عندما يقرر أي مرجع أو رجل دين المشاركة في الانتخابات فإن ورقة التصويت خاصته لا تحتسب إلا بصوت واحد حاله حال بقية المواطنين . ولا مراء في أن ورقة الناخب هي التعبير الرسمي النهائي الواضح عن رأيه السياسي مثلما أنه لا مراء في أنها حق من حقوقه الشخصية التي ليس لأحد أن يصادرها أو يسفهها فهي كاشفة عن قناعاته وميوله ومزاجه الفردي ، ورجل الدين هو واحد من المواطنين في النهاية إلا إذا كان يؤمن بغير ذلك .
وإذا كان الأمر هكذا وكان رصيد أوراق الناخبين جميعا هو واحد ، فبأي مبرر يكون الرأي السياسي أو الاجتماعي للمرجع أو رجل الدين معبرا عن رأي طائفة كبيرة من الناس ؟! كيف سمح هذا المتنطع لنفسه بهذه المنزلة ؟! وكيف رضي الناس أن يتنازلوا عن حقوقهم له برضا نفس وطيب خاطر ؟!
إن أي ادعاء باتساع دائرة الاجتهاد الفقهي لتشمل دوائر أخرى هو ادعاء واضح العوار لأن الكثير من الفقهاء أنفسهم لا يدعون هذا التجاوز ، فقضيتهم الاجتهادية ومشروعيتها قائمة على دعوى التخصص وهم دائما ما يرددون على مسامع مقلديهم إن وجوب الرجوع إليهم في قضايا الحلال والحرام كوجوب الرجوع إلى الطبيب أو المعمار أو السبّاك في اختصاصاتهم المختلفة ! وإذا قررنا لرجل الدين الحق في مطالبة الناس في اتباع رأيه السياسي فقد يجوز لنا أن نقرر ذلك الحق لغيره من المتخصصين . لكن ذلك باطل في الحالتين ، لأن الخيار السياسي جزء من الإعتقاد ولا يجوز التقليد في العقيدة كما لا يجوز الإكراه فيها (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) .
المشكلة في العقل المقلّد المحيَّد والمسلوب أنه لا يريد أن يفهم أن سنن الكون التي هي من سنن الله ، ثابتة ولا تتغير (( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)) وأن أكبر سنة وأرسخها ثباتا وأكثرها فعالية في الكون هي سنّة التطوّر والتبدل . فأمور السياسة وفنونها في الألفية الثالثة لا يمكن أن تعالجها المعارف الساذجة لأهل الحل والعقد أو أغيلمة وشيوخ النوادي والدواوين القبلية في العصور الغابرة ( وإذا صادف – جدلا – أن نجحت هذه التنظيمات في مجتمع ما الآن فذلك دليل على أنه يعيش خارج عصره ) فالمشاكل السياسية في عالم اليوم هي ليست خلافا بين المهاجرين والأنصار يمكن أن يحل بالمؤاخاة أو روح الإيثار التي كانت سائدة في صدر الإسلام ، وهي ليست صراعا بين المسلمين وقريش لأداء الحج أو السيطرة على مكة يمكن أن يحل بصلح مؤقت كصلح الحديبية ، والأسلحة المستخدمة في الحروب والصراعات الآن تقتل من الناس في شهر ما كانت تقتله منهم في دهر . أما شواغل الاقتصاد العالمي المجنون بالعولمة وتقلبات السوق فلا يمكن لفقه الزكاة المأسور في فلك الغلات الأربع ( الحنطة والشعير والتمر والزبيب ) أن يستوعب شيئا من خططه !! فأسعار النفط والرز والشاي والبطاطا والأدوية و مواد التجميل تتصدر لوائح البورصة ونشرات المال والأعمال وهي تؤثر تأثيرا بالغا في معائش الناس وحركتهم .
وآراء المجتهد الفقهية نفسها خاضعة للتطور والتبدل فما بالك بآرائه السياسية المتبدلة التي غالبا ما تكون قائمة على انتمائه الطائفي أو السياسي أو العرقي وخلفيته الثقافية ووضعه الإجتماعي ومزاجه العاطفي وتكوينه الانفعالي كواحد من أفراد المجتمع . ونحن كثيرا ما نرى الانتهازية والنفعية طافحة في التعاطي السياسي لرجل الدين ، فهو يريد أن يظهر دائما وراء كل نجاح سياسي لوكلائه وممثليه في العمل السياسي ، لكنه سرعان ما ينفض يديه من كل فشل ، هو ببساطة يشارك في الغنيمة ولا يريد أن يتحمل تبعات المغرم !!
فإلى أين نتجه ونحن ما زلنا مكبلين بقيود التقليد الفقهي الأعمى لنضيف إليها المزيد من أنكال وقيود التقليد السياسي المدمر ؟!
فإذا كان سدّ باب الاجتهاد والبقاء على تقليد الأموات لدى بعض المذاهب سبّة واحدة فإن فتح باب الاجتهاد وتقليد الأحياء لدى مذاهب أخرى قد يكون سبّتين ، إذا ما تجاوز إطاره الفقهي إلى ميادين السياسة والاقتصاد وغيرها . لأن الذي يقلد الميت يشعر بالراحة وخفة الظهر في مسائله ومشاكله اليومية المعاصرة التي لا يجد نفسه ملزما بالرجوع إلى الميت فيها أو التي لايجد للميت رأيا فيها لاختلاف المادة والموضوع ، فيعمل فيها بما يتوصل إليه تكوينه الاجتماعي وعقيدته السياسية والدينية ضمن مصلحة اجتماعية متفاعلة تفرض عليه خياراته ، أما الذي شاء أن يربط نفسه بنظام تقليدي من الصنف الثاني فلا يؤمن عليه من أن يعاني ما أسلفنا من ربط طوعي ومكلف لخياراته وقراراته بخيارات وقرارات غيره التي قد تكون وبالا عليه وعلى مصيره .
[email protected]