8 أبريل، 2024 7:22 م
Search
Close this search box.

الصدفة.. تقود للقاء “المرجع الأعلى”

Facebook
Twitter
LinkedIn

في زيارة تأجلت كثيرا، غادرنا العاصمة بغداد متجهين لمدينة النجف، وبعد رحلة استمرت لمدة ساعتين او اكثر بقليل وصلنا لتلك الارض الرملية التي يزدحم واديها بالقبور.. أخذني الفضول لدى وصولنا البوابة الخارجية لمرقد الإمام علي (ع)، إلى البحث عن شارع الرسول الذي يقطنه المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، كوني سمعت بأنه يستقبل الناس يوميا، وقد تكون هذه الفرصة المناسبة لمقابلته.

انطلقنا بعدها في محيط مرقد وصي الرسول، حيث الأزقة الضيقة، نسأل هنا وهناك فاهتدينا لمكان الشارع، فدفعني الفضول مرة أخرى لتوثيق تلك اللحظة من خلال كاميرا الهاتف النقال، بعدها قطعت التصوير حينما شاهدت مجموعة من الناس يتجمهرون عند مدخل احد الازقة، اقتربنا منهم واذا بحاجز امني يقف عنده عدد من رجال الامن ، يطالبون المتجمهرين بالانتظام بصف واحد، اخرجت هاتفي مرة اخرى ومنحت الكاميرا الموافقة بتصوير مدخل الزقاق الضيق والحاجز الامني، مع ابتسامة واضحة وكلمات تعليق ترافق عملية التصوير تعرف بالمكان وطبيعته (الزقاق المؤدي لمنزل المرجع الاعلى).

أغلقت الهاتف وقبل الاستدارة للمغادرة، احسست بيدٍ تمتد على كتفي وبصوت خافت تحدث بأذني، (هل تستطيع حذف التصوير) اجبته باستغراب.. ماهو السبب.. فرد باسلوب هادئ وصوت لا يسمع منه سوى الهمس.. يمنع التصوير هنا لاسباب امنية.. وترك الباب مفتوحا للموافقة على حذف التصوير من عدمه، لكنه تحدث بعبارات اخجلتني بسبب الطريقة المهذبة، فوجدت نفسي احذف التصوير ومن دون تردد.. في تلك الاثناء تمكن زميلي في هذه الرحلة من الحصول على فرصة لدخول منزل المرجع الاعلى وتجاوز مقلدي المرجع الذين كانوا ينتظرون دورهم منذ عدة ساعات، وهم خليط كبير من جنسيات مختلفة، حتى أن بعضهم كان يُظهر جوازات خليجية، لاعتقادهم بأن ذلك سيسهل تحقيق رغبتهم سريعا بلقاء السيد السيستاني، وبعد دقائق لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، نودي باسمي، فأدركت حينها أن هويتنا الصحفية تركت اثرها لدى مكتب المرجعية فاختار السماح لنا بالدخول واستثنائنا من هذا الطابور الطويل.

تجاوزنا الحاجز الاول واستقبلنا رجل دين بعمامة سوداء ووجه بشوش مع كلمات ترحيب.. (اهلا بالصحفيين واهلا بالقادمين من بغداد) ثم صافحني واخذ يسألني اين تعمل باي فضائية واين تسكن في بغداد، بعبارات لا تخلو من بساطة الحديث وعذوبة اللسان، فكانت إجابتي بوضوح ومختصرة، حينها قادنا لحاجز تفتيش ثان وثالث قبل الوصول لغرفة صغيرة شبيهة بالدكان تدعى (الامانات) يقف في داخلها أحد عناصر الأمن، الذي طلب منا تسليم جميع حاجياتنا والبقاء بالملابس فقط، عاد رجل الدين المعمم صاحب الابتسامة لاصطحابنا مجددا، لكن هذه المرة مباشرة لبوابة منزل المرجع الاعلى، التي تمتاز بصغر حجمها قياسا بابواب منازلنا الخارجية، دخلنا المنزل برفقة رجل الدين وبخطوات هادئة تترقب الخطوة المقبلة، عندها توقف رجل الدين ليعرفنا على رجل يرتدي العمامة السوداء وكمامة تغطي نصف وجهه، وبزي ديني تبدو عليه الاناقة، فهمس رجل الدين باذنه بضع كلمات، ليلتفت باتجاهنا ويمد يده للمصافحة بحرارة، استقبلت يده وضممتها بقوة مع نظرة مباشرة للجزء الظاهر من وجهه، واذا بالرجل (محمد رضا السيستاني) الابن الاكبر للمرجع الاعلى، ادخلنا لوسط الدار بفسحة تحيط بها اربع غرف، واشار علينا بالجلوس في المقدمة، وعلى اريكة منفصلة عن بقية الحضور.. كان هناك بالقرب من السيد محمد رضا شاب يرتدي البدلة الرسمية يستقبل الخارجين من احدى الغرفة ويضع بيدهم قطعة معدنية، حينها استذكرت حديثا لاحد الزملاء كان يزور المرجع الاعلى سابقا اخبرني ذات مرة بان من يدخل للقاء السيد السيستاني من المواطنين حينما يخرج يضعون بيده هذه قطعة كتذكار للزيارة.

وبعد انتظار لعدة دقائق قد تكون عشر او اقل بقليل، لاننا لا نستطيع تقدير الوقت بشكل مضبوط بسبب تجريدنا حتى من الساعات اليدوية، وعند الاكتفاء من شرب الماء والشاي الذي قدم لنا، وبطريقة ميزتنا عن بقية الحاضرين، اقترب السيد محمد رضا واشار علينا بالدخول لاحدى الغرف، مع كلمة (السيد بانتظاركم)، في طريقة اثارت فضولي.. لان.. جميع من ينادونهم للدخول يذهب الشاب الذي يرتدي البدلة الرسمية او اي شخص اخر، وليس نجل المرجع الاعلى كما فعلها معنا، توقفت لعدة ثواني بعدها ادركت ان مهمة الصحفي قد فعلت فعلتها، اصابتني الدهشة في البداية، لكنني دخلت مسرعا لتلك الغرفة، لاجد رجلا كبيرا في السن يجلس على اريكة في زاوية قريبة بعمامة سوداء وملامح هادئة ونظرات تدخل الطمأنينة للقلوب ولحية غلب فيها البياض على السواد، رفعت صوتي بالسلام واذا بنبرة خفيفة ترد.. وعليكم السلام، لم استطيع حينها الجلوس بسبب انشغالي بتلك النظرات.. حينها تدخل شخص كان يقف مع اربعة اخرين في الغرفة ذاتها، واختار لي مكانا للجلوس يبعد عن المرجع الاعلى مترا واحدا او اقل.. فاصبحت قريبا جدا وبامكاني سماع الصوت الهادئ الذي اتعبته مسؤولية حفظ حقوق الملايين حول العالم.. فكانت بداية حديثه.. (نرحب باهل بغداد وندعو الله ان يحفظهم ويحفظ جميع العراقيين، ليكمل حديثه بعدة وصايا.. منها.. اثبتوا على الحق فانتم اهل علم وثقافة وحافظوا على دينكم كما فعلتم سابقا في ايام العثمانيين والانكليز، وبين كلمة واخرى يدعو لتوحيد الكلمة لتجاوز الاخطار وكررها اكثر من مرة، من دون ان اعرف الغاية منها)، استمر حديث المرجع الاعلى معنا لنحو دقيقتين اغلبها كانت دعاء لحفظ العراق واهله، ولم اجد الفرصة لطرح حتى سؤال واحد بسبب انشغالي بالنظر لوجهه واللغة العربية السليمة واللسان الفصيح الذي يتحدث به، ومع نهاية حديثه الذي ختمه بدعوة للعراق والعراقيين وضرورة توحيد مواقف، اقترب السيد محمد رضا، ففهمنا بان مدة الزيارة انتهت، عندها نهضت من مكاني وبادرت بتحية المرجع من نفس المسافة التي كنت جالسا فيها، ونظراتي لا تفارق نظرات المرجع الاعلى حتى وصلت باب الغرفة ليودعنا السيد محمد رضا بهدية وصفها بالبسيطة تذكرنا بالزيارة، وهي عبارة عن خاتم من الفضة الخالصة مع حجر در النجف.

خرجنا من منزل السيد علي السيستاني بينما كان العديد من الزائرين ينتظرون دورهم لكننا كسبنا فرصة اللقاء بالمرجع الاعلى منفردين وليس على شكل مجموعات كما سمعنا من الحاضرين، وهنا لابد من قول كلمة حق، فتعامل مكتب المرجع الاعلى وانشغال نجله الاكبر باستقبالنا وتوديعنا، عكست حقيقة ثابتة عن طريقة تعامل المرجعية مع الصحفيين ووسائل الاعلام، حتى من دون وجود موعد مسبق للقاء، وعلى الرغم من غياب التخطيط لهذا اللقاء الذي حصل بالصدفة، لكنني ادركت جيدا لماذا يقلد الملايين حول العالم رجلا يسكن بزقاق ضيق ومنزل بسيط، انها الصفة التي زرعها الله في تلك الشيبة، فمن تواضع لله رفعه.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب