الشيطان الأكبر.. النسخة الأحدث

الشيطان الأكبر.. النسخة الأحدث

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي..

كانت إيران على عهد جديد بالثورة، وكذلك كان صدام حسين في بداية عهدته الرئاسية الأولى، وكان كل من الطرفين – بطبيعة الحال – متربصاً بالآخر لفرض هيمنته على المنطقة من ناحية، ولرواسب نفسية تراكمت عبر عقود من علاقات جوار سياسية مريبة ومضطربة غير مستقرة من ناحية أخرى.

لم يكن الشيطان غائباً

صحيحٌ أنّ الحربَ بين الجانبين كانت متوقعة ولكن بقيت أسباب نشوبها المباشرة ودوافع كل طرف على دخولها مبهمة وغير واضحة لكل المتابعين والمحللين السياسيين، لقد كانت الأسباب والدوافع المعلَنة من كل طرف تختلف عن تلك الكامنة في النوايا.

ومما يُدَلّل على ضبابية المشهد التي غيّبت وراءها الدوافع الحقيقية على الحرب لدى الطرفين – أنك عندما كنتَ تسألُ في حينها أيّ طرفٍ عن أسباب دخوله دائرة تلك الحرب غير المُبَرّرة، كان الردّ يأتيك مباشرةً: أبداً ،لقد بادرَنا الطرفُ الآخرُ بالاعتداءِ،  فباشرناه نحن برَدّ الاعتداء.

فقد كانت إيران تُصرّح دائماً أنّما هي مَحضُ رَدٍّ على فِعلٍ أصليّ هو الاعتداء. ومثل ذلك كان يقول العراق!.

حيرة كبيرة إذن وسؤال صعب: مَن هو صاحب الفعل الأصيل البادئ بالعدوان، ومَن هو بالتالي رادّ فعل العدوان؟.

  لابُدّ – إذن – أن هناك طرفاً ثالثاً هو مَن بادر بالعدوان، وأن هذا الطرف الثالث لابد حتماً أن يكون هو الشيطان.

الشيطان الأكبر.. حَسب الإمام الخميني

عندما كانت القضية تُطرحُ بصورتها تلك على طاولة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران “آية الله الخميني” كان الرجل يتجاوز دائما معلومةَ أنّ الشيطانَ هو صاحبُ الفعل الأصيل في الاعتداء، ويذهب مباشرة ليقرر معلومةً  مستقرةً لديه دائماً – في مستوى أرقى –  وهي أنه وإن كان البادئ بالاعتداء حقاً هو الشيطان، فإن أمريكا – على كل حال – إنما هي “الشيطان الأكبر”.

  وظلت تلك مقولةً مأثورةً  تُكرَّرُ في كلّ مناسبةٍ وتُكتب على كل صفحة من صفحاتِ كتابِ الحرب التي طال أمدُها حتى نهاية عقد الثمانينيات.

  “فلتسقط أمريكا.. نداء صدام حسين

المدهش أن الطرفين الإيراني والعراقي الَّذَين اختلفا – في الحرب – في حقيقة الأهداف والدوافع المعلنة – أقول: المدهش أنهما اتفقا على رؤية واحدة لأمريكا ” كونها الطرف الثالث” الحقيقي لأيّ طرفين يوجد بينهما عداء!.

فبينما كان الإمام الخميني يرفع شعار:” أمريكا.. الشيطان الأكبر”؛ كان الرئيس صدام حسين يرفع شعار السقوط لأمريكا، ورأينا رجاله و وسائل إعلامه، يُلحِّنونه ويُغنّوُنه، ويخُطُّونه على الحوائط و الجدران، وفي الشوارع والحواري والأزقة وعلى أرصفة الطرقات: “فلتسقط أمريكا”.

أتَذَكَّرُ ذلك الآن، ونحن نرى ذات المشهد يتكرر؛ ولكن بنسخته الجديدة “2025” وقد حَلّ الكيان الصهيوني هذه المرة محل الطرف العراقي في دائرة الصراع.

وكذا يبقى المشهد ضبابياً بين الكيان وجمهورية إيران ؛ ورغم العداء الاستراتيجي بين الطرفين منذ بزوغ فجر الثورة الإسلامية في إيران، إلا أنهما يشكلان الآن طرَفيّ نزاع على مستوىً عسكريٍّ عملياتي غير مسبوق؛ ولكن..

تبقى الدوافع والمُحرِّضات على دخول الطرفين في سجال تلك الضربات العسكرية المتبادلة هذه الأيام تبقى مُلتَبسة ومبهَمة.

فإذا سألتَ إيرانَ الآن عن دوافعه على هذه الحرب، سيقول لك:” إنما أنا أرُدُّ الاعتداء، دفاعاً عن وجودي كدولة وكنظام.

وإذا سألتَ الكيانَ الصهيوني عن دوافعه على المبادأة بالاعتداء على نظام ودولة إيران، سيكرر لك نفس الدوافع: بأن الكيان إنما يستبق العدوان بالعدوان دفاعاً عن وجوده كدولة وكيان!.

“الشيطان يُعلن عن نفسه”

  عند هذا الحدّ يَحق لنا كمراقبين ومتابعين أنْ نبحث ونحلل ونستقصي الدوافع والأهداف المعلنة لكل طرف من أطراف المنازلة “الاسرائيلية –  الإيرانية ” ونقارنها بالنوايا الحقيقية وبالأهداف غير المعلنة لكل منهما.

وكما تقول تجاربنا عندما يكون المشهد ضبابياً ومُلتبساً بين طرفي النزاع فعلينا أن نفتش عن الطرف الثالث الخَفِيِّ وراء الكواليس، لكن الطرف الثالث في هذه المرة حاضرٌ و بَيِّنٌ، ولسنا في حاجة للبحث عنه؛ فهو نفسُه يُعلن كل يومٍ عن نفسِه – إنها أميركا.. شيطان الخميني الأكبر؛ تلك التي ما فتئت تُغذِّي النار، وتُرهِب وتُرعب، وتهدِّد وتتوعّد مستخدِمةً – ربيبها غير الصالح – الكيان الصهيوني المسخ كرأس حربة، مرة في محاربة العراق وأخرى في محاربة غزة وثالثةً في محاربة إيران… والحبل لا يزالُ على الجَرّار!.

“شيطانٌ ذو سيادة”

والسؤال الطارح نفسه علينا الآن: هل الكيان الصهيوني العربيد يلعب دوره دوماً في هذا الصراع كوَكيلٍ للشيطان الأميركي، أم أنه يلعب دوره هنا بالأصالة عن نفسه كشيطان حرّ مستقل ذي سيادة؟!

“مسرحٌ.. وخيوطٌ وعرائس”

ربما لو كان مسرح العرائس هنا مقتصراً على هذه الشخوص وتلك الخيوط التي نراها تتحرك على خشبة مسرح الأحداث الدائرة أمامنا هذه الأيام لكان الأمر بسيطاً والفَهْم يسيراً، ولَكانت الصورةُ واضحةً جَلِيّة.

ولكن أنَّى يكون هذا الانجلاء، وذلك الوضوح – وهناك أدوار أخرى عديدة في رحم الغيب وشخوص خفية أُريْدَ لها ألّا تظهر على المسرح.

ولا نجاوز الحقيقة إلى الخيال عندما نقولُ أنّ الكواليس تَعُجّ بالأحداث الأغرب والأخطر بكثيرٍ مما نراه ظاهراً وجلِيّاً – آنيّاً – على المسرح.

لا شك أن هناك مَن يقوم بدوره في إدارة المشهد ممسكاً بخيوط كل تلك العرائس – يلعب بها، ويَزِيْدُ فيتلاعب بنا كمراقبين ومحللين، أو كشعوب وجمهور.

وإذا أردنا استقصاء الأمر فمن نافلة القول أنّ هناك مَنْ يُمسك بخيط مدير المسرح نفسه؛ ذلك الذي يمسك بين أصابعه  بزمام كل تلك الخيوط.

وإذا أردنا الاستقصاء أكثر؛ فإن علينا ونحن نفتش عن كل تلك الشخوص التي تدير المسرح من الكواليس – علينا أن نفتش – من باب أولى – عن مُنتِجِ تلك المسرحية والذي يقوم بالتمويل.

“نكْأ الجراح.. واستنزاف الدمّ”

آن الأوان أن نتوقف في التوِّ واللحظة لنرصد و نُؤشِّر مَن يقف وراء ذلك الإنتاج الرديء الخبيث لتلك المسرحيات الشيطانية – ذلك الذي لا يفتأُ يُمَرجِحنا ويهز كياناتنا في تَردادٍ مستمرٍ لا ينقطع، بين الملهاة والمأساة؟!.

آن الأوان أن نتوقف، ونفكّر في مَن يُموِّل نكأ الجراح، واستنزاف الدمّ.

فإذا عُدنا إلى المسرحية المعروضة علينا هذه الأيام وسألنا عن تكلفة كل يومِ عرضٍ في فصل الحرب بين اسرائيل وغزة، مضافاً إلى تكلفة كل يوم عرض في فصل الحرب بين إسرائيل وإيران، وكذا بين اسرائيل واليمن، واسرائيل وحزب الله، وكل فصول النزق والعربدة التي تكون دائماً اسرائيل طرفاً فيها، كم تكون التكلفة إذن؟!

لابد أنها تكلفة باهظة وغير محتملة؛ خاصة أنها على كيان صغير يحتل بلداً وصفها ترامب أمريكا أنها على الخريطة لا تتعدى حجم وشكل رأس قلم الرصاص!.

والسؤال المطروح دائماً: مَن يدفعُ ثمن الحرب عن اسرائيل اليوم التي باتت أراضيها – التي اغتصبتها من أهلها – اليوم مُنتهَكة، ومؤسساتها مُخترقة واقتصادها هشّ؟!.

نعرف أن أمريكا تمد هذا الكيان العربيد بالمال والسلاح والذخائر، ولكن الفاتورة كبيرة، والضربات الإيرانية الكمية والنوعية عنيفة ومُدمرة، والمواطن الأمريكي لن يستطيع دفع كل ضريبة هذه الحرب القذرة التي تخوضها إسرائيل النزقة وتَجُرُّ إليها رِجْل ترامب الغِرِّير، وهنا يبرز إلينا السؤال المنطقي التالي : مَن يدفع عن أمريكا فاتورة الحرب التي تدفعها عن الكيان الصهيوني المنهزم، مستصرخاً أمريكا إمداده بالمال والسلاح والذخائر، وأحدث الطائرات والقنابل؛ حماية لأمنه ككيان هش منهزم أمسى غير قادر على حماية نفسه منذ طوفان السابع من أكتوبر 2023 وحتى الوعد الصادق 3 والحبل لا يزال على الجرّار؟!.

“المال الفاسد.. و النفط الحرام”  

كانوا يأكلون رؤوسنا دائماً بالسؤال الاستفزازي إيّاه: كيف لكم أيها العرب بملايين مواطنيكم الأربعمائة أن تهزمكم شراذم جاءتكم من الشتات لا يتعدى عددهم على أرضكم 10ملايين مستوطن؟!

وكيف لكم أيها المسلمون أن يُعربد بكم وعلى أرضكم كيان صغير مسخ ذو العشرة ملايين نسمة وأنتم أمة المليارين؟!.

الآن الآن يجيئكم ردّ السؤال عبر النقال، وعلى هواء كل الفضائيات صوتاً وصورة:

إن مَنْ استنزف الكيان العربيد المسخ اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً هم العرب والمسلمون المقاومون المجاهدون الصامدون، ولكن و يا للأسف إن مَن يعطيه دائماً قُبلة الحياة هم أيضاً من المحسوبين على العرب والمسلمين حكاماً وملوكاً وسلاطين.

واذهبوا فاسألوا اليوم ترامب أمريكا من أين له تلك الخمس تريليونات دولار التي يدفع منها تكاليف فواتير خسائر ربيبته اسرائيل الحربية؟!.

“الشيطانُ.. ذو النسخةِ الأحدث”

رحم الله صدام والخميني/ ورحم زمانهما الذي مضى/ وهتافهما الذي بقى/ دعاءً بالسقوط لأمريكا/ الشيطان الأكبر/ أُسِّ كلِّ عداء واعتداء/ مانحة كيان الشرّ وشراذم الشتات قُبلة الحياة/ في كل مرة يُشرف فيها على الهلاك.

ورحم الله شهداء غزة وأبطالها المقاومين الصامدين، وكل اخواننا المستبسلين في الدفاع عن الأقصى وغزة وكل فلسطين، ورحم الله اخواننا في إيران واليمن والعراق وكل المسلمين الصابرين المجاهدين المدافعين عن الحق والأرض والدين والعِرض.

وسُحقاًْ سحقا/ لتريليونات ترامب الخمس/عوائد نفط السُحت/ والمال الحرام/ الشيطان الأكبر/ ذي النسخة الأحدث.

أديب وكاتب رأي مصري

أحدث المقالات

أحدث المقالات