في السياسة الدولية الإعلام من يصنع الحدث ويروج للأجندات الخفية ولا يعجز عن ابتكار وافتعال الأزمات.
ومن بداية العلاقات السعودية الأمريكية كان هناك مادة خصبة يرقص شياطين الإعلام حولها والمحرك الرئيسي الصهيونية العالمية والأطماع الإمبريالية.
وليس من شك أن البترول والقضية الفلسطينية كانتا على الدوام مصدراً تتكئ عليه إمبراطوريات الإعلام في أمريكا محليًا وعالميًا.. محليًا تشكل مادة دسمة للصراع بين الحزبين اللذين يتنافسان على الكرسي في البيت الأبيض كل أربع سنوات مثلما حصل في عهد كلنتون، وبوش الابن، وأوباما.. وحاليًا ترامب!
الشركات الصانعة الكبرى لها انتماءات حزبية ومصالح للترويج لمنتجاتها، ووجود البترول بكميات كبيرة وأسعار مربحة عامل مرجح لسياسة المملكة الخارجية وتعاملها مع الدول الصديقة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما أبعد التناقضات عن الذروة.. ولذلك بقيت الإدارات الأمريكية المتتالية تضرب حساباً للتعامل مع المملكة من منطلق المصالح، ومن أُتيحت له الفرصة للعمل والتعامل مع الأمريكان يدرك بأنهم أفضل من الأوروبيين ولكن مصالحهم المادية عربية وهواهم السياسي والروحي صهيوني.. والتفوق الأمريكي في مجال التقنية والتسليح وسرعة التجاوب عند الحاجة يفرض ذلك مع الاختلاف بين توجه الحزب الحاكم جمهوري أو ديموقراطي، وفي كلا الحزبين النفوذ الصهيوني له وجود والإعلام مطيته ورهانه المتمكن الذي يصعُب تجاهله أو اختراقه من الخارج..
الديموقراطيون يلعبون لعبة تغيير الأنظمة وهنري كيسنجر الثعلب الأمريكي -كما سماه الأمير بندر بن سلطان- بصفته أحد فلاسفة السياسة الأمريكية المعاصرة أوصى في عدة مناسبات بالابتعاد عن الإضرار بالعلاقات مع السعودية، وفي ذلك بعد نظر ثاقب أيًا كان مغزاه، لأن كيسنجر يعرف بأن الأمن والاستقرار في المنطقة من أركانه الرئيسية المملكة العربية السعودية التي تملك مفاتيحَ وكروتاً كثيرة في العلاقات الدولية وخاصة العالمين العربي والإسلامي وأن أي مساس سلبي بالعلاقات معها لن يخدم أمريكا وحلفائها.
البيت الأبيض يسمع لكيسنجر وغيره من المفكرين والمستشارين في الأوساط الأكاديمية ومراكز البحوث الإستراتيجية وسياسة الإدارة الحالية مبنية على سياسة الحزب الجمهوري مع المملكة ومع غيرها والرئيس الحالي ترامب ينفذ بطريقته الخاصة، يخرج عن النص أحيانًا ولكنه لا يبتعد عن الثوابت ومن أشهر عباراته عن الإعلام الأمريكي FAKE NEWS.. القصور الإعلامي من جانب المملكة، وهذا ما يؤيد ما قالته الأميرة ريما سفيرة المملكة لدى واشنطن التي تجيد اللغة التي يفهمها الشعب الأمريكي وهي تخاطبهم بحنكة وهدوء وعقلانية ومنطق العصر عن الصورة النمطية التي صنعها الإعلام الأمريكي عن المملكة على مدى 75 عامًا من العلاقات بين البلدين وتطالب بتغييرها لمصلحة الطرفين.. ومع إنه من الصعب تغيير منهجية الإعلام في أمريكا الذي يُعد سلطة رابعة حقيقية إلا أن إمكانية تكوين لوبي إعلامي قوي يحاكي الواقع ويتابع ويستبق الأحداث حتى لا نكون دائمًا في موقف الدفاع بدلًا من أخذ المبادرات الإيجابية لتغيير الصورة النمطية السلبية عن العرب بصفة عامة..!
الانفتاح الذي تشهده المملكة في هذه المرحلة سيُتيح للإعلام والسائح الأمريكي التعرف عن قرب على ما يحصل في المملكة من تطور واستثمارات عميقة وإصلاحات مواكبة والأمل أن تؤثر في الإعلام لتغيير الصورة النمطية عن المملكة لدى الشعب الأمريكي بالشكل الذي يعزز الاحترام المتبادل بين الطرفين
ينفتح مبحث التضليل على مقاربات متشابكة بما يحفّز على دراسة الموضوع في شموليته وأبعاده. ولئن انصبّ الاهتمام على المجال الإعلامي فإنّ البحث يقود إلى السياسي والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي والعلاقات الدولية.. إلخ، ومن هنا تبدو صعوبة في ضبط حدود البحث لو رُمنا الانسياق وراء المعالجات العديدة لمسألة التضليل. هذا المبحث إذ يرصد سلوكا سلبيا يعتبر “انحرافا” فهو يحيل على مجال التقييم والمعايير والضوابط والحكم على الأشياء والأفعال من حيث أبعاد الخير والشرّ، الجمال والقبح، السلم والحرب، الصدق والكذب.. وهي أبعاد ملازمة لحركة الإنسان في العالم. فالتضليل يتجاوز البعد الفردي والمحلّي لنكتشف أنّ التضليل حركة عالمية مترابطة الحلقات.
مفهوم التضليل الإعلامي
تقترن كلمة “تضليل” في المعجم العربي بالشرّ والباطل. وورد في لسان العرب لابن منظور في مادة (ضلل)
“التضليل تصيير الإنسان إلى الضلال، والتضلالُ كالتضليل. ووقع فلان في وادي تُضُلِّلَ وتُضَلِّلَ أي الباطل. ويقال للباطل: ضُلٌّ بتَضْلال… ومُضلَّلٌ: لا يُوفّق لخير أي ضالّ جدّا. وكانت عبارة deformer الفرنسية، تاريخيا، مرادفا للتقبيح والترذيل في علاقة بالجسد بمعنى (التحوير والتشويه..). وفي التاريخ القديم كان تشويه الجسد مثيرا للانشغال، واعتبر علامة على الغدر والاحتيال. فجذور كلمة disinformation (التضليل) تشمل في حقلها الدلالي معاني الجمال والقبح. ولذلك لم يخرج الكاتب الفرنسي فرانسوا جيري عن هذه المعاني عندما صاغ مفهوما فلسفيا واعتبر أنّ الإعلام والإخبار في أحد وجوهه “هو تنزيل جمالية المفكر في عالم الفوضى والجهل والظلام. أمّا التضليل فهو توجيه العقل البشري إلى عهود سابقة وإلى تشوّه بدائي من أجل إحياء حالة التنافر في العالم”. ويرى هذا الكاتب أنّ التضليل نشأ مع الإعلام وظلّ حركة دائمة تتطوّر أساليبها بحسب تقنيات الاتصال المتوفرة. وفي كتابه “معجم التضليل الإعلامي” خلص فرانسوا جيري إلى تعريف جامع لمصطلح التضليل الإعلامي، فهو “مؤسسة جماعية لصياغة رسالة مفتعلة وتركيبها ونشرها، والهدف الرئيس من ذلك هو خداع المتقبل المستهدف من أجل تحقيق مكسب من الاستخدام الخاطئ الذي من المتوقع أن يقوم به”. تتضافر أعمال “التوجيه والتنافر والبدائية والتشويه والخداع والافتعال” لتحقيق مصالح وفق التعريفات السابقة، هذه المصالح هي التي تحكمت في حركية التضليل ومؤسساته عِبْر مسارات استخدامه.
سياقات المفهوم:
دوليا: استخدمت كلمة التضليل من قبل السوفيات بداية العشرينات من القرن الماضي للدلالة على المغالطات التي تصدرها الدول الرأسمالية ضد اتحاد الجمهوريات السوفياتية. ويرى الكاتب غاي ديراندين أنّ كلمة “تضليل” disinformation الفرنسية هي الترجمة الحرفية لكلمة dezinformatsia الروسية. وقد دخلت هذه الكلمة المعجم الروسي سنة 1949، وعرّف الكلمة بأنّها “وسيلة للإيقاع في الخطأ بواسطة الأخبار الكاذبة”. ثم ظهرت هذه الكلمة أيضا في الموسوعة السوفياتية الكبرى سنة 1952 بمعنى “نشر معلومات كاذبة (عبر الصحف والراديو وغيرها…) بهدف الانحراف بالرأي العام. وتستخدم الصحافة والراديو الرأسماليتين التضليل بشكل واسع لمغالطة الشعوب وإغراقها في الأكاذيب”. كما ظهرت تعريفات أخرى. وفي المعجم السياسي الصغير طبعة 1978 تأكيد لجذور فرنسية لكلمة تضليل وعرّفها كالآتي: “التضليل هو الخبر الكاذب الموجه الذي يقدّم على أنّه حقيقة، وذلك بهدف توريط الرأي العام في الخطأ. واستخدم التضليل بشكل واسع من قبل الصحافة البورجوازية والراديو والتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام، باعتباره السلاح المفضل في الحملات المعادية للاشتراكية وفي الافتراءات على البلدان الشيوعية.
واعتبر فيكتور أفانسياف مدير صحيفة البرافدا السوفياتية أنّ فكرة حرية الصحافة هي مبرر للتضليل، ويقول مبرّرا رأيه هذا: “علّمتنا التجربة التاريخية أنّ شعار حرية الصحافة يمكن استخدامه لتوجيه العقول وتضليل الجماهير العريضة وإدارة لعبة سياسية غير نظيفة وتزيين القوى المعادية للاشتراكية والثورة المضادّة.. إنّ حرية الصحافة على هذا النحو لا تعدو أن تكون سوى حرية المغالطة والتضليل. ولذلك نحن نرفض التنوّع الإيديولوجي. نقولها علنا وبكلّ وضوح”. ورغم أنّ النصوص السوفياتية تعتبر التضليل آلة أجنبية وبورجوازية فقد مارستها أجهزة المخابرات مبكرّا. حيث تم في موسكو بين سنتي 1917 و1922 إنشاء مكتب للتضليل صلب جهاز tcheka “لجنة مكافحة الثورة المضادّة”. ويميّز دليل المخابرات الروسية KGBبعدين للتضليل، استراتيجي وتكتيكي:
– استراتيجي، عبر إسناد الدولة على إنجاز المهام عبر إيقاع الخصوم في الخطأ فيما يتعلق بسياسات الدولة. وهذه الاستراتيجية تحدد من قبل أعلى مستوى في الكرملين.
– تكتيكي، وهي مهمة KGB عبر زرع المعلومات الخاطئة داخل أحهزة مخابرات العدوّ[8].
وفي فترة لاحقة استخدمت كلمة تضليل في فرنسا في مقال نُشر سنة 1952 لوصف الطريقة التي أقنع بواسطتها ستالين نظيره روزفيلت بكونه مجرد وسيط بين الحزب الشيوعي والدولة. وطلب ستالين من روزفيلت أن يثق به إلى حين يتمكن من احتواء زملائه في الحزب والدولة. وهكذا نجح ستالين في الإيهام بوجود جناحين في الاتحاد السوفياتي، متشدد ومعتدل. وفي ماي 1980 اعتمدت الأكاديمية الفرنسية كلمة التضليل في معجمها بهذا التعريف: التضليل عملية ظرفية أو متواصلة تهدف باستخدام جميع الوسائل إلى إيقاع الخصم في الخطأ، وهي أيضا المؤامرة والتخريب في صفوف الخصم بغرض إضعافه”. التضليل هو فعل عدائي يهدف إلى إضعاف الخصم عبر تشويش معلوماته وإرباك قدراته على اتخاذ القرار. ومن نتائج ذلك تعزيز قوّة الفاعل مقابل إضعاف قدرات الخصم على ردّ الفعل].
تونسيّا: برز مصطلح التضليل الإعلامي في الساحة التونسية في ماي 2005 بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، عندما نشر المجلس الوطني للحريات تقريرا بعنوان “التضليل الإعلامي في تونس” تضمّن ملحقا بقائمة “المضللين الإعلاميين”. وحسب هذا التقرير الذي اعتمد على نصوص تم توثيقها من الصحف التونسية أنتجت الصحف التونسية مادّة ضخمة من التضليل الإعلامي في أشكاله المتعددة. ولم يستنكف الصحفيون المضلّلون عن استخدام أي وسيلة تخدم التضليل ومنها : التشويه والتزييف والمغالطة والتعتيم والانحياز والإيهام والمبالغة. وقد أشار التقرير المذكور إلى أنّ التحوّل النوعي الذي عرفه التضليل الإعلامي في الصحف التونسية حصل “منذ وصول النظام الجديد إلى السلطة، وخاصة الطابع الهجومي العنيف والسقوط الأخلاقي المسفّ. وبالجملة تسعى هذه الكتابة إلى تحقيق هدف أساسي هو الإهانة ثمّ يأتي مستوى آخر في مجال العام والمشترك وهو التخوين فكلّ المعارضين متهمون بالخيانة الوطنية والعمالة وبيع الذمّة”. ويضيف التقرير “إنّ صحافة التضليل التي تجرأت على احتراف خرق أخلاقيات المهنة لا تتورّع عن الكذب بل يصبح من اختصاصها التزييف والمغالطات غير المجانية لأنّها تعمل لحساب جهات معيّنة أهمّها البوليس السياسي الذي يوفّر لها حصانة قضائية يتمتّع بها هو نفسه”. هذا الرأي الوارد في تقرير مجلس الحريات يتفق مع ما انتهى إليه ديراندين غاي من أنّ التضليل “هو نشاط منظم تديره أجهزة مختصة، قد يكون لها مكاتب مركزية شأن الأجهزة السوفياتية أو النازية. ومن بين أنشطة الأجهزة المختصة، حسب ديراندين، معركة الوثائق التي من وسائلها إعدام الوثائق أو إخفاؤها أو افتعالها، ضمن خطة تكتيكية وإعلامية.
– تكتيكية تكون مثلا بإطلاق حملة على سلوك الخصم، أو بتسريب وثائق عن مخطط مزيّف لإخفاء النوايا الحقيقية ثم مهاجمة الخصم فجأة.
– إعلامية بتشويه صورة الخصم، فعوض حملة موجّهة يتمّ افتعال أدلّة للبرهنة على صحة الاتهامات”].
وقد وفّر تقرير “أخلاقيات العمل الصحفي في الصحافة المكتوبة” الذي أصدرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في جانفي 2014 وثائق هامة عن مختلف أعمال التضليل في الصحافة التونسية تم رصدها خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2013، وأثبت التقرير أساليب متعدد من التضليل هي (اختلاق الأخبار والعناوين الكاذبة والمخادعة والإشهار المقنع وتوجيه اتهامات دون سند والتحقير والتجريح والخطاب العنيف والتشهير ثم التلميع أو العكس، وعدم الإنصاف في قضايا خلافية بعرض وجهة نظر واحدة، وعدم تكذيب الأخبار الزائفة أو المخادعة أو التملص في نشر الردود على تلك الأخبار أو الثلب، ومحاكمة النوايا)].
دوافع التضليل:
أ- الدعاية وتبرير الهيمنة: تعرّف مجلة “المراجعة الثقافية الكندية” Adbusters النزعة المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة بأنّها “الاعتقاد بأنّ أفضل من دافع عن الديمقراطية مهما كانت أخطاؤها هو الجمهور الجاهل المشبع بالنزعة القومية. فالدولة القومية على نحو متشدد هي وحدها التي يمكنها ردع العدوان البشري، وتتطلب هذه النزعة القومية وجود خطر خارجي، وإذا لم يكن هذا الخطر موجودا وجب صنعه”].
ويشير إلى هذا التوجه غوستاف لوبون (1841-1931) الذي يعتبر مؤسس علم نفسية الجماهير، ويربطه أيضا بالدعاية. ويرى أن رجالات الدولة الكبار في كل العصور وفي كل البلدان بما في ذلك الأكثر استبدادا قد اعتبروا الخيال الشعبي بمثابة أكبر دعم لسلطتهم. فهم لم يحاولوا أبدا أن يحكموا ضدّه. واستشهد المفكر الفرنسي بقول نابليون: ” لم استطع إنهاء حرب الفاندي إلاّ بعد أن تظاهرت بأنّي كاثوليكي حقيقي. ولم أستطع الاستقرار في مصر إلاّ بعد أن تظاهرت بأنّي مسلم تقيّ. وعندما تظاهرت بأنّي بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا].
ولعلّ أبرز الأمثلة المعاصرة عمليات خلط الدعاية بالأخبار التي أدارتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، فقد كُشف سنة 2005 أنّ شركة علاقات عامة صغيرة في واشنطن تعمل مع الجيش الأمريكي لزرع الدعاية في الصحف العراقية، حيث ترجمت شركة “لنكولن قروب” عشرات القصص الإخبارية التي كتبتها قوات العمليات الإعلامية الأمريكية إلى العربية ووضعتها في صحف بغداد. ومن العناوين: “مزيد من الأموال يتجه إلى تنمية العراق” و”العراقيون يصرّون على العيش رغم الإرهاب”. ومع أنّ المقالات تقوم في الأساس على الحقائق فهي لا تقدّم سوى جانب واحد من الأحداث وتحذف المعلومات التي تنعكس بالسلب على الحكومة الأمريكية أو الحكومة العراقية. ومنحت وزارة الدفاع الأمريكية عقدا مدّته 5 سنوات في منتصف 2005 تصل قيمته إلى 300 مليون دولار لثلاث شركات اتصال بهدف ضخّ “المزيد من الإبداع” في عمليات البنتاغون].
ب – تطويع الإرادة الجماهيرية: يرى هربرت شيللر في كتابه “المتلاعبون بالعقول” أنّ تـضليل عقول البشر هو أداة للقهر، فهو يمثّل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة من أجل أن يضمن المضلِّلون التأييد الشعبي لنظام اجتماعي لا يخدم في المدى البعيد المصالح الحقيقية للأغلبية. ويشير الكاتب إلى قضيّة هامة، وهي ظروف تنزيل التضليل، ويرى أنّ ارتخاء قبضة الاستبداد وعدم قدرته على ضبط زمام السيطرة المادية هي الدافع إلى استخدام سلاح التضليل فالحكام لا يلجؤون إلى التضليل الإعلامي “إلاّ عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية. أمّا قبل ذلك فلا وجود للتضليل، بل نجد بالأحرى قمعا شاملا، إذ لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع].
ج- القصور الفكري: يصف الأستاذ عبد الله الحيدري التضليل الإعلامي بعملية اغتصاب للوعي، ذلك أنّ صناعة المعنى “تنبع من قدرة القائم بالاتصال على التحكم في المناطق الدلالية لأشكال الخطاب المختلفة، اللسانية وغير اللسانية. ولكن عندما يفتقر القائمون بالاتصال إلى هذه القدرة الفكرية التعبيرية يلجأ البعض منهم إلى اعتماد التأثير بالاغتصاب. اغتصاب الوعي عبر التزييف والعبث بالقيم الأخلاقية المنظمة للعمل الميدياتيكي”. وفي تعليقه على واقعة تزييف صورة مسيرة بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة على الصفحة الأولى من جريدة “المغرب” وهي الحادثة التي عرفت بواقعة “الفوتوشوب” وأدانتها النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين في بيان تعليقا على الحادثة، يقول الحيدري: “اللجوء إلى تزييف الواقع بتأثيث جديد، يتيحه الفوتوشوب مثلا، علامة من علامات الجهل بأصول بناء الخطاب وبالحلول الفنية المشروعة لصناعة المعنى والتصرّف في إعادة بناء الواقع طبقا للأهداف المراد تحقيقها. أو إنّها في أحسن حالاتها مظهر من مظاهر الاستخفاف بالرأي العام والعبث بالمجال العام”].
4- أساليب التضليل: يتحدث هربرت شيللر عن مقتضيات التضليل الإعلامي باعتباره الأداة الأساسية للهيمنة الاجتماعية، عندئذ “تكون الأولوية لتنسيق وتنقيح الوسائل التقنية للتضليل على الأنشطة الثقافية الأخرى. من هنا تجتذب أنشطة التضليل الإعلامي، طبقا لمبادئ السوق، أذكى المواهب، نظرا لأنّها تقدّم أعلى حوافز النظام”. ويبيّن شيللر كيف تتم عملية الإيهام بالمهنية عبر ما أسماه “أسطورة الحياد”، فلكي يؤدّي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر، “لابدّ من إخفاء شواهد وجوده، أي أنّ التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضلَّلون بأنّ الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والاجتماعية والحتمية”].
وقد رصد فهد الشميمري في كتابه “التربية الإعلامية، كيف نتعامل مع الإعلام؟” جملة من الأساليب المستخدمة من أجل إيقاع المتقبل في التضليل، وهي:
الانتقائية المتحيّزة بالتركيز على حقيقة واستبعاد أخرى مرتبطة بها، التلاعب بالمعلومات وترتيب الحقائق، إهمال خلفية الأحداث، الخلط بين الخبر والرأي والتحليل والتعليق، التضليل بالمعلومات التي ليس لها علاقة بالحدث، استخدام مفردات تؤدّي إلى إصدار أحكام بالإدانة، الإيهام والتدليس في المصادر والمعلومات، إغراق الجمهور بمعلومات لا تهمّه، الإغراق بكمّ كبير جدا من المعلومات لا يستطيع المتلقي الربط بينها وتفسيرها، التضخيم والتهويل، القراءة المخادعة للإحصائيات واستطلاعات الرأي، تغيير مضمون الصورة، استخدام أسوأ وأضعف شخصية لتمثيل قضيّة ما، الحوار المشوّه بالتركيز على التفاصيل الهامشية، تكرار الفكرة الخاطئة وترسيخها].
تحليل نصّ مضلّل:
انتشر يوم الجمعة 14 أوت 2015 خبر حادثة وُصفت بأنّها “فوضى” داخل جامع الفتح بالعاصمة، رفضا للإمام المعيّن خلفا للدكتور نور الدين الخادمي. تداولت بعض المنصّات أوّل الأمر معلومات عن محاولة الخادمي اعتلاء المنبر عنوة وتعطيل إقامة خطبة الجمعة، وهو ما كذّبه في تصريح إذاعي مباشر. ثم أخذ الخبر أشكالا عدّة وصيغ على نحو توصّلنا إلى كونه قالبا جاهزا. بدأت المنقولات كالآتي: “قال رئيس النقابة التونسيّة للإطارات الدينيّة فاضل عاشور في تصريح لموزاييك، إنّ حالة من الفوضى جدت قبل صلاة الجمعة اليوم بجامع الفتح بالعاصمة مما أدى إلى تعطل أدائها. وأضاف أنّ عددا من المصلين احتجوا على قرار إقالة إمام الجامع ووزير الشؤون الدينية السابق نور الدين الخادمي الذي حاول الصعود إلى المنبر لإمامة المصلين. وأكّد فاضل عاشور عدم رفع آذان صلاة الجمعة بالجامع، داعيا إلى فتح تحقيق في الغرض. من جانبه نفى الإمام الخطيب السابق في جامع الفتح نور الدين الخادمي ما صرّح به رئيس نقابة الإطارات الدينية فاضل عاشور عن محاولته الصعود الى منبر الجامع اليوم، مؤكدا أنه لم يدخل جامع الفتح منذ 8 من أوت الجاري. كما أعلن اعتزامه تقديم قضية عدلية في الغرض ضد رئيس النقابة”. ثم كان نصّ البرقية التي نشرتها وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ):
فوضى بجامع الفتح معقل السلفيين بتونس بسبب عزل إمام ووزير سابق من حركة النهضة:
“شهد جامع الفتح أحد معاقل انصار التيار السلفي المتشدد في تونس فوضى اليوم الجمعة بسبب احتجاج عدد من المصلين ضد قرار عزل إمام الجامع ووزير الشؤون الدينية السابق عن حركة النهضة الاسلامية من منصبه.
وذكرت تقارير إخبارية اليوم إن الجامع شهد احتجاجات من قبل عدد من المصلين الذين رفضوا تنصيب وزارة الشؤون الدينية لإمام جديد بدلا من الامام الخطيب السابق نور الدين الخادمي الذي كان يشغل منصب الوزير أثناء فترة التحالف الحكومي بقيادة حزبه حركة النهضة الاسلامية بين 2011 و2013. ويعد جامع الفتح أحد أكبر الفضاءات الدينية في العاصمة ويعتبر قبلة السلفيين. وكان قد شهد محاصرة الأمن لزعيم تنظيم الشريعة المحظور سيف الله بن حسين الملقب بأبي عياض حينما تحصن داخل الجامع بين أنصاره في أيلول/سبتمبر عام 2012 قبل أن يسمح له الأمن بالمغادرة دون اعتقاله. وصرح عضو نقابة الأئمة فاضل عاشور لوسائل الإعلام أن عددا من أنصار الخادمي حاولوا تشتيت المصلين عبر دعوتهم للخروج من داخل الجامع وأداء الصلاة بجامع آخر قبل أن تتم السيطرة على الوضع. وأشارت النقابة إلى محاولات اعتلاء بالقوة لمنبر الجامع بدل الإمام المكلف من قبل الوزارة كما طالبت بفتح تحقيق لعدم رفع الآذان قبل صلاة الجمعة. وتتهم نقابة الأئمة الخادمي بإشاعة الفكر المتشدد والتشجيع على الجهاد في سورية واتباعه لسياسة المحاباة في تعيين الوعاظ والأئمة حينما كان وزيرا. لكن الخادمي نفى تلك الاتهامات” لم تنشر رواية رسمية عن هذه الحادثة المزعومة، بل لم يصدر أي بلاغ رسمي من الداخلية أو من وزارة الشؤون الدينية عن حالة عصيان بالجامع المذكور ولم تعتمد سوى بعض المواقع الالكترونية هذه الرواية، إضافة إلى أنّ الإمام الجديد المعيّن لم يُنسب إليه أي تصريح في الموضوع. سنروي ما جرى يوم الجمعة تلك بجامع الفتح وفق ما جمعناه من مصادر متقاطعة بواسطة تسجيلات المواقع الاجتماعية وتصريحات أطراف مذكورة في الخبر، وذلك كما يلي: حان وقت اعتلاء الإمام الجديد، عفيف الصبابطي، المنبر للخطبة ولم يحضر بالمسجد، وخرج أحد أعضاء هيئة الجامع إلى المصلين يعلمهم بتأخر الإمام عن القدوم، فانطلق جدل بين المصلين بحثا عن حلّ للإشكال. فمِن قائل بإقامة صلاة الظهر، وقائل بالانتظار، وقائل باختيار خطيب وقتي، وقائل بالمغادرة إلى أقرب مسجد وهناك من زكّى نفسه للخطابة.. إلخ وجرى الحديث بشكل جماعي لم يستمع فيه أحد إلى الآخر وفي الأثناء غادر بعض المصلّين (وهذا ما أطلقت عليه وكالة (د ب أ) “فوضى”. وتواصل اللغط حتى دخل الإمام على المصلّين ولم يعرفوه، واعتلى المنبر، وشرع في خطبته فنادوا عليه: مَن أنت ومن فوّضك؟ قال أنا الإمام الجديد وتأخرت بسبب تعطل حركة السير إثر خصومة بين سائقين. قيل له كيف تبدأ الخطبة دون رفع الأذان؟ فجلس، ورفع الأذان، وألقيت الخطبة وأقيمت الصلاة، وسلّم المصلّون وخرجوا في هدوء..
النصّ المفخخ:
لا يمكن المرور بهذا الخبر دون أن نشير إلى مهنية الخبر الوارد في موقع إذاعة “موزاييك”، من حيث عدم تبنّيها للرواية واعتمادها المصادر وكفالتها حق الردّ. ولكن ينتابنا الذهول أمام نصّ وكالة أنباء عالمية كلّه فخاخ، فككناها كالآتي: (معقل السلفيين/ وزير سابق من حركة النهضة/ احتجاج عدد من المصلين/ اعتلاء بالقوة لمنبر / يعتبر قبلة السلفيين/ أبو عياض سمح له الأمن بالمغادرة دون اعتقاله/ وتتهم نقابة الأئمة الخادمي/ لكن الخادمي نفى تلك الاتهامات). زرع اللغم الأوّل بواسطة العنوان “فوضى بجامع الفتح معقل السلفيين بتونس بسبب عزل إمام ووزير سابق من حركة النهضة”. فليس أفضل من هذا العنوان لتسويق الخبر في جميع أرجاء العالم. ولن تفلح عشرات الردود المكذبة في محوه من أذهان قارئيه، بل في إزالة آثاره العملية. وهذه الجملة اللغم جمعت بين السلفيين وحركة النهضة وحكومة سابقة. فالحاصل من قراءة العنوان، لديّ على الأقلّ، أنّ إمام الجامع النهضوي كان يؤطّر السلفيين ويقودهم وحزبه متورط في السكوت على ذلك. أمّا الفخّ الثاني فصداه أنّ التيار السلفي المتشدد لا يزال محكما وجوده بذلك الجامع وقادرا على قلب الموازين داخله، تحت بصر الحكومة الحالية. ويستمر مكر النصوص فنفهم من الجملة الثالثة أنّ المصلّين وأغلبهم متشدّدون متمسكون بالإمام المنتمي إلى حركة النهضة ويرونه قدوتهم، وهذا لغم ثالث. وفي الرابعة يوهمنا النصّ بوقوع جريمة وهي اعتلاء منبر بالقوة. وأكبر الفخاخ، ما فهمناه من اقتران شخصيتين هما الدكتور الخادمي النهضوي وأبو عياض الإرهابي، اللذين سيطرا معا على الجامع، فالأوّل أخرجه الوزير بطيخ بقرار والثاني أخرجه الأمن بالتسامح. وهنا يُلقى اللغم في شارع الحبيب بورقيبة على وزارة الداخلية التي سمحت للإرهابي بالخروج آمنا، لا فارّا، كما صوّرت الحادثة الشهيرة جميع العدسات.
وبعد المرور على جميع الألغام، يكتمل المشهد بعرض الدكتور الخادمي متهما، غير أنّه ضمانا للعدل والمحاكمة العادلة سمح له بكلمة واحدة، قيلت نيابة عنه “نفى”.
نصّ للفوضى:
هو نصّ “جامع مانع” وجدنا فيه ما يفسّر لنا بعض المواقف الدولية أمنيّا وسياسيّا أو اقتصاديا كما هو يفسّر بعض توجهات الرأي العام التونسي التي تصاغ إعلاميا، بكلّ “حرفيّة”. هنا لا تنقل الحقيقة كما هي، بل تُنقل الأمنيات وتتحوّل غصبا إلى حقيقة عبر النصوص. ولذلك نفسّر لماذا غابت المصادر المباشرة من برقية الوكالة الألمانية، وللأسف من هذه المؤسسة التي لم يكن مراسلها في بون أو برلين، بل كان في قلب العاصمة ولم يتنقل إلى جامع الفتح الشهير المفتوح على التوتر في أوّل جمعة يغيب فيها إمامه الخادمي. ولم يأت بدليل على انتماء نور الدين الخادمي إلى حركة النهضة، وأيّ منصب يتقلّده في مكاتبها. كان لا بدّ من “فوضى” وسلفيين” و”أبو عياض” و”حركة النهضة” و”الجهاد في سوريا”.. فتم ملء الخانات الفارغة بعد خيبة الانتظار إذ لم يكن هناك “فوضى”. كان تقرير “أخلاقيات العمل الصحفي” الذي أصدرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في جانفي 2014 كاشفا للانتهاكات كاسحا لكل ألغامها، ولم يعتدل معظم صنّاع الخداع، كما وصفهم التقرير الذي لخّص ما تعرض له ملايين الضحايا من التونسيين: “هذه المدرسة يبقى من أبرز خاصياتها عناوين الخداع والكذب وهو أمر له انعكاس سلبي كبير على الرأي العام نظرا لأنّ محتوى الجريدة قد يطّلع عليه خمسة آلاف أو عشرون ألف شخص، أمّا العنوان المخادع أو الكاذب فيطلع بحكم عرضه في واجهات الأكشاك ملايين التونسيين. وبالتالي يكون ضرره كبيرا وعميقا جدّا].
حسب نتائج دراسة علمية قامت على تحليل 63 ميثاقا أخلاقيا، تتلخص مسؤولية وسائل الإعلام نحو المجتمع في جملة من النقاط:
– حق الجمهور في معرفة الحقيقة (أقره الفصل الأول من ميثاق الشرف التونسي).
– إدارة المناقشة بكل حرية والعرض المتوازن لآراء الأطراف. (الفصل 8 من الميثاق).
– الدفاع عن مصالح المجتمع بما في ذلك كشف الفساد والانحرافات وسوء استغلال السلطة. (غائبة من الميثاق).
– احترام حق المجتمع في إدارة العدالة ويشمل عدم محاكمة المتهم بواسطة الرأي العام وعدم التأثير في القضاء. (لا يوجد في الميثاق التونسي)].
إنّ عدم احترام هذه المبادئ القائمة على ربط المهنية بالمسؤولية هو الذي يفتح الباب للانتهاكات والخروقات التي تُصنّف في باب التضليل الإعلامي الذي يقود الحروب الدولية وحالات التحارب والتنافر الأهلية. وإذا كان أهل المهنة قد تخلّوا عن دورهم في الإصلاح أو عجزوا عنه، قد يكون الدور على الجمهور وبعض النخب للاضطلاع بهذه المهمّة. وتحت عنوان “لا تيأسوا أصلحوا وسائل الإعلام” يقترح مشروع مؤسسة “مراقب” الأمريكي استراتيجية لـ”الدفاع الإعلامي عن النفس” لتخليص المجتمع من التلفيق، عبر الخطوات الآتية:
– زوّدوا أنفسكم بالمعلومات عن المجموعات والأجندات العامة وشركات العلاقات العامة وجماعات الضغط والمراكز البحثية.
– ردّوا على وسائل إعلامكم.
– طالبوا بحلول سياسية: بالضغط عبر السلطة التشريعية لكشف التزييف الإعلامي الحكومي، مثلا.
– ادعموا الشركات الإعلامية المستقلّة وكونوا جزءا منها.
– انشروا الرسالة التي تقول إنّ إصلاح الديمقراطية يتطلب إصلاح وسائل الإعلام”].