22 ديسمبر، 2024 11:36 م

الشُهداء … تضحياتٌ تذكر، وحقوقٌ منسية

الشُهداء … تضحياتٌ تذكر، وحقوقٌ منسية

لم نكُن لنتذوق طعم الإنتصار؛ لولا تلك التضحيات الجسام، لجنودٍ أشاوس، فقدوا أرواحهم، ليهبونا حياة وبقاءاً، وذرفت أمهاتهم دموع حُزن ومرارة على فقدِ فلذات أكبادهُنَ؛ لنذرف دموع فرحٍ بإنتصارٍ هم صانعيه، بل وحتى دموع أفراحِنا بهذا الإنتصار العظيم، لهي دموع حُزن ولوعة جرت على وجناتِ الثكالئ من أمهاتِهم، والأرامل من أزواجِهم، والأيتام من أطفالِهم لفقدِ أحبتهم، وبقاء صورهم فقط لا غير، وجريً بطولاتهم وشجاعتهم وتضحياتهم كمجرى الإمثال في مجالسنا ومحافلنا.

أولئك الشُهداء، الذين خرجوا دفاعاً عن وطنٍ جريحٍ تكالبت عليه قوى الشر والظلام، ودَسَ السُمَ في دوائهِ من أرتدى ثوب الطبيب، خرجوا مضحين لوطنهم، وهم لا يملكون فيه بيتاً يأوي أطفالهم الحُفاة، سوى جُدران الطين بسقوفِها وأبوابها الصفيح ـ إن كان لبعضهم بيوتاً بالأساس ـ، أثقلوا أكتافهم صواريخاً وقذائفاً، ولم يُثقلوها بالرتبِ الرفيعة، لم تُملئ صدورِهم بأوسمةٍ أو أنواط تكريم، بل مُلئت رصاصاً، بعد إن لبسوا القلوبَ على الدروعِ، سطروا أعظمَ ملحمة وبطولة، بردِ وسحق أعتى وأقذر وأشرس عصابة عرفها تأريخ البشرية في القرنِ الحادي والعشرين، تنظيم داعش المتطرف، ودولة الإجرام اللاإسلامية، ونصعت بهممِهِم وعزيمتِهم مرة أخرى صورة الإسلام المُحمدي الأصيل، بسحقِ الإسلام الداعشي الدخيل، حطموا أسطورته، وأذلوا خليفته، كسروا سلطانه، وتداعت بضرباتِهم أركانه، وأظهروا للعالم زيفهُ وكذبهُ وبهتانه.

بدمائِهم الزكية، رسموا أعظمَ لوحةٍ بألوانِ العزِ والكرامة والمجد، أسمُها العراق، وعبدوا الطريق نحو الحدباء، هبوا ملبين نداء الوطن والدين من كلِ حدبٍ وصوبٍ؛ فخطوا بدمائِهم أعظم نصرٌ على صفحاتِ التأريخ المعاصر، سيبقى ـ هذا النصر ـ درساً تأريخياً تنهلُ منه الأجيال كؤوس حُب الأوطان والدفاع عنها، والتضحية في سبيلهِ، شجعانٌ تقاسموا الرحمة والأُلفة فيما بينهم، وأشتركوا على الأعداءِ في شدتِهم، هؤلاء الأبطال، ألا يستحقُ كل واحدٍ منهم نصباً تذكارياً باسمـهِ، أو لنقُـل ـ على أقلِ تقديرٍ ـ مسرحاً خاصاً بهم، يحوًي عدتِهم وملابسهم، سيرهم الجهادية، وحاجياتهم البسيطة كبساطةِ عيشهم ؟؟؟!!!، فلو كان الأمرُ بيدي وكنتُ قادراً على ذلك لجعلتُ حتى الأماكن التي تقاطر عليها دمهم تُراثاً حضارياً تأريخياً، يقصدهُ الزائرين والضيوف؛ ليشاهدوا كيف تيَبست قطرات الدماء تلك على الأرض، دون أن يُمحى أو يُزال أثرُها؛ ليبقى ذكرهم حياً، وليبقى الدرسَ ماثلاً أمامِنا نتخذُ العبرة منه، وعدم الرجوع إلى الوراءِ مرة أُخرى.

ثم دعونا نتسائل، أليس لهؤلاء الشُهداء حقوقاً وواجبات لعوائِلهم علينا ؟!!. فلماذا ما زالَ الأعـم الأغلب من ذويهِم وعوائِلِهم يقفُ مُنتظِراً مُتوسِلاً في طوابير المُصطفينَ على نوافذِ الدوائر الحكومية؛ علها تتفضلُ عليهِم بإنجاز معاملاتِهم ومنحهم حقوقهم التقاعدية، ومنهم الكثير الكثير ممن لم تتسلم عائلتهُ مستحقاتِها حتى اللحظة.

إن خطر تلك العوائل العوائل بأيتامِها وأراملِها وثكلاها لهو أشدُ خطراً من هذه الحرب، والتي كانت ـ أقصد الحرب ـ سبباً في هكذا نتيجة، وهو سبب أخر يقودنا إلى نتيجةٍ أُخرى، تُهدد نسيج المجتمع وتماسكه، وتقوض بنيانهُ المُتصدع ـ أصلاً ـ من جراءِ الحروب التي فُرِضت علينا، بل وسريان أمراض إجتماعية أخرى جديدة، قد يصعبُ علاجُها أن لم تُعالج منذُ تشخيصِها. فماذا ننتظرُ من إهمالِنا لتلك العوائل ؟ آلافٌ من العوائلِ بإيتامِها وأراملِها وثكلاها تخلفُ قافلة الشُهداء. إلا يمكن أن تتجه أرملة ما للعمل بمهنةٍ لا تُليقُ بكرامتِها؛ لتسُد رمق أطفالها المتضورين جوعاً ؟!!!. ذلك الطفل اليتيم الذي بقيً دون رعاية ـ عاطفية أبوية وإجتماعية ـ ، من يضمن لنا أن لا يتجه للإنحراف والشذوذ والسرقة ؟ أو ربما يجري تجنيدهُ من قبلِ التنظيمات المتطرفة مرة أُخرى تحت إغراء الأموال وسد الإحتياجات، وأدلجتهُ بالتالي ضد مجتمعهِ اللامهتم به أصلاً ؟!!!

فمنذُ إعلان رئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي بيان الإنتصار في مدينةِ الموصل يوم الإثنين الماضي الموافق 10/ تموز / 2017، أقيمت هُنا وهُناك العديد من مهرجاناتِ وإحتفالات النصر، في أسبوعٍ إحتفالي سُمي ” بإسبوعِ النصر “، حضرها وزراء وسياسيين، إعلاميين وبرلمانيين، رؤساء جامعات، وعمداء كليات، بالإضافةِ لكوكبة من الشعراء والفنانين، ناهيك عن القنواتِ الفضائية التي حضرت لتغطية تلك الإحتفالات، التي أُنفقت فيها الملايين.

وفي إجواءِ الإحتفالات الصاخبة تلك، نسيَ الكثيرُ منا ـ أو تناسى ـ تلك العوائل ولو بجُزءٍ يسيرٍ من هذه الأموال المتناثرة. فما المشكلة إن خصصنا جُـزءاً من هذه الأموال لسدِ إحتياجات عوائل أولئك الشُهداء ؟!!!. فما الضير أن يأتي الشُعراء والفنانين لتلك المهرجانات مقابل أجر زهيد أو رمزي، أو أن تتنازل ـ مثلاً ـ القنوات الفضائية التي تُغطيها عن جُزءٍ من إجورها؛ لكفالة هذا الحق ؟. وهذا لا يُعني أننا نقلل من أهمية تلك المهرجانات والإحتفالات، فهي حرباً إعلامية مهمة وضرورية في هذا الوقت؛ وذلك لكي تنطق كلماتُنا في الفضاءِ والإعلام كما هللت بنادق ومدافع أبطالُنا في الميدانِ؛ لإدامة زخم الإنتصار معنوياً وإعلامياً، وإظهار ذلك الدعم الشعبي والجماهيري بتلاحُمِ الشعب مع قيادتهِ، وعودة إعتماده على قواتهِ المُسلحة والثقة بها.