عانى الشيعة في العالم كثيراً عبر التاريخ، بسبب الانتماء المذهبي تارة وقضية الولاء تارة أخرى، فحكام أوطانهم دائماً ما يتهمونهم بالولاء لغير الوطن، ناهيك عن أن أخرين يرون الشيعة غير مؤهلين ليكونوا مسلمين ، ويكفروهم ويقتلوهم، وهذا كله بسبب الانتماء.
لقد شكلت الهوية الوطنية والمواطنة، عنواناً مهماً في الفكر السياسي الشيعي، كونها مدخل لكثير من الأزمات متعددة الأسباب والمصادر، لذلك تبقى صعوبات تفكيك المفهومين، نظراً لتداخلهما وتمايزهما في الوقت نفسه، وعلى الرغم من أنَّ الوطنية والمواطنة أصلهما اللغوي واحد من “الوطن” لكنهما يختلفان من حيث الاصطلاح.
الوطنية مفهوم ذو مضمون عاطفيّ، يرتبط بوجود الناس في وطنهم وبمشاعر الحبّ والإخلاص، والانتماء إلى الأرض والجماعة (الوطن)، إلى جانب الاستعداد للتضحية من أجله.
المواطنة مفهوم ذو مضمون قانوني، يرتبط بمفاهيم الجنسية والمسؤولية والالتزام بقوانين الدولة، ويُقاس بمدى الالتزام بالواجبات والحقوق القانونية.
لذلك يجب العمل تعزيز الهوية الوطنية الجامعة بين السنة والشيعة، والعضوية في الدولة على أساس حقوقي، وليس على أساس العضوية في الجماعة، هي المواطنة في دولة متعددة الانتماءات والهويات.
ارتبط موقف الشيعة العراقيين مع الدولة العراقية، بنوع تعريفهم لأنفسهم داخل الممارسة السياسية، وفي هذا السياق قدّم الشيعة العراقيون أنفسهم من خلال ثلاث هويات عبر ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى كانت مع بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة، حيث عرّفوا أنفسهم بوصفهم “عربا” وبالتالي جاءت مطالبات زعاماتهم الدينية، بضرورة أن يكون حاكم العراق رجلا عربيا، فبرزت الهوية العربية.
المرحلة الثانية كانت مع صعود حركات الإسلام السياسي في منتصف القرن العشرين، حيث عرّفوا أنفسهم بوصفهم “مسلمين” فجاءت أدبيات تلك الحركات لتنظّر للوطن الإسلامي الكبير، الذي يكون الشيعة العراقيون فيه جزءا من الجماعة “الأمة الإسلامية الكبرى”وهنا برزت الهوية الإسلامية الأممية..
أما المرحلة الثالثة وفيها برزت الهوية الوطنية العراقية، فكانت لحظة انبثاقها بادئ ذي بدء مع نداءات محمد باقر الصدر وانتهت باستشهاده..
المرحلة الرابعة بعد 2003 وابرزتها مرجعية السيستاني، التي كانت على نفس الخط في بناء هذه الهوية الشيعية “العراقية” أي الهوية الشيعية بوصفها هوية وطنية للدولة العراقية، وليس هوية لجماعة مذهبية. وهذا ما نلاحظه في خطاب هذه المرجعية حول ضرورة احترام سيادة الدولة العراقية، واستقلال القرار العراقي، وتفهم الخصوصية الإقليمية للعراق في عمقه العربي، والانفتاح على تنوع المجتمع العراقي الإثني والديني، وحفظ هيبة الدولة. وهذا الخطاب المرجعي يمثل انتقاله جديدة في الفضاء السياسي الشيعي العراقي جاء متزامناً، وربما متوافقاً، مع التغيير الحاصل في نظام الحكم في العراق عام 2003 وصعود الشيعة لسدة الحكم.
الشيعة في العراق الذين يمثلون الأغلبية فيه، واجهوا نفس التهم وهي الانتماء للغير وضعف الولاء الوطني، وعلى الرغم من قوة الضربات التي وجهت للتشيع في العراق، إلا انه ظل صامداً أمام هذه القسوة من حكام الجور والطغيان، الذين تسلطوا على رقاب العراقيين.
لقد عبر الشيعة في العراق عن انتمائهم وولائهم المطلق، لوطنهم في كثير من المواقف، لا بالشعارات والأحاديث الفارغة، بل من خلال التضحيات الكبيرة في دفاعهم الأكبر، عن وطنهم ضد تنظيمات داعش، كما أنهم قدموا نموذجا رائعا في عكس الوحدة الوطنية في الكثير من المواقف السلبية، واثبتوا مواطنتهم بتقديمهم، نموذج رائع في المواطنة الصحيحة، وسلوك أبوي تجاه باقي المكونات والقوميات
الناظر بصورة شاملة سيجد ان العراق، سيعيش قريباً بألوانه المتعددة مزدهراً يدفع ويدافع، عن أرضه ووطنه مهما كانت التضحيات رغم أن ثمن ذلك كان باهضاً.