23 ديسمبر، 2024 9:43 ص

الشيخ المفيد مؤسس المذهب البويهي

الشيخ المفيد مؤسس المذهب البويهي

التراجع
يتفق اعداء واصدقاء الدولة البويهية المذهبيون على انها دولة شيعية امامية ، وينطلق كل واحد منهم من سبب مذهبي محدد، حيث يلونون المشهد الواحد بالوان متضاربة ويقفون في زوايا مختلفة للمنظر الواحد . ويقدم هؤلاء جزءا من المشهد العام ويبنون عليه استنتاجاتهم ، فهم مثلا يستدلون على زيارة الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه لمجلس ركن الدولة ، واحتفاء عضد الدولة (ت372ه ) بالشيخ المفيد( عندما كان تلميذا في بداية دراسته ) بعد المناظرة مع الرماني ، وانشاء دار العلم في محلة الكرخ عام 383ه ، وجعل الشيخ المفيد مديره ، والسماح بكتابة بعض المواد الاعلامية الشيعية على مسجدٍ سنة 351ه ( لعن معاوية ، لعن من غصب فدكا ، ونفي ابو ذر الغفاري .. ثم مسح ذلك في اليوم التالي ) ، وقيام معز الدولة بسن الاحتفال بيوم عاشوراء وعيد الغدير عام 352ه .
لاتبني هذه المفردات لحما ولا عظما لعمود الفكر الديني البويهي ، فقد اعتزم المأمون لعن معاوية من قبل ، ولايبني الشيعة على هذا الحدث عمودا مذهبيا ولايعترفون به شيعيا ، وينطبق هذا الامر على المعتضد الذي اراد عام 284ه لعن معاوية ، وهم علي بن يلبق عام 321ه بلعن معاوية ايضا على المنابر . كما ان الفاطميين ظلوا يحتفلون سنينا بيوم الغدير ويقيمون العزاء في عاشوراء ، وعمل مثل ذا قواد الدولة الحمدانية ، وتوجد مصاديق اخرى عديدة لتلك المفردات التي لم تشكل سياسة عامة للدولة البويهية لنعتها بنعت الاثني عشرية .
يقتطع الطرفان هذه المفردات من التاريخ (يوما واحدا في لعن معاوية من مجموع 117 سنة من عمر الدولة البويهية ) ، ويبرزوها وبسببها يضفون على تلك الدولة لونا طائفيا محددا . لكنك لو خلعت الدافع المذهبي لانفتحت الستارة وشاهدت مشهدا عاما مليئا بالوان الطيف الشمسي . فقد قال الاستاذ طه الراوي (في عهد بني بويه وصل العلم والادب في بغداد الى القمة العليا فنشأ اكابر المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين والمؤرخين والكتاب والشعراء واساطين علوم اللغة والحذاق في المعارف الكونية ، وكان لبعض ملوكهم اثار في العمران وحسنات على اهل الفضل واقمار الادب ، ففي عهدهم تولى الوزارة في ايران ابن العميد وابنه ،والصاحب بن عباد ، وفي بغداد ابو محمد المهلبي .. ) .
وفي عهد الدولة البويهية تسنم القضاء قضاةً من شتى المذاهب عدا المذهب الجعفري ، وامتلأت الوزارات بشخصيات عديدة من جميع المذاهب . لم تفرض الدولة البويهية المذهب الزيدي بل اشاعت التسامح الديني ، فلجأت المذاهب المختلفة الى المنطق والفلسفة في محاججاتها ، وبسبب تلك السياسة برز اهم رموز الشعر والفلسفة والمنطق والتفسير وعلماء التاريخ وعلوم اللغة والفقه والطب والاعمار ، ولا اريد ذكر اسمائهم لانها معروفة . فلو اخذنا بعض الاسماء التي تمثل مذهبا ما ووصفنا الدولة به حسب هذه الصورة المصغرة فاننا نشوه الصورة ولانصل الى حقيقتها ، وبذلك نستطيع نعت الدولة بشتى المذاهب والاديان نظرا لحظورها فيها . ويبرز بالتاكيد سؤال مهم يحثنا على متابعة سبب الانجازات تلك ؟ . فنرجع للقول الى ان ابقاء الخليفة العباسي وما يمثله دينيا في الموقع الشكلي الضعيف ، والحكم بالنيابة عنه ( سياسيا ودينيا ) ، وعدم امكانية السلطة البويهية في احلال مذهبهم في السلطة ( العقيدة القمعية ) كل ذلك فسح المجال لكل المذاهب والاديان واللادينيين بالعمل بحرية دون خوف من شرطي يكتم انفاسهم لو تكلموا بالعقائد او اختلفوا فيها .
لقد ظل البويهون زيدية غلّبوا السلطة على المذهب ، كانوا يميلون للشيعة الامامية لانهم شيعة زيدية ، ويشتركون معهم في حب الامام علي والحسن والحسين لانهم ائمتهم ايضا ، وبهذا يشتركون مع الشيعة الامامية في احتفالهم بعيد الغدير ويحزنون في يوم عاشوراء ، لكنهم لم يصبحوا جعفريين او واقفة او فطحية ولم ينتظروا المهدي المنتظر ، كما ان احترامهم للشيخ الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي لايعني تشيعهم على المذهب الامامي ، فهم قد احترموا الكثير من فلاسفة وفقهاء المذاهب الاخرى ولم يقيدوا نشاطاتهم .
لقد استثمر البويهون فقهاء الشيعة سياسيا ضد الدولة الفاطمية ، وعندما اقترب الفاطميون من بغداد عام 402ه قام القادر بالله ( 336-422ه) بكتابة محضر يطعن بنسب الفاطميين وزيف نسبهم لقريش وكذب تحدرهم من نسل الامام علي ، وقّعَه الشيخ المفيد والشريف الرضي والمرتضى ومجموعة من الطالبيين . واصبح الوجود الشيعي الامامي في بغداد سلاح الدولة البويهية لسحب شرعية الفاطميين في الحكم ، واستغلوا الشيح المفيد لاثبات عدم صحة مهديهم المنتظر ، ومارسوا نفس الدور مع القرامطة الذين ينتمون مثل الفاطميين الى الخط الاسماعيلي من التشيع .
اننا لو قرأنا الاحداث التي عصفت بالشيعة الاثني عشرية في بغداد فان الاستنتاج المنطقي يفضي الى نتيجة معاكسة لما استنتجه الشيخ احمد الكاتب ، فالشيعة الامامية لم تزحف على سلطة البويهيين وهم لم يتغيروا ليصبحوا شيعة يؤمنون باثني عشر امام ، ولم يصبح (البويهيون ائمة من لا امام لهم ) في بغداد ، فقد كان شيعة الكرخ ضعفاء لاسلطة لهم في كل مراحل الدولة البويهية ، فقد توالت الحملات الطائفية ضدهم مذ قيام الدولة البويهية في بغداد عام 334ه .
ففي عام 338ه نهبت دور الشيعة في الكرخ وتكرر الفتنة عام 340ه ، وتعطلت الجمعة في مسجد براثا وفي مساجد عديدة اخرى بسبب الفتن التي وقعت عامي 348ه و349ه . وفي عام 351ه اصبحت المواكب والتعازي الحسينية مثار فتنة طائفية سنوية . ففي عام 353ه تفجرت فتنة طائفية شديدة . وفي العام التالي ذكر ابن كثير وابن الاثير ب( تسلط اهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض وقتلوا بعض من كان فيه من القوم ) .
وفي سنة 361 ه روى ابن كثير بوقوع فتنة طائفية كبيرة واحرقت دور الروافض في الكرخ ) ، وجرى عقبها مشادة قوية بين النقيب ابي احمد الموسوي (والد الشريف الرضي والمرتضى ) والوزير البويهي ابي الفضل الشيرازي .
كما ذكر ابن كثير في حوادث سنة 362ه ( قام الوزير ابو الفضل الشيرازي سنة 362ه بمهاجمة اهل الكرخ الشيعة وامر بالقاء النار في دورهم ، فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والاموال من ذلك ثلاثمائة دكان وثلاثون مسجدا وسبعة عشر الف انسان . واوقف الحاكم البويهي المواكب الحسينية مرات عديدة اخرها كان عام 392ه ، ونفى الشيخ المفيد الى خارج بغداد !!! .وفي عام 398ه حدثت مشادة حول تحريف نسخة مصحف عبد الله بن مسعود الذي تختلف بعض نصوصه عن القرآن العثماني ونفي الشيخ المفيد مرة اخرى .
وفي عام 409ه نفى بهاء الدولة مرة ثالثة الشيخ المفيد عن بغداد . ومنذ عام 381ه بدأ الخليفة العباسي القادر بالله ( احمد بن اسحاق بن المتوكل 336-422ه) في مواجهة دينية مذهبية لتكفير الشيعة واخراجهم من الاسلام .
من هذا يتبين البون الشاسع الذي فصل الشيعة الامامية عن سلطة البويهيين السياسية ، وكذلك نقص الدلائل التي تثبت تبني الدولة البويهية للمذهب الامامي الاثني عشري ، وزيف انتقال الحكم البويهي من الزيدية الى الاثني عشرية وعدم حدوثه .
وفي الختام انهي مناقشة كتاب( الشيخ المفيد مؤسس المذهب البويهي للشيخ احمد الكاتب ) فيما يخص علاقة الدولة البويهية بالتشيع الامامي الاثني عشري ، وسأناقش في المقالة التالية بعض الاعتراضات التي تخص الشيخ المفيد التي وردت في الكتاب .