في تاريخ القبائل العربية، يبرز شيوخٌ تركوا بصمات خالدة لم تُنصفها عدسات الإعلام، لكنها سُطرت في ذاكرة الرجال وقلوب الأجيال. ومن بين هؤلاء يبرز اسم الشيخ مدالله بن خضر آل عمر، أحد أعلام قبيلة الجبور، الذي جمع بين شجاعة الفارس وكرم المضيف وحكمة القائد. عاش كريمًا في عطائه، مقدامًا في مواقفه، وحكيمًا في إدارته لشؤون قومه، حتى غدا عَلَمًا بين شيوخ زمانه ومرجعًا عند الملمات. ورغم ما سُجل له من مواقف مشرّفة في صفحات التاريخ، فإن الإعلام لم يمنحه حقه من الذكر، غير أن أبناءه وأحفاده ما زالوا حتى اليوم يواصلون مسيرته ويحملون رايته.
ولد الشيخ مدالله عام 1857 في منطقة غرب الموصل، وترعرع في مضيف والده الشيخ خضر آل عمر، الذي كان يترأس عشيرة الشويخ آنذاك، كما تذكر الوثائق العثمانية. وقد كتب عنه الباحث والمؤرخ التشيكوسلوفاكي ألويز موسيل.
استلم الشيخ مدالله زمام المشيخة بعد وفاة والده عام 1895، وسار على نهجه في القيادة. وتذكر الوثائق أن قائدًا عثمانيًا زار مضيفه بأمر من السلطان عبدالحميد الثاني، وقدّم له بندقية نوع “ميري” وختمًا ( مهر ) باسمه تقديرًا لمكانته.
لم يكن الشيخ مدالله شيخًا قبليًا فحسب، بل كان فارسًا لا يخشى في قول الحق أحدًا. وقد سجل التاريخ موقفه الكبير عند مجاعة عام 1917، حين قام ببناء “بيوت من الشعر لإطعام الوافدين من مختلف العشائر والقوميات، واستمر في استقبال الضيوف وإطعامهم نحو عام كامل.
وقد خلّد أحد شعراء قبيلة شمر هذه المواقف قائلًا:
منعول أبو الصوبين مطلعٍ بس مدالله
أغليه لو ما عطاني شيٍ محبّة وغلى من الله
من الموصل إلى زمار ودك حلاله لمدالله
يفرح لي جتو ضيفان يقدّم النجر والدلّة
وكان للشيخ مدالله دور بارز مع ثوار تلعفر أثناء ثورة العشرين، ويُعد أحد فرسان الجبور الذين شاركوا في تحرير قلعة تلعفر من الاحتلال البريطاني. وبعد تأسيس الدولة العراقية، أوكلت إليه رئاسة لجنة تحكيم قضاء تلعفر وقراه، حيث كانت الأحكام تُعتمد عرفيًا في ظل استمرار الاضطرابات.
وفي عام 1933، استدعاه الملك غازي إلى قصر الزهور تقديرًا لمكانته، وبعد لقائه به أعجب بفصاحته وحكمته، ومنحه ختمًا ملكيًا خاصًا تكريمًا له.
تزوج الشيخ مدالله ست مرات، وله ستة أبناء. وقد وافته المنية عام 1942، تاركًا إرثًا اجتماعيًا وقبليًا كبيرًا سطّره التاريخ منذ العهد العثماني، مرورًا بالاحتلال البريطاني، وصولًا إلى العهد الملكي.
تولى المشيخة من بعده ابنه الشيخ جميل المدالله، الذي أصبح فيما بعد رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في الموصل. وفي عام 1968 استدعاه رئيس الجمهورية وكرّمه بمنحه قطعة بندقية نوع “صليب” ومسدسًا تقديرًا لمواقفه. وتوفي الشيخ جميل عام 1972 بعد مسيرة حافلة بالعطاء.
ثم حمل الراية بعده أخوه الشيخ علي المدالله، الذي عُرف بحكمته في فضّ النزاعات، وتوفي عام 1980. ومن بعده جاء الشيخ شلتاغ علي المدالله، الذي أعاد للأذهان كرم أجداده، خصوصًا في سنوات الحصار خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث وزع الحنطة على المحتاجين رغم تعرّضه للمساءلة القانونية، ولكن لمعرفة المسؤولين بهذه العائلة الكريمة، تم إغلاق الموضوع واستمر في مشيخة العشيرة إلى أن وافته المنية عام 2012.
وما تزال راية هذه العائلة مرفوعة بفضل أبنائها، ومنهم:
الشيخ مزهر علي المدالله
الشيخ سبهان شلتاغ علي المدالله
الشيخ نواف عزيز المدالله، الذي عُرف بحكمته وعلاقاته الواسعة مع المسؤولين والسياسيين داخل العراق وخارجه.
إن الحديث عن آل المدالله ليس مجرد استذكار لتاريخ مضى، بل هو توثيق لمسيرة عائلة عربية أصيلة من قبيلة الجبور، سطّرت أفعالها بحروف من نور، وبنت علاقات راسخة مع قبائل نينوى وسائر القوميات. وما زال أحفادها يواصلون طريق العطاء الذي بدأه أجدادهم قبل أكثر من قرنين.
ملاحظة: استندتُ في المعلومات الواردة في هذا المقال إلى رواية الشيخ مظهر علي المدالله، حفيد الشيخ مدالله الجبوري، فله جزيل الشكر والتقدير…