الشيخ عبد الكريم الماشطة مصباح علمٍ وتنوير في ظلمات الركود

الشيخ عبد الكريم الماشطة مصباح علمٍ وتنوير في ظلمات الركود

في ذاكرة الحلة الفيحاء، حيث تعانق الروح ضفاف الفرات، وتتعانق المنائر بأصداء العقول النيّرة، يسطع اسم الشيخ عبد الكريم الماشطة كواحد من أعلام النور، وعنوانٍ لجيلٍ من العلماء الذين لم ينقطعوا عند حدود المدارس والمحراب، بل مدّوا ظلّهم إلى مساحات المجتمع والفكر والنضال الإصلاحي.

وُلد الشيخ الماشطة عام 1881، في مدينةٍ تجذّرت في حضارتها أصول المعرفة، وتفتّحت في دروبها شذى المجالس العلمية وروح الإصلاح. نشأ في بيتٍ تحفّه الثقافة الدينية، وترضعه القيم النبيلة. ومنذ نعومة أظفاره، بدا كأن بينه وبين الكتب عهدًا سرمديًا لا يفتر، ولا تنفصم عراه. كان الفتى الذي يجالس العلماء في حلقات الدرس، ويحتضن الكتب كمن يحتضن قدره. ولئن سكن صوته الصبياني حينذاك، فإن صوته العلمي كان يشق دربًا ناصعًا إلى المستقبل.

كبر الشيخ، وكبرت معه هواجسه الفكرية، وأشرعت له أبواب العلم الشرعي، فأمعن في دراسة القرآن الكريم، وطرق أبواب الحديث الشريف، وتعمق في الفقه والسيرة، إلى أن غدا منارة يهتدي بها طلاب العلم، ومنبرًا يخاطب من خلاله وجدان الأمة وعقلها في آنٍ واحد.

لكن الشيخ عبد الكريم لم يكن رجل منبر فحسب، بل كان قلبًا نابضًا بقضايا الناس، وأذنًا تصغي لآهاتهم، ولسانًا ينطق بهمومهم في زمنٍ كانت الكلمة فيه مغامرة. فبالتوازي مع رسالته العلمية، شق طريقه في الإصلاح، ساعيًا إلى إحياء القيم الإسلامية الأصيلة في النفوس، متصديًا لمظاهر التجهيل والتعصب والانغلاق. لم يكن يرضى أن يُحاصَر الدين بين جدران المساجد، بل أراده فاعلاً في سلوك الناس، منسجمًا مع حاجاتهم، مرشدًا لهم في معاملاتهم، كما في عباداتهم.

درّس الشيخ في المساجد والمدارس، واحتفى به طلبته لما عُرف عنه من تواضع العالم، وشفافية المعلم، وصدق الإنسان. بأسلوبه الرقيق، وبيانه السهل الممتنع، كان يكسو المفاهيم العميقة أثوابًا من الوضوح، تجعل أعقد المسائل يسيرة الفهم، وعميقة الأثر. ولم يكن التفاف الناس حوله من باب العلم وحده، بل لأنهم وجدوا فيه أبًا روحيًا، وصوتًا يعبر عنهم.

ولعل إحدى المحطات المضيئة في سيرته، هي سعيه لرفع الوعي المجتمعي. فإلى جانب اهتمامه بالشباب والطلاب، كان الشيخ عبد الكريم يخصّ كبار السن وعامّة الناس بجزء من جهده، فيقيم الندوات والمحاضرات، ويجوب بحديثه أزقة الحلة، حاملاً رسالة العلم والتنوير، لا يبغي بها وجاهة، ولا منصبًا، بل رضى الله ورضى الضمير.

 

لم يكن غريبًا، إذن، أن يتحوّل الشيخ إلى رمز اجتماعي، وإلى حامل لواء التغيير في مدينةٍ عريقة. فقد سعى إلى التخفيف عن الفقراء، واحتضان الأيتام، وتأسيس مشاريع تعليمية وخيرية تخدم أبناء المناطق المهمّشة. وكان يرى في العلم مسؤولية اجتماعية، لا تكتمل إلا إذا غدت شمسه مشرقة في بيوت الجميع.

وحين اقتضى المقام أن يُدلي بصوته في ميدان العمل السياسي والفكري، لم يتردد الشيخ. فساهم في تأسيس حزب الشعب سنة 1946 في الحلة، وشارك في حركة أنصار السلام، وكان عضوًا في مؤتمرها التأسيسي، متحديًا سياسات التكميم والملاحقة. كتب في الصحف والمجلات، ولم يكتفِ بنقل المعرفة، بل كان صانعها، فأسهم في جرائد مثل الفيحاء، حمورابي، الحكمة، العدل، وصوت الفرات، إلى جانب المطبوعات البغدادية مثل الوطن ولواء الاستقلال واتحاد الشعب. بل وأصدر مجلته الخاصة (العدل)، التي لم ترَ النور إلا عددًا واحدًا في آذار 1938، قبل أن تصادرها السلطة وتُلغى امتيازاتها، في مشهد يعكس ضريبة الفكر الحر.

أما مؤلفاته، فهي شواهد حية على عمق فكره وسعة أفقه. من أبرزها: الأحكام الجعفرية في الأصول الشخصية”، طُبع أول مرة في بغداد سنة 1923، ثم في القاهرة لاحقًا، وكان مرجعًا فقهيًا موثوقًا.، مبادئ الصوفية وحكمة الإشراق”، وهو عمل روحي وفلسفي، قام بتحقيقه الدكتور سعد الحداد، ليبقى علامة في أدبيات التصوف الإسلامي.

أما مكتبته العامرة، التي كانت تضم نفائس الكتب والمخطوطات، فقد آثرت أسرته أن تهديها إلى مكتبة جامع الخلاني ببغداد، وإلى إحدى المكتبات النجفية، لتظل منارًا لمن أراد أن ينهل من علمه.

رحل الشيخ عبد الكريم الماشطة في عام 1959، تاركًا وراءه أثرًا لا يزول، وسيرةً لا تبهت. رجلٌ من طينة العظماء، جمع بين العالم والمصلح، بين القلم والمنبر، بين العقل والضمير. عاش حياته كما يحيا الزاهد العارف، ومات كما يموت الكبار: حاضرًا في ضمائر الناس، غائبًا عن الأجساد فقط.

لقد كان الشيخ الماشطة صورة مشرقة من صور التنوير الإسلامي الحقيقي، حيث لا انفصال بين الدين والحياة، ولا تناقض بين الإيمان والعقل، ولا هوّة بين العالم والناس. ومن أراد أن يرى العلم حين يمتزج بالإصلاح، فلينظر في صفحات حياته، ففيها عبرة لكل من يسعى لخير هذه الأمة.

وأفضل من ألم بسيرته ومسيرته الباحث الجاد أحمد الناجي في كتابه الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد رواد التنوير في العراق، الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة، بغداد، 2019 .

أحدث المقالات

أحدث المقالات