18 ديسمبر، 2024 9:18 م

الشيوعيّة والإسلام بين روعة الإيديولوجيا و فشل الممارسة

الشيوعيّة والإسلام بين روعة الإيديولوجيا و فشل الممارسة

من المعلوم بالضرورة – بتعبير الفقهاء-أن الحكم الموضوعي على الشيء إنّما هو فرع من تصوّره كما هو في الأصل.لانّ حركة الفكر كما يقول ماركس في الجزء الأول من كتاب ”راس المال” ليست سوى انعكاس لحركة حقيقيّة/واقعيّة، نقلت وتحوّلت إلى العقل.

تأسيسا على هذا المعنى فإنّه، كلّما تنتزع الأحداث وتقتطع الأفكار عنوة وتعسّفا من سياقاتها- أيّا كانت هذه السياقات- فإنّ هذه الأحداث والأفكار،يصبح تصوّرها غير مطابق للأصل. وتصبح بالتّالي فاقدة لدلالاتها الحقيقيّة وقابلة للتحليل المغرض والتأويل المشبوه.عندئذ يوظّفها من في قلوبهم مرض- ولغاية في نفس يعقوب- في سياقات مضلّلة، هي أبعد ما تكون عن سياقاتها الطبيعيّة، ويكون الحكم عليها غير موضوعي وأقرب إلى الخطأ والتجنّي، منه إلى الصواب والعدل.

وفق هذا المنظور، فإنّ من ينخرطون-متعمّدين-في هذا المسار، من التصوّر والتحليل والتأويل ثمّ الحكم، الفاقد للموضوعيّة والأمانة العلميّة، إنّما هم من الخساسة وصغر النفس وقصر النظر، ما يجعلهم أقرب إلى الدراويش والدجّالين الذين لا يخلو من سذاجتهم وسطحيّتهم لاعصر ولا مصر، مهما أدّعوا عكس ذلك وحاولوا الظهور بقناع المثقّف الثوري أو المثقّف العضوي بمفهوم الفيلسوف والمناضل الماركسي “أنطونيو غرامشي”، سجين الاستبداد الموسوليني. يقول البرعي في هذا الصدد، وهو شاعر قديم وكم من سمىَّ ليس مثل سميه ***صفاتاً ويُدعى باسمه فيجيب.

هذه الرؤية للأشياء ليست قدحا في نظريّة”هيغل” صلب “الفلسفة المثاليّة” والتي تعتبر أن حركة الفكر هي التي تخلق الواقع وليس العكس.وهو ما يناسب تماما المناورين المنخرطين في مسار الخروج من السياقات الطبيعيّة للأحداث والأفكار والإيديولوجيات.

انطلاقا من هذه الرؤية ”الهيغليّة ”للأشياء، التي تعتمد المخيال على حساب الحقيقة والواقع، فإنّ رهطا من النّاس عندما يتحدّث إليك عن فشل المنوال الشيوعي في تجارب الحكم التي مورست في أوروبا الشرقيّة ، لا يردّه في جوهره، أوّلا وأساسا، إلى الهوّة السحيقة التي تفصل ما بين النظريّة والتطبيق، والتي غدت تطفو مظاهرها على السطح -قبل نضج التجربة- منذ عهد جوزيف ستالين، لا بل منذ عهد القائد الثّائر فلاديمير لينين بطل الثورة البلشفيّة المنتصرة على الإمبراطوريّة الروسيّة إبّان حكم القياصرة، باعتباره قضى أكثر سنوات حكمه تحت وطأة

المرض،لاسيما بعد محاولة اغتياله في بداية سنوات حكمه غير المديد.

وهي الهوّة التي تكرّست عبر انحرافات كثيرة، ليس المجال لتفصيلها، حادت بالشيوعيّة عن مسارها الذي رسمه لها الفيلسوف السياسي والاقتصادي الفذّ كارل ماركس الذي أجاب ببراعة قلّ نظيرهاعلى الأسئلة التي طرحها الفكر الإنساني التقدّمي. فالماركسيّة التي كثيرا ما أثارت جدلا واسعا، هي مذهب صنع هالته وبريقه بفعل كونه مذهبا واضحا وضوح الشمس في نحر الظهيرة، لأنّه متكامل، رائع التجانس والانسجام ومتناسق في جميع جوانبه، بعيد عن الأوهام، رغم طوبائيّته في آخر مراحله، بما يزعج بعض النخب الثقافويّة ويفسد عليها متعتها في الإستكانة والجلوس على الربوة.لا بل أكثر من ذلك، فهو المذهب الذي ينشد بحقّ بلوغ العدالة الاجتماعيّة عبر التوزيع العادل للثروة والانحياز إلى الطبقة العاملة، الضعيفة، المضطهدة، التي أفرد لها طه حسين كتابه “المعذّبون في الأرض”. يضاف إلى ذلك، النضال المستميت في محاربة طغيان البورجوازيّة وانتهازيّتها المقيتة، عبر النضال الطبقي الذي هو أساس كل تطوّر، بل هو القوّة الدافعة له. وهو ما يجعل العلاقات بين الطبقات تتميّز بأقلّ المظاهر تمويها، خلافا لما هو الحال. في المجتمع الرأسمالي سليل النظام الإقطاعي الجائر.

أمّا فيما يتعلّق بالناحية العلميّة، فإنّ مفهوم التطوّرعند ماركس، أساسه ماديّ، ضمن ما يسمّى بالماديّة الجدليّة التي هي ركن مفصلي في الفلسفة الماركسيّة، ترتكز على التناقض وتحكمها قوانين ما يعرف بالديالكتيك/الجدليّةالتي ثبتت صحّتها، في علوم عديدة منها الفيزياء؛ فيما عرف بقانون “لافوازيه”Lavoisier والعلوم الطبيعية وغيرها، ممّا لا يعنينا تفصيله في هذه العجالة.

على هذا الأساس العلمي أمكن التحوّل من مجرد معرفة الطبيعة إلى معرفة المجتمع البشري، بما هو نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي.لذلك أعتبرت الماديّة الجدليّة، أكبر انتصار أحرزه الفكر العلمي في حينه.

هذه ومضات سريعة،لا تمثل إلاّغيض من فيض، جعل من الماركسيّة التي انبثقت عنها الشيوعيّة، تعتبر بحقّ، خلاصة الإبداع الفكري الذي توصّلت إليه التيّارات الفكريّة المختلفة في غضون القرن التاسع عشر، في ثلاثة مجالات أساسيّة ومهمّة هي بداية الفلسفة، وخاصّة منها ألألمانيّة، ثمّ الاشتراكيّة، بمبادئها المعروفة ونضالاتها المميّزة، وخاصة منها الاشتراكيّة الفرنسيّة، و اخيرا الاقتصاد السياسي-وهو الأكثر أهمّية في فلسفة ماركس، وخاصّة منه ما كانت تمثّله المدرسة الانجليزيّة، حيث غدت نظريّة ”القيمة الزائدة”value marxiste-La plusونظريّة “قيمة العمل”Valeur travail التي وردت صلبها، لها أساس علمي دقيق، فأصبحت قيمة كل بضاعة مشروطة بوقت العمل المقترن بها .

لأجل ذلك لمع اسم ماركس والماركسيّة في أفق الإنسانيّة، وتفرّدت الشيوعيّة بالحكم، لأكثر من سبعين سنة. فأدارت شؤون البلاد والعباد، ليس في أوروبا الشرقيّة فحسب، بل كانت امتداداتها في أماكن مختلفة من العالم من بينها كوبا بمنطقة الكارييب في خليج المكسيك، برغم كونه الحديقة الخلفيّة للرأسماليّة والاستكبار العالمي. فضلا عن إمتدادها، منذ ستّينات القرن الماضي، في بعض الدول العربية إن في المشرق أو في المغرب.

بهذه المقاربة والتمشّي في الردّ، على المشكّكين في قيمة وعظمة الماركسيّة والشيوعيّة، عبر انهيار النظم التي مارستها،

وتحوّلها عنها إلى اعتماد اقتصاد السوق، يمكن الردّ على المشكّكين في قيمة الإسلام، عبر تأكيدهم على إفلاس منوال الحكم الإسلامي المنتهج، سواء على قاعدة الإسلام السياسي الذي ثبت فشله تاريخيّا بعد تولّيه مقاليد السلطة إن في السودان منذ أواخرعهد جعفر النميري ، أو في العراق، على يد الشيعة إثر الغزو الأمريكي ، أو في كلّ من تونس ومصر في أوّل أنتخابات بعد قيام ثورات ما أصطلح على تسميته بالربيع العربي على يد السنّة، أو قبل ذلك – وعلى إمتداد قرون عديدة- على قاعدة الخلافة، المضمّخة بجراح الحروب والفتن التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. علاوة على أن الخلافة ذاتها هي محلّ اعتراض.فهي آلية ليست من الإسلام في شيء، باعتبار أنّه لم يرد ذكرها ليس في القرآن فحسب؛ وقد ورد فيه قوله تعالى 🙁 ﻣﺎ ﻓﺮّﻃﻨَﺎ ﻓﻲِ اﻟﻜﺘﺎَبﻣﻦْشيءٍ )، بل ولم تذكر كذلك في السنّة. يضاف إلى ذلك أنّ صيغة البيعة التي كانت تعتمد، هي صيغة تعسفيّة، لا تأخذ في الاعتبار، بالرأي المخالف، من أهل الحلّ والعقد، بل هي أقرب إلى التزكية الجبريّة منها إلى المبايعة التلقائيّة. ولعلّ مقتل الحسين، حفيد الرسول، في كربلاء- وهو الذي عارض البيعة ليزيد بن معاوية- بتلك الفظاعة والقسوة، خير دليل على زيف البيعة ومن ورائها الخلافة التي لولا انحرافاتها الكثيرة، لكان حال المسلمين على غير حالهم البائس اليوم، الذي يؤشّر على أنّهم أصبحوا من التاريخ وليسوا من صانعيه أو حتّى من الفاعلين أو المشاركين فيه بأي قسط كان ، مهما كانت ضئالته.

مربط الفرس إذن، هو أن فشل كل من الشيوعيّة والإسلام في تجارب الحكم، لا يعني بالقطع، إفلاس كلّ منهما من زاوية النظر لهما إيديولوجيّا. لأنّ علّة الفشل إنّما هي الانحرافات على مستوى الممارسة بما هي زيغ عن الإيديولوجيا.