كان جالسا في المقهى ، ممسكا بكلتا يديه بقدح القهوة ، وكأنه يستجير به من البرد أكثر من رغبته في أحتسائه ، كانت أشعة الشمس تخترق النوافذ ، كاشفة عن جو معكّر بالغبار ودخان السكائر ، تزيد من كثافته الكلمات المتطايرة من أفواه الزبائن وكأنه قيء غباري ، (الغمامة كثيفة هذا اليوم ) قالها في نفسه ، فقد كان يرى فيها مقياسا لهموم الناس وأحزانهم ، كان زجاج النوافذ مهشّما ،تعربد فيه الرياح الباردة ، لقد ملّ صاحب المقهى من كثرة تصليحها بسبب الانفجارات ، فتركها مثل شق لا يمكن رتقه .
كان قلقا ، ما الجديد في ذلك ؟ فالقلق هو القاعدة ، والطمأنينة هي الأستثناء، ولقلقه مبررات كثيرة منها اللاشعوري ، انها مسألة وقت ، حتى يحدث انفجار أخر ، وكلما دخل المقهى ، كان يتوقع انهم سيخرجونه منه أشلاءً ، لم يكن يعرف سبب ارتياده لهذا المقهى ، الأجدر ان يبتعد عنه وفي ذلك قد تكون نجاته ، ولكن ثمة قوة غامضة تحثه على دخوله ، وكأنها لعنة لا مفر منها ،هل هي لأجل الهروب من فلك الرّتابة ؟ ولماذا هذا المكان بالذات ؟ ، ربما لأن لا أحد آمن حتى في قعر منزله ،بل حتى الموتى في القبور .
ركز نظره على سطح القهوة البني الداكن في القدح ، وما به من زَبَدٍ وفقاعات وانعكاس للأضواء ، لوحة عبثية صغيرة تستحق التأمل، شعر برغبة ، ان تتواجد قربه قارئة فنجان لتستقرئ طالعه ، لماذا كل قارئات الفنجان من النساء ؟ هل لأنهن يمتلكن مَلَكة الفراسة ؟، أم انهن يؤمنّ بالخرافات ؟ ، أو ربما يمتلكن نوافذ غيبية لا تتوفر لدى الرجال ،(وماذا عني ؟ الست ُ أؤمن بالخرافات بلجوئي اليها؟ أم لخلق فاصلة زمنية لأبتعد بها عن قلقي المزمن ولو الى حين ؟) قالها مع نفسه ، على كل ، المقهى خال من النساء كما هو شأن كل المقاهي الشعبية ، وكأن الرجال عاطلون بالفطرة ، والنساء عاملات بالفطرة ! ، فكلّ النحل العامل من الاناث !.
طَرقَ سمعَه ُ صوت انتشله من عالم الخيال والفنتازيا الى عالم الواقع وما به من دخان وغبار وضجيج قائلا :مرحبا ، رفع رأسه وأذا برجلٍ شكّلت أناقته علامة فارقة في المقهى ، ذو ملامح جامدة ، وعينان مطفأتان من اي بريق وخاليتان من التعبير ، وقد مد اليه يده قائلا : أنا الشيطان !.
اسم مخيف ، الجميع لا يدّع الوصلَ به حتى شياطين الانس ، لكنه لم يتفاجأ ، ربما لأن الشيطنة تحيط بنا في هذه الدنيا حتى غدتْ مألوفة ، بل ان صفة (شيطان) صارت في مجتمعنا تطلق على الذكي والحذق! ، أضاف اقتحام ذلك الغريب لوحدته عبئا الى أعباء همومه ، لذلك رفض الجالسُ أن يصافح الغريب ، ورغم ذلك جلس الغريب بقربه على نفس المائدة غير مكثرث ببرودة الاستقبال ، شعر الرجل الجالس بالضيق من تطفّل الضيف فالتفت اليه قائلا:
– يا سلام ! ، شيطان مرة واحدة !.
– هل أنا كبير في نظركم إلى هذه الدرجة ؟! ، لقد شعرتُ بالإطراء!.
ازداد ضيق الرجل الجالس فالتفت يمينا وشمالا متأففا كمن يبحث عن مهرب وقال : أعوذ ُ بالله ، فقال الغريب:
– الجميع يقولُ هذا في البداية ، أعلمُ أنك ترددها كالببغاء ولا تعنيها ، كان عليّ أن أدخل بلا استئذان كعادتي فتتقبلوني بصدر رحب، من النادر أن أقدم نفسي، يبدو أن الأسماء تهمكم أكثر من المسميات .
– اغرب عن وجهي ، اذهب وخرّب العالم ، اليست تلك مهمتك ؟
– لقد وجدتك وحيدا ، فأرتأيت أن أسلـّيك! .
– لديّ من الهموم ما يكفي لتسليتي .
– هل هذه طريقتكم في الترحيب بالغرباء ؟ ، انما الكلام أخذ وعطاء ، انا مجرد (بزنس مان) ، ولكن أختصاصي الارواح وليس المال .
– ابحث عن غيري ، فلست ُ من طراز (الدكتور فاوست – Dr.FAUSTUS) .
– أعلم ذلك ، فأنت لا تمتلك طموحا كالدكتور ، ولكني اردت ان ابرم معك صفقة من نوع أخر تماما ، قل لي ،هل تعتقد أن مسرحية (الدكتور فاوست) او فيـــلم (محامي الشيطان- THE DEVIL’S ADVOCATE ) هي مجرد قصص خرافية ؟
شعر الجالسُ وكأن الغريب يختبر ثقافته ، فقال على الفور:
– نعم هي كذلك
– عرّف الخرافة ، للخرافة نتائج ، لا يشترط أن تكون وقائعا تراه العين ، وكما ترى، نتائجها موجودة في كل مكان ، كل مدينة ، ربما في كل بيت أو نفس!، الم تتطلع أنت الى قارئة لفنجانك؟!.
– كيف علمت بأمر قارئة الفنجان ؟
– صدقني ، جميع من يحتسي القهوة ، لديه هذه النزعة .
– ربما انت على حق
– انا لا أغصُبُ أحدا منكم أو اضربه على يديه ، انتم مَنْ تسعَونَ اليّ .
جميعكم حصلَ على شرف لقائي ، منكم مَنْ تدفعهم شهامتهم ومبادئهم الى أنْ يصرخوا في وجهي (اذهب الى الجحيم ) !، وأضحكُ في قرارة نفسي ، فالجحيم موطني وبيئتي ، ثم لا يلبثوا أن ينسوا كل مبادئهم تحت كعوب أحذيتهم ، بعد أن يسمعوا قائمة مغرياتي ، فأخـُذَ بأيديهم ، وأدفعُ بهم إلى طريق اللاعودة.
شعر الرجل الجالس بشيء من الفضول ، ان كلامه مثير للاهتمام ، فقرر ان يجاريه :
-هل هنالك مَنْ رفض عروضك ؟
-القليل القليل ، مجرد قائمة غير طويلة من الأسماء ، انتم تدرسونهم في كتب التاريخ ، جعلتم منهم مُثلا عُليا وتُعجبون بهم ايما أعجاب ، انشأتمْ الاحزاب والحركات والتيارات التي تنادي بمبادئهم ، قولا وشعارا فقط ولكنكم لا تقلدونهم فعلا ، وما إن تمكنتم وحصلتم على كرسيّكم السحري ، حتى أكتفيتم به فهو غايتكم ،وانفضضتم من حولهم وبدأ عددهم يقل حتى انحسر في زمانكم ، وولـّى معه عصر المعجزات ، وها هو عصري الذهبي حقا ، شَهِدتُ فيه إزدهار المثلية وتمجيد الإلحاد .
(وأشاح بوجهه غاضبا كأنه يحدّث نفسه متعجبا): لقد رضوا بحياة متواضعة ، يا الهي انهم كالملائكة ، لا أطيق مجرد التفكير بهم ، كان أحدهم كالحائط الصخري الخالي من الثغرات ،لا أنفذ ُ من خلاله ولو تحولتُ إلى دودة ، بل جرثومة ،أحسدهم حتى يوم القيامة !.
لا أخفي عليك إن مهمتي معكم هذه الأيام أقل تشويقا ، ففي الماضي كنت إذا دخلتُ نفْسَ أحدهم ، أجده وقد أعدّ لي الكثير من الفخاخ والمصائد والكمائن ، واليوم لا أجد هذا فيكم ، قل لي ، ماذا ستفعل إذا دخلت غرفة خاوية بلا أثاث ،إلا أن تمل وتخرج !.
أحس الرجل الجالس ان الكلام يعنيه ، وانه كالشتيمة ولهذا شعرَ بالتبرم وبالضيق من وجوده وهمّ بالانصراف ،وقبل ان ينهض قاطعه الغريب قائلا :
-أنت ساذج حقا ، هل تعتقدني فردا ما كأمثالكم ؟ لأني لست كذلك ، أنا ظاهرة انبرتْ لإغواء البشر مذ أن خُلقوا ،أنا في كل مكان وزمان ،يكفي أن تتذكرني فأهبّ لندائك ، الم تقولوا (إذا ذكرتَ الشيطان ،ذكـَرك – If you mention the devil)
كما ترى لديّ كل هذه الإمكانيات الهائلة ، ولكني أحسدكم انتم البشر ، وأشفق عليكم في أن واحد ،أحسدكم لأنكم تمتلكون عقلا هائلا قد يصنع معجزات تخيفني بل تنسفني ، وأشفق عليكم لأنكم لا تعرفون أسراره ، سبرتم أغوار الفضاء ، وتركتم سبر دواخلكم ، مَنْ انتم حتى يكون لكم دوما طريق للعودة ، وأحرَم أنا منه !.
أشفقُ عليكم أيها البشر ، انتم تافهون رغم حضاراتكم ، تـُصوّروني على إنني مسخ قبيح ،بوجه مخيف وقرون ، وأجنحة كأجنحة الخفـّاش ، وذيل كالأفعى ، تارة تصوروني كالعقرب أو حتى كالعنكبوت المسكين ! هكذا تتفتقُ ذهنيتكم عني.
أعترفُ لكم أن هيئتي الحقيقية أبشع بكثير مما في نظركم ،اصنع مقاسات هيئتي حسب ضحيتي ،لأجعلها اسوأ كوابيسه عندما يحين دفع الثمن ، أتعرف لماذا ؟ لأني خلاصة قاذوراتكم، وجانبكم المظلم الكالح، لم آتِ بشيء من جيبي، استمد شكلي، بل حياتي من زلاتكم وكبواتكم، أنا خالد كخطاياكم وحماقاتكم، وكما ترى إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة لي !.
أنا الخوف ، انا الغفلة ، انا النسيان ، انا الحقد ، انا الحسد ،انا الكذب ، انا كل الصفات التي تسمونها سلبية ،انا الأب الشرعي لكل خطيئة ، كبرت أم صغرت ، ولا أكف عن تسويقها لكم ، انها مسألة عرض وطلب!.
فقال الرجل الجالس هازئا: لماذا لا تبهرني بطلعتك البهية الحقيقية ؟!.
الغريب : لست غبيا حتى أظهرَ لكم على طبيعتي ، فتتحاشوني وتولّوا هاربين مرعوبين قبل أن ابرم الصفقة ، كل ما يهمكم هو المظهر ، لا الجوهر ، فألجأ إلى حيلتي التقليدية ، سهل عليّ أن أغير هيئتي إلى رجل وسيم ، ببدلة أنيقة وربطة عنق ، أو امرأة جميلة ، بمفاتن يسيل لها لعاب كلابكم ، أو حتى طفل وديع ، فتتهافتون حولي ، كالحشرات التي تسعى للنار ، هذه هي فخاخي وشراكي ! ، أدخلُ إليكم من بوابة الغفلة والخواء الروحي ،لا اتعب نفسي ، فأبدأ بالأمور الصغيرة ، فما تلبث أن تكبر ،انتقي نقاط ضعفكم باعتناء ، لقد درسْتـُكـُم أيها البشر مذ خُلـِقـْتـُم ، وأعترف أني لا أحيط بكم علما كاملا .
في أدمغتكم كرات قلقة من الثلج ، مهمتي أن أحركـْها فقط ، فتسقط لتنمو محدثة انهيارا ثلجيا هائلا، الأمر في غاية السهولة !.
الرجل : لم أفهمْ.
الغريب : كذبة أُزيّنها لكم على إنها بيضاء ،أدغدغ الغضب في داخلكم فأقتل التسامح وأجعل الذنب لا يُغتفر، فأغذيه وأنمّيهِ حتى أجعله وحشا يتأكلكم ، أؤجج الرغبة في الانتقام فأجعله شوكة في الجنب ، أجعل الكذب مشروعا ، والقتل مقدسا لأجل غاية أسمى ،اشجّعُ على التدليس وسائر أوجه الغش ، الجمُ فَمَكَ إن كنتَ مظلوما حتى تعتاده فترضى به ، ابرّرُ لك ظلمك إن كنت ظالما فيصير لك نهجا ، اضخـّم الخوفَ فأجعله عظيما يقض مضجعك ، افحص تربتك فأجدها صالحة لزرع الشك حتى تنمو ويشتد عودها ، فتملأ عقلك بالاشواك حتى لا يبقى به متّسع ،هكذا يموت الضمير ، انا قاتل الضمائر! ، جميع سياسيو وحكام ومنظمات هذه الكرة التي تسمونها الأرضية ، ورثتي وأتباعي ! .
خلاصة القول ، لا مهرب مني ،لطالما اخترقتُ أقوى الحصون ، فلما يئستُ من (ادم) ، همست في أذن (حواء) ، أنا مَنْ تدخـّل بين يوسف وأخوته ، أنا مَنْ سبّب كل مآسي أنبيائكم!، أماحصونكم فهي من ورق ، لا يتطلب مني أكثر من عود ثقاب ، لتحترق ، وانتم بداخلها .
تعتبرونني شر مطلق ، ولكني لست كذلك ، انا مَنْ أدلكم عليه وسط ركام ضعفكم وأنقاض شتات أنفسكم وعُقـَدِكـُم ، ليس إلا !.
أتدري ما هو أعظم اختراعاتي على مر العصور؟ ، وقد توصلتُ إليه بفضل تلامذتي النجباء من جنسكم ؟
– المجاعات ؟
– هذه نتيجة وليست سببا ،فلست قادرا على اجتراح المجاعات .
– الاوبئة ؟
– لست قادرا على تسبيبها هي الأخرى ، هي نتيجة أيضا .
وبقي يعدد كل الآفات التي تفتك بالبشر، من تلوّث وفقر وطغيان وفساد ومخدرات ، وهو لا ينفك يهز رأسه نفيا حتى أعياه ، فسكتَ ، فبادره بالجواب : أن أتغلغلْ في عقولِ ساستـِكم ومتطرفيكم فيشعلوا الحروب ….. بممممم …!
كان هذا المقطع أخر ما سمعه منه ، اذ استحال المقهى الى قطعة من الجحيم ، بدوي مخيف افقده سمعه ، وجد نفسه يدور في دوامة من الاشلاء البشرية والزجاج والاكواب والمناضد في الهواء ، وكأن المقهى هو الذي يدور به بسقفه وأرضيته ونوافذه ، ازداد الغبار سماكة حتى أصبح ليلا ، لحظات كأنها سينما صامتة بالأسود والأبيض ، لحظات اعتقدَ انها لن تنتهي .
وبعد وقت ، فتح عينيه فوجد نفسه ملقى على الارض ووجهه الى الجانب ، فتح عينيه فلم تسعفه الا واحدة وقد اكتسى المشهد الذي تراه بستارة حمراء ، لا شيء سوى الصمت ، يتخلله سقوط ما تبقى من الشظايا ، سمع انينا خافتا ، بكاء ، ثم عويل ، فصراخ هستيري ، لم يشعرباي شيء حتى ينضم الى جوقة الألم المرعبة ، استغرب ، فلا ألم يعتريه ، فتح فمه ، لا صوت ، حاول تحريك رأسه ، ولا حراك ، وما لبث ان خيم عليه الظلام ، وأختفت الاصوات وتلاشى المشهد .
قال الشرطي لزميله وهما يفحصان موقع الانفجار : مسكين هذا الشاب ، لا بُدّ أنه كان جالسا قرب الانتحاري !.
وهكذا أخرجوه من المقهى أشلاءً .
وخارج المقهى ، كان (الغريب-الشيطان) واقفا مع حشد المتفرجين الذين ابعدتهم الشرطة ، وقد علتْ وجهَه ُ، ابتسامة ًصفراء.