للكاتب عدنان سمير دهيرب
يأتي الإصدار الثالث للأديب والإعلامي والباحث عدنان سمير دهيرب” الصحافة وأثرها في تشكيل اتجاهات الرأي العام .. النموذج العراقي في المشروع الأمريكي” إستكمالاً لمشروعه الفكري ، فبعد أن وثق لتاريخ محافظة المثنى السياسي ، الاجتماعي والتاريخي عبر كتابيه” شذرات من تاريخ المثنى” و” السماوة بين إحتلالين” يستمر دهيرب في رصده ومتابعته للمتغيرات التي شهدها العراق بعيد الغزو الأمريكي وسقوط النظام الشمولي في بغداد بعد العام 2003.
المنجز الجديد للكاتب يقع في (328) صفحة من القطع الكبير وصدر عن المؤسسة الحديثة للكتاب في لبنان (2016)، قدم له الدكتور عبد السلام أحمد السامر ( عميد كلية الإعلام- جامعة بغداد سابقاً).. يقول السامر في مقدمته للكتاب:
” إن مثل هذه الدراسة بلا شك ، تكون وسيلة مهمة لتقييم أداء الصحفيين ومعرفة مدى كفاءتهم الإعلامية ومدى قدرتهم على أحداث التغيير وبناء الإنسان فكرياً بما ينسجم مع التطورات الحاصلة من خلال رفده بمعين ثرَ من المعلومات في جميع مجالات الحياة ولاسيما القضايا السياسية وتطوراتها على المستويات الوطني والقومي والعالمي لتغدو أحدى الأدوات المهمة والفاعلة في تشكيل اتجاهات الرأي العام إزاءها”.
ويضيف السامر” إن هذا الكتاب، هو بالأصل رسالة أكاديمية يتناول دراسة موضوع مثير وهام في مرحلة حساسة، بوصفه يبحث في روافد بناء التجربة الديمقراطية والتحول من النظام الاستبدادي إلى النظام التعددي وانعكاساته على بنية المجتمع وصناعة الإنسان الجديد من خلال الصحافة التي تعد أحد العوامل الفاعلة في عملية التغيير السياسي الذي يشهده العراق، ومدى إفادة قادة الرأي العام العراقي في مرحلة تشهد متغيرات وتداعيات تسهم في صياغتها عوامل داخلية وخارجية تتطلب جهداً إضافياً من العاملين في حقل الإعلام للتأثير على اتجاهات الرأي العام”.
ويمضي الدكتور عبد السلام السامر إلى القول” الكتاب يعد ضمن سياقات دراسة الوسيلة والجمهور في آن واحد، فهو يتصدى لدراسة الصحافة العراقية في حقبة هامة من تاريخ العراق السياسي الذي شهد تحولاً كبيراً تمثل بإسقاط نظام الحكم الدكتاتوري، الذي كان فيها مهيمناً على كل مفاصل الدولة بما فيها من وسائل التأثير على الرأي وفي مقدمتها الصحافة التي احكم سيطرته عليها وسخرّها لنشر سياساته ، ليشهد البلد بعد العام 2003 تجربة جديدة تمثلت بإرساء الديمقراطية التي اختلطت بالفوضى السياسية بفعل إنهيار مؤسسات الدولة نتيجة الاحتلال الأمريكي لاسيما في السنوات الأول من الاحتلال وماشهده من موجة كبيرة في إصدار الصحف جسدت مجالاً للتنفيس وتفريغ الاختناق والضغط الذي طالما عانى منه العراقيون طيلة العقود الثلاثة المنصرمة ، وهذا الإصدار الواسع كشف عن اتجاهات مختلفة وتنوّع في الخطاب وأحياناً الرغبة الشخصية المجردة للإفادة من فضاء الحرية الذي ساد بعد سقوط النظام السابق
وإيجاد روافد للتواصل مع المجتمع، وجمهور يبحث عن إشباع حاجاته في وسائل إعلام متعددة التوجه والخطاب”.
إن الكتاب بفصوله الأربعة النظرية والعملية يفيد المختصين والمعنيين بالصحافة وعلاقتها بالرأي العام سيما العراقي منه ، مع شحة تناول المختصين لهذا المحور ، إضافة إلى انه يفيد قادة الرأي العام العراقي ، هؤلاء – القادة- الذين يهمهم معرفة الواقع الجديد وكيفية صناعة قاعدة جديدة يكون للصحافة دور وتأثير فيها على الاتجاهات إزاء القضايا السياسية والأحداث والوقائع التي تجري في العراق والوطن العربي ، ومدى الإفادة منها في المستقبل ، إذ إن الباحث عدنان سمير دهيرب خرج بنتائج عملية جديدة أستندت على منهج علمي سليم ، في تناول المعلومات النظرية أو في بناء استمارة الاستبيان واستعمال الوسائل الإحصائية في تحليل ومعالجة البيانات وتفسيرها ومن ثم الاستنتاج العلمي لبناء مثل هذه النتائج العلمية التي ختم بها الدراسة.
ومن حيث الأسلوبية والرصانة العلمية ظهرت الدراسة الموسومة ( الصحافة وأثرها في تشكيل اتجاهات الرأي العام. النموذج العراقي في المشروع الأمريكي ) بأسلوب علمي رصين من حيث اللغة المستعملة والدقة في وصف المعلومات ، وهذا ينم عن فهم وثقافة الباحث وملكة التعبير عن الظواهر الإعلامية والسياسية التي يشهدها تأريخ العراق المعاصر ولاسيما المرحلة الحالية إثر الاحتلال الأمريكي التي استفاض فيها الباحث بوصفه صحفياً ومهنياً استفاد من تجربته الشخصية ليوظفها في بحثه علمياً.
وكي نضع القاريء في الصورة،فالكتاب جاء بأربعة فصول كرّس الفصل الأول لسرد المتغيرات في المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعراق عبر ثلاثة مباحث ، رصد المبحث الأول منها ديناميات التحول من الاستبداد نحو الديمقراطية ، فيما كان المبحث الثاني متخصصاً للحديث حول اقتصاد أحادي واستنزاف محلي وعالمي ،أما المبحث الثالث فقد تحدث عن التنوع الاجتماعي والثقافي والأزمة المذهبية ، وبطبيعة الحال فقد أغنى الباحث ( المؤلف ) هذا الفصل بشتى المعلومات والتفاصيل وبدقة عالية ، حيث أعانته ثقافته واطلاعاته الواسعة على ترصين رقعة البحث ورفدها بما يلزم من بيانات وتفاصيل، كما إن استعانته بمجموعة كبيرة من الأبحاث والرسائل والاطاريح ( بعضها غير منشور) فضلاً عن مصادر ومراجع محترمة، أذكت نقاط ضوء مهمة وكشفت عن حقائق يحتاجها القارئ الواعي لتوضيح الصورة وإيصال المعلومة بوضوح ودقة وأمانة ، ولعل الرجوع إلى خلفيات وكواليس مشروع الشرق الأوسط الجديد عبر إماطة اللثام عن حقائق قد يجهلها البعض مع كثير من الشرح والتفصيل، لأكبر دلالة على جدية الباحث وأهتمامه بوضع أصبعه على مكامن ومفاصل أسرار مرحلة هامة مرّ بها العراق والمنطقة بشكلٍ عام.
ثم تدرج المؤلف بسرد وتوثيق القرارات التي أطلقتها سلطة الأحتلال في عهد بريمر وتأثيراتها الواسعة على شرائح ومكونات المجتمع العراقي ( سلباً أو ايجابياً) مثل حظر حزب البعث، وحل الكيانات ( ومنها وزارة الإعلام) والتشكيلات العسكرية والأمنية وما أسفر عنه من ” إطلاق المخزونات العنفية في المجتمع ” حسب تعبير المؤلف ، حيث شهد العراق 6439 عملية إرهابية مابين 1991-2010 وبمعدل(12و1%) من العنف العالمي وبلغت ذروة تلك العمليات
في العام 2007 حيث شكلت (32و9%) من إجمالي العمليات في العالم، ولاسيما بعد تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء وماتبعه من حملات عنف وتهجير ونزوح … الخ .
وقد أدى الصراع والاقتتال والعنف خلال العام 2014 إلى مصرع (15) ألف مدني وعسكري فضلاً عن أصابة (23) ألف شخص، وهذه الأرقام تعد الأعلى والأكثر دموية منذ العام 2007.
أما الفصل الثاني من الكتاب ( البيئة الصحفية في العراق) والذي جاء بمبحثين أولهما هو الصحافة العراقية قبل وبعد الأحتلال الأمريكي (تطور تاريخي) والثاني هو التشريعات الإعلامية في العراق ،فهو اكثر الفصول أهمية لكونه يلقي نظرة تاريخية وتوثيقية مهمة على تاريخ حافل، فكما هو معلوم عرف العراق الصحافة المطبوعة منذ العام 1869 حيث كان يرزح تحت السيطرة العثمانية ، مروراً بالأحتلال البريطاني(1914-1917) للعراق ثم تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 وحتى خروج الانجليز وقيام الجمهورية الأولى ،فالثانية فالعهد البعثي ولغاية سقوط بغداد والاحتلال الأمريكي 2003.
ولابد من الاشادة بجهد الباحث في رصد أبرز الظواهر للصحافة العراقية طيلة قرن ونصف تقريباً وتشخيصه لأبرز المظاهر والعلل التي انتابت الجسد الصحفي في العراق وسمات الصحف وأبعادها أنئذٍ. ولم يكتف عدنان سمير دهيرب بذلك، بل عنى عناية كبيرة بدراسة التشريعات الخاصة ببلاط صاحبة الجلالة، فبدون إطار قانوني يكفل الحرية بممارسة العمل الصحفي لايمكن أن يكون هناك صحافة فاعلة ولايمكن أن ينشأ رأي عام مجتمعي.
وبرغم إن ثمة تشريعات عديدة قد صدرت في العراق، لكنها كانت على الدوام” تصطدم بقرارات الحكومة ونهايات النص المقيدة( في حدود القانون)، لان مستوى حرية الصحافة ماهو إلا انعكاس لطبيعة النظام السياسي في الدولة “.
وقد وقع الإعلام العراقي في فخ المنازعات والصراعات السياسية والحزبية والطائفية والفئوية لأسباب ترتبط بخلفيات بعض الأحزاب واجندتها الخارجية، وعدم استيعاب الكثير منها للفكرة الحزبية في العراق ومحاربة الديمقراطية. وساهم قرار الحاكم بريمر الذي أصدر القانون رقم 7 لسنة 2003 في أحداث فوضى عارمة حيث ألغى المسؤولية عن جرائم النشرالواردة في قانون العقوبات 111 لسنة 1969 المعدّل.
وبرغم قيام مجلس النواب العراقي بتشريع قانون حقوق الصحفيين في 9 آب 2011 الذي يهدف في مادته الثانية إلى ( تعديل حقوق الصحفيين وتوفير الحماية لهم) لكن معدلات استهداف الصحفيين والاعتداء عليهم وانتهاك خصوصيتهم وترهيبهم والضغط عليهم استمر بمعدلات مرعبة ، فضلاً عن إيقاف عمل مؤسسات إعلامية كثيرة من صحف ومطبوعات وإذاعات وقنوات تلفزيونية وفضائية.
أما الفصل الثالث من الكتاب، فقد تمحور حول الصحافة ودورها في تشكيل الرأي العام، وجاء بمبحثين أيضاً، عني الأول بتعريف الرأي العام وأنواعه وتصنيفاته والعوامل المؤثرة في تكوينه وخصائصه . فيما سرد المبحث الآخر علاقة الصحافة العراقية بالرأي العام وعلاقة ذلك ببواكير الوعي السياسي المتمثلة بثورة العشرين التحررية حيث شاركت معظم القوى من شتى
المذاهب والقوميات والمناطق لمساندة تلك الثورة الكبرى،كما تطرق الكاتب إلى ظهور الصحافة المعارضة وصحافة الرقابة الشعبية التي تراقب السلطة السياسية والحكومة،وقد ساهم الرأي العام المعارض بقيام انتفاضات جماهيرية عنيفة مثل 1956،1952،1948 وغيرها ضد المستعمر أو الأحلاف والتكتلات التي أقامتها الحكومة العراقية وغير ذلك من القضايا.
وأجمل الباحث أهم العوامل التي أدت إلى فاعلية وتكوين الرأي العام العراقي والتي من أبرزها: الأحزاب والحركات السياسية ،التدخلات الدولية والإقليمية ، الصحافة، الدين ومنظمات المجتمع المدني.
أما الفصل الرابع والأخير وهو الجزء التطبيقي في البحث أو الدراسة فقد خصصه الباحث للحديث عن الصحافة العراقية وأثرها في تشكيل اتجاهات الرأي العام وهي دراسة ميدانية جاءت معطياتها وفقاً لنتائج الاستمارات التي وزعها الباحث على الجمهور معتمداً التحليل الإحصائي بشكل علمي مبوب.
ولن نتكلم عن نتائج هذا التحليل الإحصائي، بل ندعوكم لقراءة الكتاب الذي يشكل إضافة مهمة للمكتبة الإعلامية العراقية ولطلبة الإعلام تحديداً والباحثين عموماً.
ولايفوتنا ان نشيد بجهد الكاتب والإعلامي عدنان سمير دهيرب التدريسي بجامعة المثنى الذي كرّس شهوراً طويلة من وقته وجهده وصحته للخروج إلينا بهذا البحث الموسوم والجهد الفكري الذي سيثري مكتباتنا بمعلومات وحقائق بشكل مهني عالي ومحايد..