فقهاء السلاطين, كمحترفي الصفق في الاسواق, غالبا ما يبنون مقولاتهم على مقدمات مضللة, تتباين فيما بينها بقدر المبطن والمتواري من النوايا, ولكن تتفق في انها تقودنا مباشرة الى نتائج غير قابلة للتفاوض, ولا حتى للتساؤل..وعلى هذا الاساس قد نفهم المغزى من استدعاء مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ لاعلى مستويات ذخيرته الفقهية, لكي يبرر لاولي امره الاقدام على اعدام الشيخ نمر النمر..
فالكلام عن ان الأحكام “شرعية لا لبس فيها”، وانها استندت على كتاب الله وسنة رسوله، وأنها تأتي للحرص على الأمة واستقرارها والدفاع عن أمنها وأموالها وأعراضها وعقولها, قد لا تكون الا محاولة للاسكات اكثر من للاجابة عن التساؤلات التي تبحث مدى انطباق العقوبة على لائحة الاتهام التي حشيت حشوا بالكثير من العبارات المفرغة من معناها مثل عدم السمع والطاعة لولي أمر المسلمين في المملكة وعدم مبايعته له، وتأييده لأحداث الشغب والتخريب في مقبرة البقيع، والتجريح في ولاة أمر المملكة وعلمائها، والغريب هو اتهامه بالتدخّل في شؤون دول شقيقة ذات سيادة عبر التحريض من داخل المملكة، على ارتكاب جرائم إرهابية فيها، وإثارة الشغب”.
فالسيد كبير العلماء يعلم قبل غيره -افتراضيا على الاقل- ان ممارسات الشيخ النمر لم تتعدى التعبير عن الرأي والدعوة الى المساواة والعدالة التي يكفلها نفس الكتاب الكريم والسنة المطهرة التي يستلها آل الشيخ في وجه المشككين بنزاهة محكمة وصفتها منظمة العدل الدولية بـ”المروعة”.وانه شخصيا معنيا بصورة اكيدة -بالصوت والصورة- بالاتهام الاخير وعلى جبهات متعددة..ولكنها رغبات اولي الامر التي لا يستطيع كبار العلماء ولا صغارهم مناقشتها, ولا يقوون الا على تسليكها في مسارب الفقه ومتعرجاته.. وتأثيث القرارات السياسية وتزيينها بما يقع تحت ايديهم من نصوص..
فلا كتاب الله ولا سنة نبيه من خالف الشيخ النمر ولا علماء المملكة هم من استدعى تجريحهم قتله , ولا حتى سخريته من وفاة نايف , بل هي كلمة الحق التي صدح بها بان السلطة السياسيّة هي من تسلب الأمن والكرامة، وليست السلطة الدينيّة التي ليست إلا أداة تحركها السلطة ضد الشعب , وهذه الكلمات هي من كانت البداية لسلسلة الاعتقالات والاستدعاءات والتضييق توجت بمحكمة صورية لم تكن بعيدة عن ذهن من قال باعلى صوته على المنبر: “قد لا أنتهي من كلمتي إلا وأنا في السجن أو تحت التراب، لكنّ هذه الدنيا صراع بين الحق والباطل”. فقرار القتل قد اتخذ في ذهن السياسي اولا ولم يكن للقاضي الا ان يطرزه ببعض الفذلكات الفقهية المبتكرة حسب المقال والمقام.
دلائل كثيرة ومؤشرات قد تتباين في منطلقاتها واتجاهاتها ولكنها لن تؤدي بنا الا الى طريق واحد هو ان مشكلة السعودية العضال تكمن في نظامها السياسي اولا, وان المؤسسة الدينية ما هي إلا صورة للعلاقة المعقدة ما بين سلطان يفتقد للوسائل الشرعية في الحكم وبين شعب في موقع الاتهام الدائم بالسؤال عن هذه الشرعية المفقودة..وان المواطن السعودي رغم هدوءه النسبي وتماشيه المنضبط مع الخطاب الرسمي لا يزال مشروع هدف محتمل للنظام وفي محل تشكيك دائم في ولاء لسلطة غير مقتنعة هي نفسها بصلابة الارضية التي تقف عليها..
وهذا الواقع هو الذي يضع النظام في وضع دفاع مأزوم امام الكلمة الحرة والشجاعة ويشير الى ان الامور ما زالت بعيدة عن خواتيمها في ارض الحرمين..وان المؤسسة الدينية لن تكون الا سيفاً مسلطاً على الشعب، وسلطة متضخمة في يد الحكم ما دام النظام يستشعر الحاجة اليها لتكفير المخالفين .. وفي حشد العنف ضدهم..وانه بدون الشعور بالرغبة والارادة الشعبية الحرة في التغيير ..فان ليل المملكة سيبقى طويلا..ولن يكون هناك فجر قريب..