ظلت الصورة القاتمة التي يكتنزها اهل السنة في المملكة العربية السعودية تجاه مواطنيهم الشيعة، هي المسيطرة في الذهنية السنية بشكل عام، والسلفية بشكل خاص. وقد استمرت هذه الصورة خلال الفترتين الاولى والثانية من الحكم السعودي، اما الفترة المعاصرة فقد تأثرت سلباً وايجاباً بحوادث ومواقف سياسية وعسكرية بدءاً بالتفاهم الذي حصل بين الملك عبد العزيز واهل القطيف بعد هزيمة الحامية التركية وانسحابها من الاحساء وانضمام المنطقة للدولة السعودية الثالثة عام 1913، وما تبعه من اندلاع الحركات المطلبية لابناء المنطقة منذ اواخر الاربعينيات وحتى منتصف السبعينيات، مروراً بالحدث الخطير في التاريخ الشيعي المعاصر بل وفي كل المنطقة، وهو نجاح الثورة الاسلامية وتسلمها السلطة في ايران عام 1979، وتحريضها للشيعة السعوديين على تنفيذ الثورة الداخلية على الحكم السعودي، واستمرار التأزم خلال فترة الثمانينات وحتى قرار المعارضة الشيعية باجراء تفاهمات مع الرياض ثم العودة الى الوطن في عهد الملك فهد بن عبد العزيز عام 1993، وصولا الى تفجير الخبر عام 1996، وما تبعها من احداث ذات علاقة بشرق السعودية.
يرتبط الوجود الشيعي في منطقة الخليج العربي بتداعيات وتغيرات سياسية وتاريخية شهدها الحكم العربي والاسلامي خلال الفترة التالية لاستشهاد امير المؤمنين عثمان بن عفان وحتى زوال خلافة بني أمية وتأسيس الخلافة العباسية وما خلفتها من دويلات وحركات ثورية، الا انه وحتى تاريخه لم يتم الاتفاق بين المؤرخين بشكل عام ولا بين مؤرخ سني وآخر شيعي بشكل خاص على تحديد معين يؤرخ به الوجود الشيعي في منطقة الخليج العربي وبالتالي ما زال اللغظ والاختلاف مستمراً في تاريخ التشيع والشيعة في السعودية الذي تعرض كما تعرضت قضايا كثيرة في تاريخنا الاسلامي للمغالطات والافتراءات ان لم نقل الكذب المتعمد بزيادة او نقصان او اختلاق لاسباب سياسية او طائفية ومذهبية.
رغم الاعتقاد بأن التشيع بصيغته واصوله الحالية داخل السعودية يعتبر وافداً من العراق واليمن، الا انه اصبح حالياً يشكل مكوناً رئيسياً من مكونات التركيبة السكانية في السعودية، بل يمثل الغالبية في بعض المناطق كالقطيف، حيث المذهب الاثنا عشري، وهذا لا يعني انه حديث الوجود بل هو تواجد قديم ارتبط باحداث وظروف سياسية معروفة لكل متابع.. كما ان هناك وجوداً آخر للمذهب بشكل بارز في المدينة المنورة، اما نجران، ففيها الغالبية الاسماعيلية، وهناك مجموعات صغيرة للشيعة متفرقين في بعض مناطق الحجاز.
اما عديد المواطنين الشيعة او نسبتهم السكانية في السعودية، فالوارد حولها ارقام وتخمينات متفاوتة والكلام فيها بين افراط الاقلية وتفريط الاكثرية وتعتيم الحسابات السياسية والامنية، وهذا حال مشاهد في غالبية البلدان الاسلامية التي تعاني من مشكلة اقليات طائفية او عرقية من ايران شرقاً حيث مشكلة المواطنين السنة والعرب مع الاكثرية الحاكمة من الشيعة الفرس، وحتى موريتانيا غرباً، حيث مشكلة الاقلية الافريقية مع الغالبية العربية.
وكما يبالغ بعض الكتاب الشيعة في تهويل نسبتهم السكانية الى 20% من سكان السعودية، في المقابل نجد التيارات الوطنية المغايرة للشيعة تبالغ بنفس الدوافع في تهوين النسبة الى 5%، ولم يقتصر الجدال في النسب والارقام على الافراد والتيارات بل دخل بعض مراكز ومؤسسات البحث والدراسات بحكم تخصصها في هذا الجدال… وكل ما ذكر في هذا المجال من قبل المركز او المؤسسات البحثية، فضلاً عن الافراد والجماعات هو في الواقع مجرد ردود افعال او محاولات بحثية في احسن حالاتها، الا انها لا يمكن التعويل عليها كثيراً او اعتمادها كمراجع مطلعة او مسلم بها في قضية حساسة كنسبة وعديد المواطنين الشيعة في دولة كالسعودية، يصعب فيها على الباحث الوطني الحصول على المعلومة السياسية او الامنية التي عادة ما تحاط بالسرية، فضلاً عن الباحثين والمؤسسات الاجنبية، والجهة الوحيدة التي تملك حصراً مثل تلك المعلومات، هي وزارة الداخلية التي بدورها لم يصدر عنها أي احصاء او تصريح بهذا الخصوص، ولم تسمح لأي جهة علمية او بحثية خارجية، باجراء مثل تلك الاحصائيات داخلياً، كما انها لم تعتمد على أي جهة رسمية محلية في تحديد ما ذهبت اليه من ارقام ونسب.
الا ان الواقع المشاهد للجميع، يظهر ان عملية التكاثر والتناسل بين المواطنين الشيعة، تعتبر اكثر من غيرها في بقية المناطق نتيجة الزواج المبكر وثقافة التكاثر التي يتمسك بها المجتمع الشيعي بدعم معنوي ومادي من مرجعياته الدينية ووجهائه المقتدرين… وامام هذا الواقع الاشكالي في تكوينه وفي التعامل معه كذلك، ستظل قضية نسبة الشيعة مثاراً للجدل والتخمينات، بل والمزايدات من الداخل والخارج.
ان مناقشة قضية عديد الشيعة ونسبتهم السكانية، تستدعي بشكل طبيعي نقاشاً آخر او قراءة تستهدف التنوع الفقهي والسياسي داخل المذهب الشيعي بشكل عام، وفي المشهد الشيعي السعودي بشكل خاص.. ففي مراحل تاريخية سابقة كانت الساحة الشيعية تعج بالمدارس والفرق والجماعات، وبفعل الغلبة الفقهية واحياناً السياسية، اصاب معظمها الضعف، مما ادى بعد ذلك الى اندثارها، وزال تأثيرها الفقهي والفكري ولم يبق من تلك الفرق المكونة للمذهب الشيعي الا ثلاث فرق رئيسية في العالم بشكل عام.
وتمثل السعودية نموذجاً مصغراً لذلك التنوع الشيعي، حيث تضم التركيبة السكانية السعودية ثلاث فرق رئيسية:
الاولى- الامامية الاثنا عشرية ومكانها في منطقة الاحساء والقطيف شرقاً والمدينة المنورة غرباً، وهي الاكبر حجماً وتأثيراً في الحركة المطلبية السعودية.
الثانية- الاسماعيلية في نجران.
الثالثة- الزيدية، وهي الفرقة الشيعية الاقل من حيث الحجم والتأثير في السعودية، ويتوزع اتباعها في عدة مناطق سعودية في الجنوب والغرب…
وغالبية التوجه الشيعي في السعودية، لا يخرج عن نطاقين الاول، الخط التقليدي، واصحابه من المحافظين على الموروث الديني والاجتماعي، ويفضلون الابتعاد عن الاشتغال بالسياسة، ويرفضون أي مواجهة مع الدولة. والثاني التيار الحركي، وهم المشتغلون بالعمل التنظيمي والشأن السياسي، ويندرج تحت هذا العنوان مجموعة التنظيمات الدينية التجديدية والثورية والاحزاب السياسية العلمانية…
هناك صورة نمطية وحادة رسمت في الذهنية الشيعية منذ اربعة عشر قرناً عن اهل السنة، وغذيت عقائدياً وتربوياً من خلال المراجع الدينية واستخدمت في عدة مراحل تاريخية من جهات سياسية اقليمية، كما استخدمت الشعارات السنية كذلك ولنفس الاسباب.
اغلبية السعوديين السنة من غير الباحثين لا يعلمون ان هناك فوارق واتجاهات اصولية ومدارس فقهية متعددة داخل البيت الشيعي في السعودية، كذلك يجهل كثير من السعوددين تعدد التوجهات السياسية والحزبية لدى مواطنيهم الشيعة، وكما ان هناك تفاوتا داخل المشهد الشيعي في الولاء السياسي الداخلي، كذلك يوجد تفاوت في الولاء الخارجي.
والواقع الشيعي كما الواقع السني متنوع في اتجاهاته السياسية وتفريعاته الفقهية، وكذلك ينشط التيار الاصلاحي في الوسط الشيعي بذات الدوافع الوطنية التي تحرك الاصلاحيين في الوسط السني، وفي المقابل يوجد الغلاة والتكفيريون في الواقع الشيعي كما الحال لدى السنة.
هذا الحال او المسافة بين اهل الشرق وبقية الجهات الوطنية، وهذا الواقع الشيعي السعودي.. لا يمكن قراءته ومن ثم فهمه وتحليله بشكل علمي ومتجرد ومفيد اذا ما تناولنا الواقع الشيعي بمعزل عن تاريخه، وكذلك اذا ما قرأناه كمرحلة تاريخية مستقطعة من سياق الذاكرة المعرفية الاسلامية.
ويعتقد ان دراسة او تناول الوضع الشيعي في السعودية يستبعد او يتجاهل العوامل والمؤثرات التاريخية والدينية والسياسية ستنعكس سلباً على دقة وواقعية النتائج وبالتالي ضعفاً في التحليل ومخرجاته، مع قناعاتنا وتأكيدنا على ان الحالة الشيعية السعودية شهدت تطوراً وانفتاحاً على المستوى الوطني، حيث تمكنت شخصيات دينية واجتماعية شيعية من تحقيق خطوات جريئة ومتقدمة تجاه اعادة قنوات الاتصال مع بعض شركائهم في الوطن وقد وجدوا تجاوباً ايجابياً مماثلاً ساهم في ترميم بعض الجسور المهدمة منذ قرون.
هذا التطور لا يقتصر على علاقة المراجع والفعاليات الشيعية وانفتاحها على بقية التوجهات والتيارات المحلية بل يلاحظ الزائر للمناطق الشيعية ان هناك تطوراً مشاهداً لافتاً للوضع المعيشي لسكان المنطقة.. وهذا الوضع كان من المفترض مشاهدته منذ عقود خاصة، ان مصادر ومخازن الذهب تحت اقدامهم ومن حقهم كما هو من حق بقية الشعب ان يتمتع بثروته، وان يعيش وفقاً للامكانات الحقيقية للبلد.
قبل سيطرة نظام الملالي على السلطة في ايران، لم تكن الساحة الايرانية تمثل اهمية تذكر بالنسبة للشيعة العرب وخاصة السعوديين الذين كانت وجهتهم الدينية وعلاقاتهم الثقافية والحركية في حدود المنطقة العربية القريبة من البحرين والكويت، وقبل ذلك في العراق حيث المراجع الدينية والاماكن المقدسة لدى الشيعة في كربلاء والنجف حيث تحولت تلك الاماكن/ الاضرحة الى مراقد ومزارات تحيط بها مؤسسات اجتماعية وتعليمية ودينية تبذل فيها الدموع كما الاموال… ولقد تمكن شيعة السعودية من توثيق وتأصيل علاقتهم الدينية والحركية بالمرجعيات في العراق وفي البحرين والكويت حيث بلغ النشاط الشيعي بشقيه الفكري والتنظيمي مراحل متقدمة، ورغم ما كانت تعانيه ايران من ازمات ومواجهات بين نظام الشاه وطبقات الشعب ولا سيما رجال الدين، الا انها لم تكن محركاً للاصولية الاسلامية كما هي الحال بعد قيام الجمهورية الاسلامية على انقاض النظام الملكي.
لكن قبل ان تتحول علاقات التمرد والثورة في المناطق الشيعية السعودية ناحية اليمين المذهبي متأثرة بنجاح المرجعيات الدينية في الاستيلاء على السلطة في ايران عام 1979، لم تكن الساحة الثقافية او السياسية الشيعية السعودية قد شهدت أي تنظيم سياسي على اساس طائفي حيث كانت الفعاليات الشيعية حينها تتحرك من خلال التشكيلات والتيارات السياسية الفاعلة آنذاك كالقوميين واليساريين، وكان الاصوليين الشيعة يتعاطفون مع اصحاب التوجه القومي بالحدود التي تبعدهم عن التيار الشيوعي وذلك لاعتبارات دينية…
وغالباً ما يظهر الفعل السياسي الشعبي المحلي مستوحياً مبادئه من خارج الحدود، فالبيئة السعودية السياسية والثقافية ظلت جافة لفترة طويلة، ولهذا الواقع عدة اسباب، منها التجهيل الثقافي والتأخير المعرفي الذي فرض على وسط وجنوب الجزيرة العربية خلال القرون الثلاثة الاخيرة، وذلك لاسباب سياسية، اضافة الى استخدام المرجعيات الدينية في مواجهة الاصوات التحديثية والتصدي لأي محاولة اعتراضية او مطلبية لتغيير او اصلاح الواقع السياسي المعتمد على المفردات الصحراوية المعادي للتيارات الفكرية والسياسية التقدمية خلال الخمسينيات والستينيات وحتى التيار الديني الاصلاحي خلال التسعينيات التي كانت في مجموعها تروج لمفردات المشاركة في السلطة والعدالة وتوزيع الثروات والتعددية السياسية….
ان المطالب المطروحة بقوة في المشهد الشيعي السعودي اليوم… الحريات الاساسية والمشاركة في السلطة والثروة، هي من ضمن الازمات العامة والشعبية خارج الدائرة الحاكمة ولا تتعلق بطائفة بعينها، وكذلك الوضع في القطيف ونجران والمدينة المنورة، جزء من مشكلة متوارثة ومكررة في كل بلادنا. وهذا التوصيف لا يعني انه لم يكن هناك بعد طائفي في المشكلة بل يعني ان الاختلاف المذهبي والفكري على المستوى الشعبي ليس هو اصل المشكلة، وان كان جزءاً منها بل المشكلة في الصياغات الثقافية والسياسية التي اعتمدتها العقلية المسيطرة خلال فترات الحكم التالية للخلافة الراشدة، وما زالت معتمدة حتى الآن، كما هي متعلقة بنظرة الفئة السائدة لبقية الفئات المسودة، وكما ان هناك من الشيعة من عانى الظلم والحرمان كذلك يوجد في السنة من هو مظلوم ومحروم ينشد العدالة، ويتساءل عن حقيقة الرايات الدينية المرفوعة.
وبناءً على ما قرأناه من تاريخ وتراث وما حصل من احداث يبقى المشهد الشيعي محصوراً بين التهميش الداخلي والاستغلال الخارجي، وعليه سنتخيل المستقبل وفقاً لما يقرره الفعل الشيعي اذا ما اختار ظل الحسن او خيل الحسين.
• الكتاب
الشيعة السعوديون، قراءة تاريخية وسياسية، تأليف – ابراهيم الهطلان، ط1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2009، 276 صفحة
[email protected]