شكل اعلان التحالف الانتخابي بين الصدريين والشيوعيين، رغم توقعه الى حد ما، صدمة للبعض، يمكن تلمسه في المواقف المتباينة لانصار اليسار، لكن الصدمة الحقيقية ستكون للاسلام السياسي وبالذات الشيعي، خاصة اذا استطاع هذا التحالف ان يحقق جزء ملموساً من برنامجه، فيما يخص الخدمات ومحاربة الفساد والارهاب وبناء الدولة على اسس سليمة. لم يستطيع الشيوعيين رغم كل محاولاتهم ايام المعارضة قبل 2003 ان يحققوا تحالفاً يعتد به مع قوى الاسلام السياسي، وبقى الاسلاميون متعالين على تحالف كهذا. أستمر نهجهم هذا أيضا بعد 2003. نتذكر كيف قال مرة عبدالعزيز الحكيم باستهانة في احد لقاءاته المتلفزة، بان الشيوعية ظاهرة عابرة في العراق وفي طريقها الى الزوال. في الانتخابات الثانية أراد حزب الدعوة إذلال الشيوعيين من خلال دعوة ممثليهم في البرلمان حميد مجيد والجزائري للمشاركة في قائمة يقودها الدعوة، باعتبارهم افراد وليس كممثلين للحزب الشيوعي ، ورافقها أيضا، النشاط المحموم لاحمد الجلبي لعزل الشيوعيين في تلك الفترة عن تحالفات جادة الا ضمن عباءة الاسلام الشيعي وبشروطه. لا ننسى فتوى اية الله الحائري بتحريم التصويت للمدنيين والعلمانيين ونعيب عامر الكشفي وهو احد وجوه الدعوة في برنامجه التلفزيوني في الاشهر الاخيرة ضد الشيوعيين والعلمانيين وتكفيرهم.
أول خرق جاد كان في الانتخابات الماضية حين رشح مسؤول الوقف السني ضمن قائمة متحالفة مع الشيوعيين في البصرة، وقبيل الانتخابات بأيام اغتيل الرجل في الزبير وفي وضح النهار، وتواطأت قوى الاسلام السياسي، الشيعي والسني، في عدم الكشف عن ملابسات الاغتيال. بالمناسبة قبله سبق ان رشح احد العاملين في الوقف السني في البصرة في قائمة مشتركة مع الشيوعيين ورغم عدم فوزه أو فوز اي من القائمة الا أنه طرد من عمله.
.
التحالف الجديد، هو تواصل لفعاليات ميدانية معروفة وانعكاس لفشل وعجز منظومة العمل للاحزاب المتنفذة ، التي شكل جوهرها بناء الحصون الطائفية وتوسيع مناطق العزل بينها، والاستمرار بتقاسم ( فضل الله) عليهم والاذلال الدائم للعراقيين، كما تواطأت قوى المحاصصة مجتمعه على نهج كان قاسمه المشترك هو عزل وابعاد القوى الديمقراطية والمدنية عن اي دور حقيقي. هذا التحالف، وحتى في حدود إعلانه، هو في واقعه شرخ لهذه السياسة أو المعادلة وخاصة في ابعاد المدنيين والعلمانيين وبالذات الشيوعيين. هذه الخطوة ربما اذا اُجيد التعامل معها ستظهر فعاليتها في الفترات اللاحقة وبالذات على قوى الاسلام السياسي ويمكن ان يكون تأثيرها ابعد من عراقيتها. لقد كسرت هذه الخطوة الحاجز النفسي في التحالف مع الشيوعيين وفكرة تكفيرهم، وهي خطوة هامة في مجتمع مسكون بالدين والخرافة، مثلا لقاء الصدر مع سكرتير الحزب الشيوعي خفف من الضغط على حركة الشيوعيين في بعض مناطق بغداد.
لم تعد قوى الاسلام السياسي بكل اصنافه، منذ سنوات عديدة، بسبب مجمل سياستها وفسادها وارتباطاتها، قوى وطينة عراقية. حتى فكرة الوطنية العراقية اصبحت جراء سياسة النظام الساقط ومواصلة القوى المتنفذة بعد 2003 ذات النهج بجوهره والقائم على التفريط بالوطن واذلال العراقيين، اصبحت فكرة ضبابية ان لم تكن مشوهه..
الصدريون بخطوتهم هذه يسعون لاعادة هذه الصفة لهم ويسعون لاعادة ترتيب أولياتهم، وهي خطوة سليمة ومن حقهم ان يقدموا عليها،وهي في جوهرها تشرع الابواب لتحريك جملة من العوامل، أن لم تكن على مستوى العقائد، فالتاكيد سيكون لها اثرها على مستوى الممارسة اليومية.
انها خطوة تعيد للفكرة والموقف الوطني اولياته ومن ضمنها الخدمات والامن للعراقيين. ستنعكس بشكل أو اخر على اطراف أو اشخاص ذوي توجهات ومواقف وطنية وعقلانية، في داخل كل قوى الاسلام السياسي ، التي فرطت بالعديد من الفرص المتوالية، لبناء تحالف وطني سيلم بحدوده الدنيا مع قوى اليسار والعلمانية وكل الشخصيات الوطنية المخلصة، لإنقاذ ما كان يمكن انقاذه. لا يغفل بهذا الصدد انعكاسات الانتفاضة الايرانية الاخيرة والتي سحلت فيها صور الولي الفقيه ( ظل االله الارض ) في الشارع. هذا المقدس الذي مسحت به الارض، لا يستبعد ان يجد صداه في العراق في فترات لاحقة، فالوضع في العراق مشحون بكل مسببات الانفجار.
مسار هذا التحالف القادم وقدرة الطرفين على الحفاظ عليه كتحالف انتخابي وأكد مرة اخرى كونه تحالف انتخابي، جدير ان يفتح الشهية للعديد من النقاشات والتوقعات. من جانب اخر سيكون هذا التحالف الانتخابي سكينا في خاصرة كل قوى الاسلام السياسي وبالذات الشيعي وبعض القوى الاقليمية، ربما يفتح الباب لتغيير بعض المعادلات التي اراد البعض تحويلها الى قواعد ثابتة في الحياة العراقية. هو اعتراف ونصر لوطنية الشيوعيين العراقيين وكل القوى الديمقراطية والمدنية ،كأحزاب او حركات او شخصيات مستقلة، واعتراف بنزاهتهم ومعظم طروحاتهم وكفائتهم وتفانيهم في النضال من أجل الوطن والشعب.
تكمن المخاوف من مؤيدي اليسار، حسب تقديري، أن الشيوعيين لم يجيدوا لعبة التواصل الحي في التحالفات. اي انهم في معظم تحالفاتهم الكبيرة في تاريخهم سواء مع قاسم او البعث او القوى القومية الكردية، لم يجيدوا او يدركوا في اللحظة التاريخية المناسبة ان هذا التحالف أو ذاك اصبح اضيق مما يمكن ان يكون عليه، او انه تحول الى مشنقة في رقابهم. لم تظهر القيادات الحزبية المتوالية فعالياتها ومهاراتها في هذا الامر. دائما كانت انسحاباتهم تأتي متاخرة، وبعد ان دفعوا ثمناً غالياً، اضافة لم ترتب عليه من خسائر فادحة لاحقاً.
طبعا هذا لا يتعلق فقط بطريقة التفكير وما يؤخذ عليها وانما آليات العمل، واتخاذ القرار بالوقت المناسب. بمعنى هناك شكوك جادة بقدرة القيادات على ادارة عملية كهذه بالاستناد على تجارب التاريخ، يترافق مع ذلك التصور العام بهشاشة الكثير من مفاصل التنظيم وتركيبة العضوية في الحزب بعد 2003، بما فها الحصانة الفكرية والسياسية وغيرها وما ارتبط بها من تصورات عن بناء الحزب باعتباره حزب انتخابي.
أهمل الشيوعيون او القوى المدنية تقديم دراسات جادة ومتواصلة عن الاحزاب الاسلامية في العراق أو عن القوى الاخرى. ما هي هذه القوى وما هو تركيبها وما هي التغيرات التي جرت في قياداتها وماهي مواقفها العقائدية وممارساتها السياسية وغيرها. ماهي سيكولوجية قياداتها العليا والاساسية ومتغيراتها وهو الاهم في احزاب وحركات ذات بنى تنظيمية هشه ، تتحكم فيها روح المنظمة السرية، أو انها ذات طابع عشائري أو ابوي. بقيت فعليات الشيوعيين وبالذات كونفراستهم الفكرية ولسنوات بعد 2003 تدرس وتناقش في الدولة المدنية ومعالمها وغيرها، وهو امر ضروري ، لكن اهملت والى حد كبير طريق الوصول اليها. يعني في الكثير من جوانب النشاط الفكري ، الذي كان يجري توصيف العربة قبل الحصول على الحصان. ساعد في ذلك اليد الحديدية المتحكمة في اعلامهم وخطابهم الحذر والمبالغ في حذره وعدم الانفتاح في تقبل ما ينشر في هذا الصدد. حتى هذه الخطوة الاخيرة ، التي كانت لها مقدمات من اشهر عديدة لم تستغل لتحريك النقاش الفكري والسياسي من قبل الشيوعيين ومحبيهم، يظهر انه كالعادة اكتسب النقاش طابعا نخبويا الى حد ما، حيث اجرى الشيوعيون استفتاءاً داخليا في حدود معينة لحسم موقفهم في التحالف مع حزب الاستقامة المدعوم من الصدر، وهذا ما يثير القلق عند الكثير.
.
لقد كانت المواقف والتصريحات المربكة وفي عدد غير قليل من المناسبات سواء قبل أو بعد الانتخابات السابقة تزيد من تشوش المواقف وقد سبق ان كتبت عنها، ربما اخرها ما كتبه عضو المكتب السياسي والنشاط في الحراك المدني وصلة الوصل مع الصدريين السيد جاسم الحلفي، انه لن يرشح نفسه للانتخابات، موقف لا يعدو سوى كونه موقف غير مدروس، حتى لم نعرف مبرراته والمعروف في عمل الشيوعيين هناك آليات اخرى تتحكم في امور كهذه. وهو موقف يثير التساؤل والاستغراب، خاصة حينما يجري تدوال معلومات اخرى وفي وسائل التواصل الاجتماعي تمس هذا الموقف، ولا يعرف القارئ مدى صحتها، خاصة انها تنطلق من اطراف ليس بعيدة عن الشيوعيين.
طرح الشيوعيون على الدوام تصوراتهم او مطاليبهم لضمان اجراء انتخابات سليمة ونزيهة، الا انهم كانوا سرعان ما كانوا يتخلون عن ذلك، بحيث اصبح ذلك التخلي بمثابة نهج، للمشاركة في الانتخابات والقبول بما هو مطروح او مفروض من قوى المحاصصة المتنفذة، سواء كان ذلك قبل الانتخابات أو بعدها ، التي كان يتحكم فيها بالأساس التزوير والفساد. هذه السياسة لم تثمر عن شيء، ولم تثمر اوراق التقييم اللاحقة بعد كل فشل في توفير قناعات وافية في هذا الامر.
تصاعدت الاصوات داخلهم لمقاطعة الانتخابات، أذ كان اساسها التزوير والفساد، وللأسف اقتصرت دعوتهم ودعوة القوى المدينة لانتخابات نزيهة وغيرها من شعارات في هذا الصدد خلال السنوات الاخيرة بالعمومية. بمعنى كانوا كما يقول المثل العراقي ( يطلبون من الحافي نعال ). هم الان ومن قبلها مطالبون بوضع برنامج كامل وواضح لتصورهم لانتخابات نزيهة في حدودها المعقولة. المشكلة ليس في قانون الانتخابات الجائر فقط، رغم اهمية ذلك. المشكلة في المفوضية وتفاصيل الانتخابات منذ بدء الاعلان عنها، مثلا مئات الالاف من المصوتين الوهمين والاموات، الفرز، التصويت الخاص وغيرها. نشر هذا البرنامج والتثقيف به وجعله قاعدة هامة للنضال من اجل تحقيق انتخابات نزيهة بحدها المعقول كمرحلة أولية، يتيح لهم ولكل القوى المدنية، درجة من المرونة في تدقيق التحالفات وتفسير الكثير ( المعجزات ) في الانتخابات العراقية القادمة . والسؤال الاهم والذي ينتصب امام الكثير هو ماهي أهمية كل هذا الامر اذا كان البعض يستطيع التحكم في مفوضية الانتخابات والنتائج الاخيرة بجرة قلم، حيث يستطيع في النهاية ان يغير وبكل بساطة النتائج الاخيرة للفرز والتصويت من خلال الكومبيوتر في التصنيف الاخير، وهذا ما اثبتته التجربة السابقة، والذي لا يعجبه فليشتكي عند قضاء مدحت المحمود المبيوع مسبقاً. لم يستطع الحراك المدني وبما فيها الصدريون ان يغيروا شيئا سواء بالضغط من الشارع او من خلال ممثلي التيار الصدري في البرلمان، الذين لم يكن موقفهم يختلف عن القوى المتحكمة في البرلمان. السؤال المهم ماذا يريد الشيوعيون من هذا التحالف. ليس فقط قضية الوصول للبرلمان، رغم الهدف المعلن له، هذه عملية كبيرة وجريئة وخطرة، وتحميل في طياتها العديد السيروات. ان اللغة المبسطة بالاتهامات أو الدفاع غير مجدية في الوقت الراهن. اتمنى أن
تاخذ هذه القضية حوار جاد وتكون حجرة في المستنقع. العملية هذه يجب متابعتها وتطوير اليه وفنون ادراتها من خلال النقد الجاد، والتخلص من التبررية في التعامل معها.
من حق الشيوعيين وكل القوى الديمقراطية الوصول للبرلمان والمشاركة في الحكومات على اساس برنامج وطني واضح وصادق ومع قوى جادة في هذا الامر وهو ، أيضا ، جزء هام من واجباتهم وجزء هام من نضالاتهم والا كيف يستطيعون ان يحققوا برنامجهم المرتبط ببناء الدولة ومحاربة الفساد وتقديم الخدمات وغيرها. وان لم يستطيعوا ذلك فمن الممكن ان يتحولوا الى قاعدة اساسية لمعارضة نظام المحاصصة، رغم انهم حققوا بعض الخطوات في هذا المجال، لكن التخوف الان من العمل مع قوى كانت هي نفسها بقدر غير قليل جزءاً من نظام الفساد والمحاصصة ولها ميلشياتها الخاصة، وهي ذات بناء تنظيمي هش وشكلي. لنترك هنا الجوانب العقائدية ويشكل العنف والفساد جزءاً من آليات عملها وتفكيرها وهي حركة قائمة على مثلث واقف على رأسه ( الصدر) مع الاخذ بنظر الاعتبار التغيرات في مواقف الصدر وبعض اطراف حركته المتنوعة. الصدر اليوم هو قائد لحركة سياسية وهو يختلف الى حد غير قليل عن الصدر بعد 2003 . هذه التغيرات باعتباره قائد سياسي او كحركة جديرة بالملاحظة، دون التهويل بها والتعويل على تحولات جادة في هذا الاطار في الوقت الراهن. هناك فعلا نقاط التقاء وبسب عوامل عدة وهو تيار لم يشهد فرزا حقيقيا لحد الان ولكن التقييم الموضوعي يتطلب اخذ هذه الجوانب بنظر الاعتبار. من مسؤولية التيار المدني والشيوعيين ان لا يتعاملوا بعبثية مع هذا الامر. مسؤوليتهم هو التقييم الموضوعي لهذا الامر بحيث يكون هذا التحالف فرصة لتحقيق نجاحات في جبهتم، كما هو من حق الصدريين ان يحققوا نجاحات لجبهتهم . كيف سيكون الامر اللاحق في التعامل، أو ضبطه ، لا يستطيع احد أن يضمن اجابات وافية الان، الا بخطوطها العريضة ولكن المخاوف ان الاجابات بالخطوط العريضة تبقى هي النهج السائد دون السعي لتغذية هذه الاجابات بتفاصيل حقيقية وواقعية.
المخاوف من اشتراك حركة الصدريين في القاعدة الاجتماعية التي يتحرك فيها الشيوعيون وكل القوى الديمقراطية ، والخوف أن يفقد الشيوعيون والقوى المدنية ماهيتهم في تحالفات كهذه وبالتالي تتحكم قوى الاسلام السياسي والقوى المتحكمة بها اقليميا، بالقمة والقاعدة. اي في مؤسسات الحكم وفي الشارع وهو احتمال غير مستبعد وقائم. فقد اثبتت هذه القوى قدراتها المميزة في هذا الجانب بعد 2003.
اسئلة عديدة يثيرها هذا الحراك أو التحالف السياسي في مواقع قوى متعارضة، لم نعتد عليه، لا يكفيه الان الاجابة بـ(مع) او (ضد). في كل الاحوال يتعامل البعض معه من موقع المتشائل وهو بحاجة الى تقييم واسع ومسؤول مع من يؤيده أو يعارضه. يبقى الواقع هو سيد المنصفين لهذه السياسة.