مدى شعور الناس بأنهم يعاملون باحترام وتقدير وأن حكومتهم تحافظ على تقاليدهم الاجتماعية.
– القيم وخاصة تلك المتمثلة في أنظمة الحكومة والدين والأيديولوجية.
هذه المصالح المتناقضة المولدة للنزاع من الممكن أن ترى في:
أولا- تغيرات الظروف الموضوعية، مثل: تدني مستوى المعيشة، وتغيرات التركيبة السكانية أو حركة السكان، والتحولات التكنولوجية التي تزيد التواصل، والإمكانات المادية، وتوافر الأسلحة.
ثانيا: تغيرات الظروف غير الموضوعية (الشخصية أو الخاصة)، مثل: شعور جديد بالامتعاض الاجتماعي، أو بروز أيديولوجية قومية جديدة. وتنشأ الظروف الخاصة حتى في حال غياب التغيرات الموضوعية.
والانفعال الحزبي والذهنية الحزبية الظاهرة (الشعارات والبرامج) تؤثر في النزاع. كما أن الزمن عامل فعال حيث تحصل المكونات الشخصية للنزاع -بمرور الزمن- على أهمية التشابهات التي تملكها المكونات الموضوعية. وفي النهاية النزاع لا يحدث إلا بعد تنامي الشعور بتهديد المصالح من حزب أو جماعة أخرى.
الصراع الكامن والظاهر
يعتقد بعض المراقبين بتناقض مصالح الأحزاب أو الجماعات داخل المجتمع، غير أن تلك الأطراف غير عابئة بتلك التناقضات. وهذا قد يكون بسبب غض طرف متعمد، أو بتقديم مبررات عقلانية ومنطقية لعدم وجود حاجة لتحويل التناقض إلى نزاع.
وقد يكون بسبب نقص المعرفة عند تلك الجماعات لما هو كائن من تناقض، أو نتيجة لطمس المعلومات التي تؤكد تلك التعارضات. إلا أن كل ذلك لا يعني صحة الركون إلى هذه الأسباب القابلة للتغير، وبالتالي بروز النزاع.
أنواع الصراعات
يعتبر علما النفس والاجتماع أن النزاع هو كل تنافس بين الأفراد والجماعات في المجتمع. وبناء عليه انقسم النزاع إلى سلمي وعنيف:
1- الصراع السلمي (Peaceful Conflict)
عندما تتحقق المصالح والمطالب المتعارضة باستخدام آليات مقننة ومنضبطة يصبح النزاع سلميا. ومن هذه الآليات: الدساتير والقوانين، والتكوين الأسري والعشائري، ونظم التحاكم، والأحكام الدينية، والأعراف والتقاليد، والحوار والمؤتمرات.
وتراوح هذه الآليات بين كونها غير رسمية وكامنة في العقل الاجتماعي والفردي، وبين كونها رسمية ومدونة. ومن أمثلة الأخيرة الانتخابات وما يعطيه الدستور من حقوق للأفراد والجماعات من وسائل للتعبير والمطالبة بالحقوق العامة والخاصة. وتسمى هذه الضوابط مجتمعة “نطاقات السلام” فتمنع تلك التناقضات من أن تتحول إلى نزاع عنيف ومدمر.
2- الصراع العنيف (Violent Conflict)
يصبح الصراع والنزاع عنيفا عندما تتخلى الأطراف عن الوسائل السلمية، وتحاول السيطرة أو تدمير قدرات المخالف لها لأجل تحقيق أهدافها ومصالحها الخاصة. وكما ذكر سابقا فإن النزاع لا يحدث إلا في ظل توفر ظروف موضوعية أو شخصية محددة.
أبعاد الصراع العنيف
حدد بعض الباحثين أبعاد النزاع العنيف في أربعة عناصر يلزم التمعن في كل نزاع لتحديدها بدقة بقصد وضع سياسات منع نشوء النزاع أو التخفيف منه. وهذه العناصر هي:
المسائل الجوهرية (الأصلية)، وتكون في احتدام الجدل بشأن التنافس على الموارد الطبيعية، والسيطرة على الحكم، وتحديد صلاحيات الأقاليم والمناطق، والأيديولوجيات الحاكمة.
الأطراف أو مجموعات النزاع، سواء أكانت عرقية، أم دينية، أم إقليمية، أم تيارات سياسية.
أنواع القوة المستخدمة وطرق الإكراه، مثل أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، والانقلابات، والإبادة الجماعية، وانتهاك حقوق الإنسان، والتطهير العرقي.
الفضاء الجغرافي، حيث تتم المجازر وعمليات التخريب، والنزاعات الدولية والداخلية.
الانتقال من السلام إلى النزاع
تختلف مستويات النزاع (سلميا كان أم عنيفا) في درجات التعاون والعداء، فبعضها ينتهي بسلام ودون أي إكراهات أو عنف. في حين يرتفع بعضها الآخر إلى أعلى درجات الصدام والمواجهة، وتشمل الاضطهاد والإيذاء الجسدي.
ويمكن توزيع هذه المستويات لتبدأ من التناغم (Harmony) بين المصالح المختلفة للأطراف إلى الحرب الشاملة (All-Out-War). ويعني هذا وجود تداخل بين السلام والعنف (الحرب). ويظهر هذا التداخل في مصطلحات متدرجة مثل: الحرب المشتعلة، والحرب الباردة، والوجود المشترك أو التعايش، والتنافس، والخمود، والتحالف، والاتحاد، والعلاقات الخاصة، وغير ذلك. وفيما يلي عرض موجز لمستويات النزاع:
1- التناغم (Harmony)، ويعرف بأنه العلاقة بين الأطراف (عرقية، دينية، سياسية، ثقافية..) عندما لا توجد فعليا أي صراعات مصالح أو قيم متناقضة. ويظهر ذلك في تعاطف الأطراف مع أي طرف يتعرض لمشكلة أو أزمة.
2- السلام الدائم (Durable Peace)، ويتميز بمستوى عال من التعاون والاتصال بين الأطراف، وإدراك لكيفية تحقيق المصالح المتعارضة. وتعطي الأطراف قيمة أكبر لعلاقاتها العامة أكثر من التركيز على مصالحها الخاصة. ويسعى كل طرف لتحقيق مصالحه من خلال آليات سلمية ومؤسسية. ولذا لا يحتاج إلى استخدام العنف لتحقيق ذلك.
3- السلام الثابت (Stable Peace)، ويسمى “السلام البارد” وفيه يقل الاتصال، والتعاون بين الأطراف ويتم ذلك من خلال نسق من النظم الأساسية، والاحترام المتبادل وغياب عام للعنف. وتبقى الأهداف والقيم المتعارضة. وتتنافس الأطراف بطرق عديدة لكن ضمن ضوابط مقبولة، والتنازع يتم بطريقة غير عنيفة. ومن الممكن أن تحدث نزاعات عنيفة في هذا المستوي لكنها عمليا غير مرجحة الحصول.
4- السلام غير الثابت (Unstable Peace)، ويسمى “الحرب الباردة”. وتنشأ فيه توترات ملموسة واتهامات بين الأطراف. ومن المحتمل أن تتحول إلى عنف علني متقطع. وبالرغم من قلة العنف فيه إلا أن التعايش معدوم فيه.
والأطراف لا تعنى كثيرا بعلاقاتها المتبادلة بشكل كاف، ولا تسعى لوضع ضمانات تبعد احتمال استخدام الإكراهات والعنف المادي لتحقيق أهداف محددة. ويبدو السلام هنا ضعيفا، ومستويات التوتر بين ارتفاع وانخفاض، وتسعى الأطراف لامتلاك السلاح بقصد الردع، والاتفاقات غير واضحة ومن السهل الإخلال بها.
5- الأزمة (Crisis)، وهي مواجهة متوترة بين مجموعات مسلحة معبأة معنويا، قد تصل إلى درجة التهديد وصدامات ظرفية (آنية). وتمهد هذه الأوضاع إلى حرب أهلية وشيكة، أو انهيار عام للقانون ونظام الحكم.
6- الحرب (War)، وهي حرب شاملة تتحارب فيها مجموعات مسلحة منظمة. وقد تحتوي على كثافة منخفضة في نطاق المواجهات مثل حروب العصابات، والفوضى السياسية. ومثال ذلك الوضع في الجزائر والصومال، وجنوب السودان.
في الأوضاع الواقعية لا تحدد هذه المستويات بشكل هندسي، بل تلاحظ عند بروزها بشكل كبير. والمقصود هنا أن النزاعات والسلام لا يبرز بشكل مفاجئ، أو ينتقل بشكل سريع من مستوى إلى آخر، أو ينتهي أيضا بشكل مفاجئ. فالعلاقات لا تنتقل من السلام الكامل إلى الحرب الشاملة دون المرور بمستويات وسيطة.
عوامل الانتقال بين مستويات السلام والنزاع
معرفة العوامل المذكورة في الأسفل تمثل خطوة مهمة لتحديد أنجع الإجراءات لمنع النزاعات من التطور إلى الأسوأ. وهذه العوامل هي:
شدة وحجم الشكاوى ومواقف التذمر.
مدى إدراك الأطراف لاختلافاتهم وتطلعاتهم ومواقفهم تجاه بعضهم.
حجم التفاعل المباشر والاتصالات التي تملكها الأطراف في تعاملها مع بعضها البعض.
مستوى التعبئة السياسية والتنظيم الواقفين خلف أوضاع الأطراف المختلفة.
حجم التلاحم والالتصاق بين قيادات الأطراف والقواعد في الدوائر الانتخابية.
حجم السلوك العدائي.
المدى الذي يمكن أن تصل إليه تهديدات الأطراف باستعمال السلاح.
عدد الأحزاب والجماعات في كل طرف من أطراف النزاع.
محددات النزاع العنيف والسلام
ينشأ النزاع العنيف من أسباب مركبة. وهناك عوامل رئيسية أو متغيرات ترجح تطور النزاع إلى عنف، أو أنه سينتهي بشكل سلمي. وهذه العوامل من الممكن أن تكون أسبابا للعنف أو أسبابا للسلام. وبالتالي يمكن تقسيم محددات النزاع إلى بنيوية، ووسيطة، ومباشرة.
1- العوامل البنيوية (Systemic Causes: Structural Conditions)، وهي أسباب موضوعية (Subjective) تتعلق بالظروف الأساسية للمجموعات، والتدهور البيئي، والنمو السكاني، وندرة الموارد، والتنافس، وانهيار القيم والتقاليد، والفقر، والتهميش الديني والإثني. والإجراءات التي تتخذ لوقف النزاعات ذات الأسباب البنيوية تظهر نتائجها بعد فترة طويلة من التطبيقات.
2- العوامل الوسيطة (Proximate: Political and Institutional Factors)، وتشكل أساس المشاكل في العمليات الاجتماعية والسياسية والاتصالات. وهي عوامل حاسمة تؤثر في تحول الأوضاع البنيوية إلى ردود أفعال عنيفة، أو إلى سلوك طرق سلمية للتعامل مع المصالح المتناقضة.
وتدرك بسهولة العلاقة بين الأسباب الوسيطة ومظاهر النزاع العنيفة. كما أن أثرها أكثر مباشرة. ومن الأسباب الوسيطة: السياسات الحكومية، والمنظمات الاجتماعية، وبرامج الإصلاح الاقتصادي، ومشاكل التحرر السياسي، والتسلح.
3- العوامل المباشرة (Immediate Causes: Acts and Events)، وهي الأعمال والأحداث التي تشعل (تقدح-Trigger) أعمال العنف. ومثال ذلك اتخاذ الحكومة إجراءات متشددة نحو جماعة مضطهدة مما يدفعها إلى العصيان والتمرد. ونظرا لظهور هذه الإجراءات فإنها أكثر تأثيرا من غيرها.
الإرادات : قد تتباين ، بين إرادات الأفراد ، وإرادات قادة الدول ، وإرادات قادة القبائل ، وإرادات قادة الأحزاب ، وإرادات قادة المؤسّسات المالية والتجارية .. وغيرها !
أمّا الأدوات : فتكون ، عادة ، وسائل ، لدى أصحاب الإرادات ! وهي قد تكون وسائل بشرية، كالجنود والمرتزقة والعملاء .. وغيرهم .. وهؤلاء ، إراداتهم خاضعة ، لإرادات مَن يستخدمهم، ولا إرادات لهم ، مستقلة عن إرادات مستخدميهم !
صراع الأفراد :
قد يكون الصراع بين شخصين ، أو أكثر، حول مسألة ما : اجتماعية ، أو مالية ، أو رياضية ، أو غير ذلك !
وقد يكون الصراع ، بين: عدوّين، أو صديقين ، أو قريبَين ، متنافسَين ، حول أمر ما !
كما قد يكون الصراع أسرياً ، بين الأخ وأخيه ، أو بين المرأة وزوجها ..!
وأشكالُ الصراع ، قد تكون باردة أو ساخنة .. وقد تكون قضائية أو اجتماعية .. وقد تكون فكرية، أو عقَدية ، أو سياسية ..! ووسائل التحكيم وأسالبيه ، تختلف ، في كلّ قضيّة ، باختلاف طبيعتها! كما أن الأدوات – إذا وُجدت – تكون مناسبة ، لطبيعة الصراع ، وهدفه .. وكذلك الوسائل !
كما أن الصراع ، بين الفئات المذكورة ، آنفاً ، يختلف ، من حيث : الأهداف ، والوسائل ، والأساليب .. كلّ نوع منها ، بحسب طبيعته ! ونقصد ، هنا ، الصراعات ، بين : إرادات قادة القبائل ، وإرادات قادة الأحزاب ، وإرادات قادة المؤسّسات المختلفة !
الصراعات ، بين إرادات قادة الدول :
وقد أفرَدنا هذا النوع ، من الصراعات ، لأهمّيته ، وخصوصيته ، ولما فيه ، من : وسائل ، وأساليب ، وأدوات ، متنوّعة .. بشَرية ، وغير بشرية ؛ فالصراع بين هؤلاء ، له أبعاد مختلفة؛ فهم يوظّفون قوى كثيرة ، جدّاً ، في صراعاتهم ، من أهمّها :
الجيوش : وتدخل في ضراعات الجيوش ، القوى العسكرية بأنواعها ، والخبرات المختلفة بأنواعها .. والأساليب المختلفة بأنواعها .. والوسائل المختلفة بأنواعها .. ومنها : قوى المرتزقة.. وقوى الخونة ، بين صفوف الأعداء .. وغيرها !
القوى السياسية بأنواعها : ومنها قوى الدولة ، ذاتها ، وقوى التحالفات .. !
ومن أهمّ القوى المؤثّرة ، في الصراع : قوّة العقيدة ، ومنها تُكتسب القوى المعنوية ؛ ولا سيّما في الصراعات الساخنة ، التي تخوضها الجيوش ! فالصبر، لدى المؤمن ، في الحرب ، يعادل قوّة مقاتل ؛ فالمقاتل المؤمن ، لايحقّ له الفرار، من مقاتلين اثنَين ، من أعدائه ؛ لأن صبرَه يُعَدّ بقوّة مفاتل ! وقد أمر المقاتل من المؤمنين ، في البداية ، أن يقاتل عشرة أمثاله ، من المقاتلين المشركبن.. ثمّ خفّف الله عنهم ، فصارت قوّة الفرد المقاتل ، بقوّة اثنين من أعدائه..قال ، تعالى:
(ياأيّها النبيّ حرّضِ المؤمنين على القتال إنْ يكنْ منكم عشرون صابرون يَغلبوا مِئتين وإنْ يكنْ منكم مئةٌ صابرةٌ يَغلبوا ألفاً من الذين كفروا يأنّهم قومٌ لايَفقهون) .
ثمّ قال ، تعالى ، مخفّفا عن المؤمنين :
(الآنَ خفّفَ الله عنكم وعَلمَ أنّ فيكم ضعفاً فإنْ يَكنْ منكم مِئة صابرةٌ يَغلِبوا مِئتين وإنْ يَكنْ منكم ألفٌ يَغلبوا ألفين بإذن الله واللهُ معَ الصابرين) .
ومِن قوّة المؤمن ، التي تساعده في الانتصار، على عدوّه ، حبُّه للاستشهاد في سبيل الله ، بينما يحبّ عدوُّه الحياة ! وكان قادة الجيوش الإسلامية ، يقولون لقادة أعدائهم : لقد جئنا كم ، برجال يحبّون الموت ، كما تحبّون الحياة !
بعد تفكير في محاولة توصيف ما تمر به منطقتنا العربية من مخاض عسير، لم أجد من توصيف لهذه الحالة البائسة أفضل من أنها صراع إرادات، صراع بين إرادتَيْن، إرادة الشعب العربي في أن يكون، وإرادة الغرب في فرض سيطرته، والعودة من جديد ليكون المتصرف وصاحب القرار في الوطن العربي، كما كان قبل خروجه مهزومًا في حروب التحرر العربي في القرن الماضي.
هذا الصراع مرَّ بتطورات عدة، كانت بداياتها الخروج من تحت العباءة العثمانية في بداية القرن العشرين، واستمر هذا الصراع في رفض الاستعمار الغربي في مغرب الوطن العربي ومشرقه حتى منتصف الستينيات، في تلك الفترة تحقَّق تحرُّر المغرب العربي وما كان تحت الانتداب من المشرق العربي، غير أن الاستعمار الخبيث كان بالمرصاد لتأمين العودة من جديد، فزرع في فترة نفوذه جسمًا غريبًا، ليكون أداتهُ يستخدمها متى أراد
استمرَّ الصراع بين هاتَيْن الإرادتَيْن حتى عصرنا الحاضر، وتجلَّى في إدراك العرب السبب في خلق ذلك الجسم الغريب، وأصبح محورُ الصراع القضية الفلسطينية وحقوق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه، فلم يكن خافيًا على أبناء الأمة العربية السببُ الحقيقي في زرع تلك النبتة الخبيثة، وأنها سوف تكون ذراع الغرب في فرض نفوذه من جديد على هذه المنطقة المهمة من العالم، ولذا كان الرفض، واحتلَّت قضية فلسطين مركز الثقل في فكر جميع الدول العربية وسياساتها؛ لما لها من بُعْد إنساني وبُعْد إستراتيجي، وأصبح الاعتراف بوجود هذا الجسم الغريب في منطقتنا تنكُّراً لما قدمه شهداء الأمة في مغرب الوطن العربي ومشرقه، وتضحياتهم في سبيل العزة والكرامة والاستقلال والانتصار للإرادة العربية.
يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت – بعد الحرب العالمية الثانية – هي الوريث أو الممثل الحقيقي للاستعمار الغربي في العالم ومنه الوطن العربي؛ لِمَا تتمتع به هذه القوة من إمكانات علمية وعسكرية واقتصادية، وإنْ كان المستعمرون الأوربيون لا يزال لهم نفوذ ولكنه أقل تأثيرًا من ذي قبل، ولذا فقد جندت تلك القوة العظمى جميع قدراتها العلمية والعسكرية والاقتصادية في سبيل كَسْر الإرادة العربية الرافضة للمشروع الصهيوغربي في المنطقة.
في هذا الصراع، كان كل جانب يستخدم قدراته الإستراتيجية والعلمية والاقتصادية، ولا جدال في مَنْ يملك القدرات الأفضل بين الجانبَيْن، فقد دخل الغرب المعركة متسلحًا بالقراءة العلمية للمجتمع العربي، فقد اجتهد في دراسته والتمكن من معرفة نقاط ضَعْفه ونقاط قوته: كيف يفكر، وكيف يتصرَّف، وكيف يقرأ الأحداث حوله، فاستغل نقاط الضعف تلك لكي ينفذ سياسته التدميرية في التفرقة والعزلة والتناحُر بين أبناء الوطن الواحد، وهي سياسة معروفة لكل ذي عقل، وساعده في تسريع تنفيذ تلك السياسة ما ابتدعه من وسائل الاتصال والتواصُل الاجتماعي الحديثة. أما الجانب العربي فقد دخل معركة كَسْر الإرادة بأسلحة متقادمة، بل خالية من كل مقومات القدرة على مجابهة تلك القوة العلمية التي تنطلق من استغلال العلوم الحديثة الاجتماعية والسلوكية وأساليب الاتصالات الحديثة، ولذا جاءت الهزيمة والانكسار اللذان نشاهدها حولنا في أقطار عربية عديدة.
عندما ننظر حولنا ونرى التدمير الممنهج الذي مرَّ ويمرُّ به العراق وسورية وليبيا والسودان واليمن، ونرى قادةً عربًا يُذبحون ذبح الخراف، وآخرين في السجون (بصرف النظر عن رأينا فيهم)، ونسأل عن العامل المشترك بينهم، نجد أنه المعارضة للنفوذ الغربي والدعوة لوحدة الصف العربي، وأنهم قالوا لا للمشروع الصهيوغربي. نعم.. هناك حكومات عربية أخرى قالت لا للمشروع المذكور، ولكنها كانت حكيمة في التعامُل مع هذه القوة الغاشمة الطاغية الباغية.
نشهد اليوم -للأسف- تصدعًا في الإرادة العربية، وعدمَ التزام بالقرارات الجماعية للأمة؛ ما يعني إهمال استقلالية القرار العربي، وكَسْراً للإرادة العربية، ونجاح الإرادة الغربية. وهذا بالطبع نتيجة لسوء التقدير وغياب الرؤية العربية الجامعة التي تدرك أن الأمن العربي كلٌّ لا يتجزَّأ، وأن وحدة الأمة قوةٌ للجميع، ولا شك في أنه إذا كانت هناك وحدة بين جميع الأقطار العربية فإن النصر سوف يكون للجميع، إرادتنا العربية هي التي سوف تنتصر.