يروي لي أحد الأصدقاء نقلاً عن أحد أقاربه من الذين عاصروا تشكيل الدولة العراقية وما تلاها من أحداث وكان من وجهاء بغداد وله حظوة مقبولة لدى الحاكم البريطاني آنذاك ، إن وفدا من أهالي الفرات والجنوب قد إتصل به ( والكلام للسيد الوجيه) للتوسط عند الحاكم البريطاني حول ترتيب لقاء لهم معه ، فأتصلت بالحاكم وأخبرته برغبة الوفد بلقائه فأعطاني موعدا ً صباحيا ً لهم لكثرة إنشغالاته ، وحصل اللقاء بالفعل والحاكم يستمع لكبير رجالات الوفد وهو يتحدث عن وجود نية لدى الوفد بتشكيل كتلة سياسية (شيعية) تمارس دورها السياسي في العراق الملكي الجديد ، خصوصا ً وأنهم قد أبُعدوا من الساحة السياسية ولم تكن هناك مناصب لهم في الدولة ، مما ولدَ شعوراً لديهم بالتهميش والإقصاء . كان الرد سريعاً و واضحاً من فم الحاكم البريطاني قائلاً لهم …من أبعدكم نحن أم مرجعيتكم الدينية التي حرَمت المشاركة في السلطة وحتى التعيين في مؤسسات الدولة ؟؟؟ إسمعوها مني (والكلام للحاكم البريطاني) لقد فات الآوان وخسرتم الفرصة وعليكم الإنتظار لعقود أخرى من الزمن فلربما يحين الوقت عندها وتكون لديكم أجيال مؤهلة لإستلام السلطة وبناء الدولة . مرت العقود العديدة من الزمن بما حملته من أحداث دامية كان للشيعة النصيب الأكبر دوناً عن الأخرين من تلك الدماء ، دفعوا خلالها ما لايمكن تعويضه ثمناً لفتوى المرجعية الشيعية آنذاك . أنا لا أرى مبرراً لتلك الفتوى ولا يمكن أن تتولد لدي أدنى درجات القناعة بأن فيها سلامةً للمذهب ومعتنقيه ولو صح ذلك لأنطبقت تلك الفتوى على ما حصل من إحتلال أميركي للعراق عام 2003 وتكرر نصها على لسان المرجعية المعاصرة ، فالصورتان متطابقتان تماما ً من حيث الأحداث … إحتلال ودخول للقوات المحتلة وحاكما أجنبيا ً ثم سلطة وطنية تدير شؤون البلاد والعباد . فإن كان هناك إختلافا غير الفارق الزمني وهوية المحتل التي تبدلت من البريطاني الى الأميركي فإن هذا الإختلاف يكمُن في موقف المرجعية بعد أكثر من ثمانية عقود ، فمرجعية النجف الحاضرة لم تتخذ موقفاً مشابهاً لما فعلته سابقتها ، بل دعمت وبكل ما لديها من قوة وإمكانيات المشاركة بكل مفاصل العملية
السياسية ، فشتان ما بين موقفين لا أجد تفسيرا ً جوهريا ً حقيقياً لكليهما أو صحة ً لأحدهما على حساب الآخر فتأريخ المرجعيات في النجف الأشرف مفعما ً بالمواقف الوطنية التي لا تترك للمتتبع لسيرتها مقدارا ًمن الشك إزاء أدائها ومواقفها على مر تأريخها . لكني لا أكتم سراً في معرفتي للتفسير الظاهري لكلا الموقفين. فالموقف الأول ولد وسط بيئة متكاملة من الجهل الذي لا حدود له لدى عامة الناس فضلا ً عن عوامل إجتماعية اخرى كالعوز والفقر وإنتشار حالة اللاوعي لدى الأغلبية الساحقة من المجتمع ، وهذه الظروف مجتمعة تقود الى الإنقياد الأعمى وراء كل مايمت بصلة الى القداسة وخصوصا الرموز الدينية دون تدقيق أو تمحيص أو تحليل لما يصدر عنها ، مع جهلهم المُطلق لكل ما بين أيدينا من موروث نبوي وعقائدي يفرض على الفرد ضرورة تمييز الأشياء من خلال الجوهرة التي وهبها الله للإنسان ، وان العقل هو النبيَ الداخلي الذي يُفتيك بكل ما يوافق المنطق ، لذا أعتقد جازما إن ثمار ما حصلنا عليه من هذه الفتوى المُتسرعة وغير محسوبة العواقب هو السيل الهادر من أنواع القمع والإهانة التي تعرض لها شيعة العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى عام 2003 مع الأخذ بنظر الإعتبار حالة التفاوت والتباين بين مرحلة سياسية وأخرى ، توجت في ذروتها تحت مظلة حكم نظام صدام البائد. أنا لاأرى أية كرامة للإنسان وحتى سلامة للمذهب في الإبتعاد عن التعلم والتفكر والتثقيف والتعيين في مؤسسات الدولة والإنخراط ضمن مرافق الدولة العامة ، بل كانت إحدى أخطر نتائج تلك الفتوى هي إنها ألبستهم رداء الذل والمهانة لأكثر من ثمانين عاما ً ، فقد أبعدتنا عن التحضر والمدنية والسير في ركاب الآخرين الذين تعلموا فنون السلطة وأجادوا اللعب بأدواتها ،وبقي الشيعة طيلة تلك الحقبة هم الطبقة الذليلة في المجتمع والمتأخرة في كل مناحي الحياة وخصوصا الإقتصادية والإجتماعية ، فكانت كل تلك الأسباب بأجتماعها قد أسهمت بحالة حرمان لا نظير لها لدى الشيعة على وجه الخصوص (في المناطق الوسطى والجنوبية ) شكلت بالوناً كبيراً من الحقد الداخلي على الدولة كمؤسسة ومفهوم وكيان ، فكان الخطر المنتظرهو أن هذا البالون لم يصمد للأسف أمام الأحداث الدراماتيكية التي حصلت منذ اللحظات الأولى لسقوط صنم ساحة الفردوس ، فسرعان ما إنفجر وبدأت تتجسد حالة الحقد على الدولة بالرغم من أن الدولة كلها قد أصبحت بين أيديهم ، من خلال
المشاهدات المؤلمة لحالات النهب والسلب والفرهود ومنذ الدقائق الأولى لسقوط الصنم ، متناسين أنهم بأفعالهم هذه قد أهانو دولتهم الجديدة ومرغوا هيبتها بالوحل. وهنا نكون قد وصلنا الى الموقف الثاني الذي تبنته مرجعية النجف المعاصرة … ورغم تأكيدي على عدم معرفتي بجوهر الفتوى التي دعمت الشيعة بكل تشكيلاتهم وعناوينهم السياسية على المضي قدما وبكل طاقة ممكنة للمشاركة في العملية السياسية بعد عام 2003 بالمقارنة التأريخية مع ما حصل عام 1921 لكني أعتقد أن هذا لا يعني ان هناك ثمة مبررات لهذا الدعم فرضتها كل الظروف القاسية والمحن العصيبة التي مر بها شيعة العراق على مر الزمن ، أوجبت على المرجعية إتخاذ موقف ينسجم والتطلعات نحو عهد جديد من الإستقرار والأمن وتحقيق الحلم الكبير في الحصول على فضاء واسع من الحرية وكرامة طالما مُرغت بالتراب على مر التأريخ . لقد تحققت نبوءة الحاكم البريطاني من حيث التوقيت الزمني لكنها أخفقت في تخمين نوعية الجيل الذي سيحمل تلك الأعباء وتقع على عاتقه مهمة السير بعجلة الدولة الى الأمام وكشفت السنون المنصرمة منذ عام 2003 والى الآن … وبكل أسف … عدم أهلية هذا الجيل من الشيعة في أدارة الأمور والأزمات التي عصفت بالوطن ولا زالت ، كرة ً من الثلج تزداد حجماً بتدحرجها ، كذلك هي أخطاء الساسة الشيعة ، يوما بعد يوم والأخطاء تتوالى وبصمات الفشل موزعة في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة . لقد فشل الشيعة منذ اللحظات الاولى للتغيير إذ لم يرفعوا عقيرتهم بوجه الحاكم سئ الصيت بول بريمر عندما حل مؤسسات الدولة المهمة والحيوية ، وفشلوا عندما وضعوا أياديهم فوق يد المحتل وهو يمسك بسكين التقسيم لخارطة الوطن الواحد على أسس طائفية وعرقية ، وفشلوا عندما بدأت خطاباتهم النارية تصب جام غضبها على العرب أجمعين وتحميلهم مسؤولية ظلامتهم تحت وطأة نظام صدام المقبور ، كما فشلوا ساسة الشيعة عندما كان كل منهم يرى في نفسه الرقم الأول في المعادلة السياسية للعراق الجديد (زعيماً أوحداً أو قائداً مُلهماً ) ، وفشلوا عندما إعتكفوا في صوامعهم المُحصنة بعيداً عن أنظار العامة من الناس فلم يمنحوا الشعب ثقتهم ولم يتعايشوا مع همومه وتطلعاته ، وفشلوا عندما أصرَوا ولا زالوا يُصرَون على إرتداء ثوب الذل التأريخي دونما تفكر ولو للحظة بخلعه ونبذه عن أبدانهم ، وفشلوا عندما لم يجعلوا للتسامح والعفو وطي
صفحة الماضي مكاناً في نفوسهم ، وفشلوا يوم تعاهدوا جميعا ً على تقسيم الكعكة الوطنية لأفراد البيت السياسي الشيعي حصراً ، وفشلوا عندما أتفقوا على إبعاد كل الكفاءات المهنية والنزيهة وإفراغ مؤسسات الدولة منهم من خلال محاربتهم بشتى الطرق، وفشلوا يوم فتحوا أبواب التعليم العالي لكل من هب ودب للحصول على شهادة تافهة لا تساوي قيمة الورقة المدَونة عليها ليزجوا بثلة من المحسوبين عليهم في المناصب العليا لدوائر و مؤسسات الدولة المختلفة ، وفشلوا فشلاً ذريعا ً يوم أسهموا مع شركائهم الاخرين في قتل الهوية الوطنية ، فتحولت الهوية الوطنية العراقية الى هوية مكونات مذهبية وعنصرية ، بل وصلت حدود الفشل بهم الى درجة بالغة الخطورة حتى ضاع العراق وسلمت ثلث أراضيه الى داعش الإرهابي ،ومسلسل الفشل يأبى ان تكون له نهاية على أيديهم ، فكل الاطراف الشيعية قد فشلت في إدارة الأمور وهذا ما صرح به السيد حامد الخفاف ممثل مرجعية النجف الأشرف في لبنان * وإن كان وزر هذا الفشل تتحمله الأطراف المساهمة بنسب متفاوتة. وماذا بعد ياساسة الشيعة ؟؟؟؟ ماذا سيكتب التاريخ عنكم ؟ كيف ستعالجون التحديات الخطيرة المحدقة بالبلد ؟ كيف ومتى ستبنون دولة ؟ متى تجعلون الجميع يشعر بدولة المواطنة التي حلمنا بها جميعا ً؟ أعتقد إن الإجابة على هذه التساؤلات في غاية التعقيد ، لأنه لا توجد بارقة أمل في توافر الإرادة الحقيقية على خلق التغيير وإرساء عملية الإصلاح الجاد في جميع مفاصل الدولة ، فنحن للأسف وبعد مرور أكثر من ثلاثة عشر سنة لا زلنا لا نملك من الدولة غير إسمها وشكلها الهش ، وإذا ما أستمرت الكتل السياسية الشيعية بنفس أدائها الفاشل ، ستسُهم وبإمتياز في القضاء على آخر أنفاس الوطن وعندها سيصبح العراق الواحد شظايا متناثرة ، وستكون النتائج على مر التاريخ سبة ً تلاحق الشيعة ولن ترحمهم أبداً ، وسيبقى إسم الوطن الراحل مجرد ذكرى مؤلمة نترحم عليه متى وأينما حل ذكره المقدس وهذا ما لا نتمنى أن يحصل لنا كطائفة ومذهب وعقيدة وتاريخ .
* نقلا عن وكالة نون الخبرية حسب الرابط التالي https://goo.gl/.2CewWe