شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولًا جذريًا في طبيعة الإعلام، أطلق عليه “الصحوة الإعلامية”. هذه الظاهرة ليست مجرد تطور تقني، بل هي حالة من الوعي المتزايد بقوة الإعلام وتأثيره في صناعة الرأي العام، إلى جانب تحريره من القيود التقليدية التي كانت تحدّ من وصول المعلومات إلى الجمهور. منذ ظهور وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف والإذاعة والتلفزيون، كانت الحكومات والجهات المسيطرة تتحكم في تدفق المعلومات. لكن مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تغير المشهد الإعلامي بشكل غير مسبوق، مما سمح للأفراد بالتأثير على مجريات الأحداث والتفاعل معها بطريقة مباشرة، وهو ما نراه اليوم في العديد من التحولات السياسية والاجتماعية حول العالم.تعني الصحوة الإعلامية حالة من الوعي المتزايد بأهمية الإعلام ودوره في التأثير على المجتمعات. هذا المفهوم يشمل:التطور التكنولوجي السريع الذي أتاح وصول المعلومات للجميع بسرعة غير مسبوقة. وتحرر وسائل الإعلام من سيطرة الحكومات والمؤسسات التقليدية، وظهور الإعلام البديل. بالإضافة الى تعزيز حرية التعبير وإتاحة الفرصة للأفراد للمشاركة في إنتاج المحتوى الإعلامي.وظهور الإعلام التفاعلي الذي يسمح للجمهور بالمشاركة في المحتوى، بدلًا من كونه متلقيًا سلبيًا فقط.
ومن أهم معالم هذه الصحوة انتشار الصحافة الرقمية، ومنصات التواصل الاجتماعي، والتغطية الإعلامية غير التقليدية للأحداث الكبرى، مثل الحروب والثورات والكوارث الطبيعية.
أحد أبرز العوامل التي أدت إلى الصحوة الإعلامية هو التقدم التكنولوجي، خاصة الإنترنت والهواتف الذكية. هذه الأدوات غيرت طريقة استهلاك الأخبار، فبدلًا من انتظار النشرة الإخبارية أو قراءة الصحيفة في اليوم التالي، أصبح بإمكان أي شخص متابعة الأحداث لحظة بلحظة عبر الهاتف أو الحاسوب.
على سبيل المثال، خلال ما سمي بـ (الربيع العربي (2010-2012) ، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب دورًا رئيسيًا في نشر الأخبار، وتوثيق الأحداث، وتنظيم الاحتجاجات. فبينما حاولت الحكومات التقليدية فرض رقابة على وسائل الإعلام الرسمية، تمكن النشطاء من استخدام الهواتف الذكية لنقل الحقيقة إلى العالم.
في الماضي، كانت الحكومات والنخب الاقتصادية تتحكم في وسائل الإعلام، مما جعل الأخبار تخضع لرقابة مشددة. لكن مع ظهور الإنترنت، فقدت وسائل الإعلام التقليدية احتكارها للمعلومة.
مثلًا، في عام 2013، سرب إدوارد سنودن، الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية، وثائق تكشف عن عمليات التجسس التي تمارسها الولايات المتحدة على المواطنين. هذا التسريب لم يتم عبر الإعلام التقليدي، بل عبر منصات إلكترونية مستقلة مثل “ذا غارديان” و”واشنطن بوست”، مما يعكس كيف أن الصحوة الإعلامية سمحت بانتشار المعلومات التي لم يكن من الممكن نشرها سابقًا. لم يعد الإعلام محصورًا في الصحفيين المحترفين، بل أصبح بإمكان أي شخص يمتلك هاتفًا ذكيًا وحسابًا على وسائل التواصل الاجتماعي أن يكون صحفيًا يوثق الأحداث وينقل الأخبار. على سبيل المثال، خلال حادثة مقتل جورج فلويد في 2020، كان الفيديو الذي صوره أحد المارة هو السبب في اندلاع احتجاجات عالمية ضد العنصرية، مما يوضح كيف يمكن لمواطن عادي أن يغير مجرى التاريخ عبر الإعلام الجديد.
شهدت العقود الأخيرة تحولات سياسية كبرى، مثل الثورات، والاحتجاجات، وحركات حقوق الإنسان. في كل هذه الأحداث، لعب الإعلام الجديد دورًا في إيصال أصوات الجماهير للعالم.
على سبيل المثال، خلال الأزمة السورية، لعبت منصات مثل يوتيوب وتويتر دورًا في توثيق جرائم الحرب، حيث تمكن المواطنون من نشر مقاطع فيديو من داخل مناطق النزاع، مما جعل الإعلام العالمي يعتمد عليهم كمصادر موثوقة للأخبار.
أصبحت الصحوة الإعلامية عاملًا رئيسيًا في كسر حاجز الخوف من الأنظمة القمعية. لم يعد بإمكان الحكومات إسكات المعارضين بسهولة، حيث يستطيع أي شخص نشر آرائه عبر الإنترنت.ولم يعد الجمهور يعتمد فقط على وسائل الإعلام التقليدية، بل أصبح يبحث عن مصادر متنوعة، ويتحقق من صحة الأخبار بنفسه. أدى ذلك إلى ظهور مفهوم “الوعي الإعلامي”، حيث أصبح الأفراد أكثر قدرة على تمييز الأخبار المضللة من الأخبار الحقيقية.
بفضل الصحوة الإعلامية، لم تعد الشعوب مستهلكة سلبية للأخبار، بل أصبحت عنصرًا فعالًا في التغيير الاجتماعي والسياسي. على سبيل المثال، حركة MeToo التي بدأت في الولايات المتحدة عام 2017 كشفت عن قضايا التحرش والاعتداء الجنسي في أماكن العمل، مما أدى إلى إسقاط العديد من الشخصيات البارزة وإحداث تغييرات في القوانين والسياسات.
رغم الفوائد العديدة، أدت الصحوة الإعلامية إلى انتشار الأخبار الكاذبة، مما أثر على الانتخابات والسياسات العامة. مثلًا، خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، تم الكشف عن حملات تضليل إعلامي عبر فيسبوك أدت إلى توجيه الرأي العام بشكل كبير.
في المستقبل، من المتوقع أن تستمر الصحوة الإعلامية في التطور، مع التركيز على: دور الذكاء الاصطناعي: سيساعد الذكاء الاصطناعي في كشف الأخبار الكاذبة وتحليل البيانات الإعلامية. والتحول إلى الإعلام المخصص: ستستمر المنصات الإعلامية في تقديم محتوى مصمم خصيصًا لكل مستخدم بناءً على اهتماماته. فضلا عن تعزيز الصحافة التشاركية: سيزداد دور المواطن الصحفي في نقل الأخبار والمعلومات.
الصحوة الإعلامية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي تغيير جذري في طريقة التواصل ونقل المعلومات والتفاعل مع الأحداث. لقد سمحت بزيادة الوعي، وتعزيز حرية التعبير، والمشاركة في صناعة القرار، لكنها في الوقت نفسه تفرض تحديات تتعلق بالمصداقية والأخبار الزائفة.في النهاية، السؤال الذي يبقى مفتوحًا هو: كيف يمكننا تحقيق توازن بين حرية الإعلام والمسؤولية في نشر المعلومات في هذا العصر الرقمي؟