منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة الإمام الخميني، حدث تحوّل استراتيجي في موقع الشيعة على الخريطة الدينية والسياسية والاجتماعية، ليس في إيران وحدها بل في العالم بأسره… ؛ و قبل هذا التحول، كان الشيعة يمثلون أقلية مستضعفة في العديد من البلدان … ؛ يعيشون تحت وطأة التهميش والاضطهاد – رغم اكثريتهم العددية في البعض من تلك البلدان – … ؛ و يعانون من الإقصاء السياسي والاجتماعي , وتمارس بحقهم سياسات الافقار والحصار والمطاردة والتنكيل ، ويُزجّ بهم في السجون والمعتقلات , ويمنعون من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية ؛ دون أن يثير ذلك أي رد فعل يُذكر من المجتمع الدولي أو حتى من المحيط الإسلامي والعربي والمحلي … ؛ لقد كانت مأساتهم مغيّبة إعلاميًا، وكان كل ما يُرتكب بحقهم من جرائم يُطوى في غياهب النسيان، فلا عدسات ولا منابر ولا أصوات عالمية أو اسلامية أو عربية تدافع عن حقوقهم و وجودهم واستحقاقاتهم الوطنية والانسانية .
غير أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران قلب المعادلة رأسًا على عقب ولو بعد حين … ؛ فقد مثلت الثورة حدثًا مفصليًا في التاريخ الشيعي الحديث ؛ إذ تحوّل الشيعة من حالة الاستضعاف والهمس في الظل إلى حالة الحضور القوي في الساحة الدولية والاسلامية والعربية … ؛ و تنفس الشيعة الصعداء، وشعروا لأول مرة أن لهم دولة تمثلهم وتدافع عنهم وتتبنى قضاياهم، الأمر الذي منحهم شعورًا بالاعتزاز والقدرة على التحدي والمواجهة .
إيران كقوة حامية وداعمة:
منذ ذلك الحين، تبنت إيران مشروعًا استراتيجيًا يقوم على دعم الشيعة سياسيًا وفكريًا واعلاميا وثقافيا ودينيا – وحتى اقتصاديا وعسكريا كما في بعض الحالات المعروفة – في مختلف دول العالم… ؛ ولم يكن هذا الدعم مجرد شعارات، بل تجسّد في بناء شبكات من العلاقات والتحالفات، وتأسيس مؤسسات إعلامية وثقافية ودينية تعمل على إبراز الهوية الشيعية وتعزيز حضورها… ؛ و بفضل هذا الدعم، تمكنت الجماعات الشيعية في بلدان مثل العراق ولبنان واليمن وسوريا وأفغانستان والبحرين وباكستان والهند وغيرها من رفع صوتها والمطالبة بحقوقها، بعد أن كانت تعيش في صمت وقهر… .
لقد تغيّر المشهد بشكل ملحوظ بعد عام 2003، حين سقط النظام الصدامي الذي شكّل أحد أبرز عناوين القمع الطائفي في المنطقة… ؛ و هذا السقوط لم يكن ليتحقق لولا تراكم الضغوط الدولية التي مارستها قوى سياسية ودينية متأثرة بالنموذج الإيراني ودوره الإقليمي… ؛ ومنذ ذلك الحين، شهدت الساحة العراقية صعودًا واضحًا للقوى الشيعية التي تسلمت زمام الحكم، وتوسعت ظاهرة “التمكين الشيعي” في المنطقة لتشمل سوريا (من خلال تحالفات عسكرية وسياسية)، ولبنان عبر حزب الله، واليمن من خلال حركة أنصار الله، فضلًا عن نشاطات في الخليج وآسيا.
التحول الاجتماعي والإعلامي:
قبل الثورة، كان الشيعة يتحدثون همسًا في أوطانهم، يخفون هويتهم الطائفية خشية البطش، ولا يمتلكون منابر للتعبير عن مظلوميتهم… ؛ أما بعد الثورة، فقد تغير المشهد جذريًا؛ إذ ظهرت الصحف والفضائيات والإذاعات الشيعية، وتحوّل الصوت الخافت إلى خطاب عالمي يطرق أسماع الرأي العام الدولي… ؛ هذا الانتقال لم يكن مجرد تحوّل إعلامي، بل انعكس على البنية النفسية والاجتماعية للشيعة، فزرع فيهم الإحساس بالقوة والقدرة على الفعل، بعد قرون من الانكفاء والانكسار.
لكن السؤال الجوهري يبقى:
هل ارتبطت هذه القوة الجديدة بالانتماء الوطني، أم تحولت إلى ولاء عابر للحدود، يستمد شرعيته من المرجعية السياسية الإيرانية؟
هنا يكمن الجدل الكبير الذي تعيشه المجتمعات الشيعية اليوم، لا سيما في العراق ولبنان واليمن والبحرين وبقية دول الخليج وغيرها ؛ فبين من يرى أن إيران قدّمت للشيعة سندًا استراتيجيًا حمى وجودهم، ومن يعتقد أن هذا الارتباط أدخلهم في صراعات إقليمية وجعلهم أداة في مشروع سياسي يتجاوز حدودهم الوطنية، تتشكل المعضلة التي لا تزال عالقة حتى الآن.
خاتمة:
لقد استطاعت إيران أن تحوّل الشيعة من أقلية مهمشة إلى قوة فاعلة إقليميًا وعالميًا، لكن هذا التحول جاء بثمن باهظ؛ إذ جعل مصير المجتمعات الشيعية في كثير من الأحيان مرتهنًا للتجاذبات الإقليمية والدولية، وأثار حساسيات قومية وطائفية في أوطانهم… ؛ وإذا ما سقط النظام الإسلامي في إيران –كما يتخوف البعض– فإن الأغلبية الشيعية في المنطقة ستواجه تحديًا وجوديًا جديدًا، وقد تعود إلى مربع الضعف الذي خرجت منه قبل أربعة عقود، وهو ما يثير أسئلة عميقة حول مستقبل هذه الجماعة الدينية والسياسية في عالم متغير.