مراجعة رسائل الشيخ المفيد
ان الجزء الخاص بالشيخ المفيد من كتاب الشيخ احمد الكاتب يكاد يكون وافيا ملما بعقائد وفقه الشيخ ، وبه تناول الكاتب معظم الفقه المتوارث منذ مرحلة الشيخ ، وفي هذه الحلقة ساتناول بعض ماورد في حق الشيخ المفيد فقط ، واختلاف رؤيتي عنه ضمن نقاط محددة وردت في نص الكتاب وهي :
رسائل الامام المهدي الى الشيخ المفيد :
وهو عنوان ذكره الكاتب رابطا بينه وبين تنصيب الشيخ المفيد مرجعا اعلى للشيعة قائلا ( وبالاضافة الى جهود الشيخ المفيد العلمية الكبيرة والرائدة ، فقد احتل منزلة زعامة الشيعة الاثني عشرية في عصره وعبر التاريخ الى اليوم ، بفضل الرسائل التي اشيع ان الامام المهدي قد ارسلها اليه ، ، ومدحه فيها بشكل فريد ، ودعا له بالتوفيق ووصفه فيها ب: الشيخ السديد والمولى الرشيد ، والمخلص في الدين ، والصفي الناصر ، المخصوص فينا باليقين … الخ ) .
وقد نشر هاتين الرسالتين ابو منصور الطبرسي المتوفي سنة 620 ه حسب محقق كتاب الاحتجاج . وتناقلها مؤرخوا الشيعة بعد هذا التاريخ . والملاحظ ان الغيبة الكبرى حسب راي الصدوق والطوسي بدأت عام 329ه ، وتوفى الشيخ المفيد عام 413ه . ويضيف الكاتب ( مما اضفى على الشيخ المفيد هالة مقدسة فريدة وعظيمة ، وقد تعززت صورة الشيخ في الذهن الشيعي عبر التاريخ ) ويستشهد بذلك برؤية ابن ابي الحديد المتوفي عام 655ه .
واعتراضي على ذلك هو عدم حدوث ذلك ، وعدم وصول تلك الرسالتين الى الشيخ المفيد وعدم اطلاعه عليهما .
كان من المفروض تحقق الكاتب من الرسالتين قبل الاقرار بحقيقتهما ، وقبل مناقشة الشيخ المفيد على اساس ماورد فيهما ، لكي لايتم بناء استنتاجات وهمية لم يكن لها اساس من الصحة في حياة الشيخ المفيد وفي تراثه . خاصة وانه ذكر كلمة (اشيع) وكان عليه ان يبين متى كانت تلك الاشاعة ؟ وكيف يستنتج من هذه الاشاعة قد ( اضفت على الشيخ المفيد هالة مقدسة ) .
ظهرت الرسالتان في كتاب الاحتجاج للطبرسي المتوفي عام 620ه ، ولم نقرأهما في اي مصدر قريب من عهد الشيخ المفيد . وتميز اسلوب الرسالتين بغرابة المحتوى والمفردات التي لم نعهدها في التوقيعات الاخرى ، ولو افترضنا ان كل التوقيعات جاءت من مصدر واحد فماهو السبب في تغير الاسلوب والمفردات واللغة . ولم تقتصر الغرابة على ذلك بل هي التوقيعات الوحيدة تقريبا التي ظهرت بعد الغيبة الكبرى باكثر من قرنين ونصف مرسلة دون سند ، اي بعد موت اخر سفير ، وسأناقش متن التوقيع بشكل مختصر جدا لابين براءة الشيخ المفيد من هذه التهمة .
المتن :
1 – يبدا المتن بمقدمة ليست من وضع الناحية المقدسة بل من وضع شخص هو أما الطبرسي أو شخص آخر ، نظرا لورود جملة ( قدس الله روحه ونور ضريحه ) وفيها يذكر تأريخ وصول الرسالة الاولى للشيخ المفيد في ايام بقيت صفر عام 410ه والثانية في ذي الحجة عام 412 ه ، أما تاريخ كتابة الرسالة فهو في شوال من نفس العام والفرق حوالي ثلاثة اشهر . وكتبت مقدمة الرسالة الأولى والثانية بنفس الإسلوب ، وبما ان المقدمة الأولى كتبت بعد وفاة الشيخ المفيد فأن الثانية كذلك .كان الشيخ المفيد في عام 410 ه مشغولا بكتابة كتابه الفصول العشرة في الغيبة ، وقد قال فيه كل ما يتعلق بالغيبة ، لكنه لم يذكر مطلقا ورود رسائل اليه من المهدي المنتظر ولا اشار اليها من قريب او بعيد سيما وان ذلك (يضفي عليه هالة مقدسة وعظيمة ) وتعزز موقعه الديني ، ( يعني لاذكر ولا اشارة ) كما لم يذكرها واحد من تلاميذه كالشريف الرضي او المرتضى او الشيخ الطوسي ومئات اخرى من الطلبة الذين كان يدرسهم في مدرسة دار العلم . لقد ذكرها الطبرسي مرسلة دون سند بعد اكثر من قرن ونصف من وفاة الشيخ المفيد .
2 – ورد في نص الرسالتين كلمات مثل شمراخ وبهماء وغماليل والسباريت وصحصح ، واللأواء ، واصطلمكم الاعداء ، وانتياشكم ، وهي كلمات لانعثر عليها في اللغة العربية ولا في اللغة السريانية اوالعبرية اوالبرهتيه ولا في القصيدة الجلجلوتية ولسان العرب لإبن منظور ، وعدم العثور عليها يتعذر معه العثور على معانيها ، وقد أولها المجلسي في بحث اضنى فيه نفسه وقرب تلك الكلمات بطريقة ظنية تقريبية ، وحذا الباقون حذوه ، وبعد البحث عن معاني الجمل وفراغات المعنى أشفقت على بعض الكتاب ممن تفصد جبينهم عرقاً وهم يفكرون عميقاً ويبذلون قصارى جهدهم في محاولة فهم تلك النصوص ومحاولة نحت معانٍ للكلمات لتفسيرها لكي يتقبلها العقل السليم ، وتوصلوا بعد جهد جهيد الى صعوبة تشخيص المعنى وهم بهذا البعد الكبير عن أحداث تلك الفترة ، وتوقع احدهم بأن من قرأ النص في ذلك الوقت فهمه حق فهمه ، فدفع مهمة الفهم الى الذين عاشوا في تلك المرحلة وحرموها عنا .
3- طلب كاتب الرسالة إخفاءها وإخفاء الخط ولا يطلع عليه أحداً ويطويه ويكتب نسخة يطلع عليها الٱمناء من الأولياء ، وهذا ما لم يفعله الشيخ المفيد فلم يطلع السيد المرتضى ولا الشريف الرضي ولا الطوسي ووهم ٱمناء الطائفة ، حيث لم يذكروا التوقيع ولم يشيروا اليه في كتاباتهم .
ان كل من إستعرض هاتين الرسالتين حذف منهما النص واكتفى بالمقدمة والخاتمة لتوثيق الشيخ المفيد فقط ، لكنهم لم يناقشوا المفاهيم التي وردت فيهما ، ونستثني من ذلك محاولة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر الذي عبر عنها بالقول ( التنبؤات بوقوع حوادث قريبة أو بعيدة الى زمن صدور الرسالة ويغلب على عبارات هذه التنبؤات شكل الرمزية والغموض والكلية في المدلول بحيث يصعب تشخيصها علينا ونحن بهذا البعد الكبير ، وما لم نجده فالواقع الذي نحسه هو ان من قرأه في ذلك الزمن فهمه حق فهمه ، وخاصة وهو يعيش الحوادث التي أشار اليها المهدي في كتابه ) ( موسوعة الغيبة الكبرى ص 138) .
ان الرسالتين المذكورتين غريبتان عن التشيع وعن الأدب الشيعي الذي يتعامل بمفردات معروفة ، فوجود جمل وتعابير مثل ( مستودع العهد المأخوذ على العباد ) و ( ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم الى ماكان السلف الصالح عنه شاسعاً ) ( ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم لكنهم لايعلمون ) هذه تعابير غير معروفة عند الشيعة ، ولا يوجد ما يقابلها ويشابهها في التوقيعات السابقة ولا في روايات الأئمة السابقين ، كما أن الوقوف على معنى تلك التعبيرات نجده لايصب في مصلحة الشيخ المفيد ولا الشيعة -فالذل الذي أصابكم -، وجنح كثير منكم – ، ونبذوا العهد المأخوذ – ليس من تعابير المدح بل الذم ، وهذا يوصلنا الى النتيجة التالية :
– لو تسالمنا جدلاً أن أعرابياً سلم هاتين الرسالتين للشيخ المفيد فإنها ـ ربما ـ كانت مسرحية أراد بها أحد المخالفين أو أحد أعداء الشيخ المفيد من إستغفاله واللعب على عقله وعقول أتباعه وإستغلال إيمانهم بالمهدي الغائب لتصديق رسالة خالية من المعنى ، وسيقول: إنظروا لهؤلاء الشيعة الذين يصدقون كل شئ ؟ . فماذا فعل الشيخ المفيد على فرض إنه إستلمهما فعلا ؟ لقد رمى الرسالتين ولم يقتنع بهما ولم يحاجج أو يشر اليهما في بحوثه ومحاضراته ولم يضعهما في أحد كتبه .
– لقد وجد يحيى بن بطريق (523 ت 600)( في رسالة نهج العلوم الى نفي المعدوم ) أو الطبرسي الرسالتين وجادة . فقام الأخير بوضع الرسالتين بين التوقيعات وجازف بوضعهما دون سند ، وحاول أن يوهم القارئ بشهرتها في السير والكتب وبين المؤالف والمخالف وموافقة للعقول ، لكنه لم يبرهن على ذلك لأنه لا يوجد شئ منه البتة ، كما لم يخبرنا أين وكيف وجدهما ؟ إن ما قاله الطبرسي ونقله ليس له علاقة بأية أمانة علمية وذلك حجة عليه لا علينا .وأخيرا فان مثل هذه التواقيع لا تخدم الشيعه وتذمهم وعليهم أن يتصدوا لها .
ان ذكر الشيخ احمد الكاتب لتلك الرسائل وكأنها حقيقة تاريخية دون البحث فيها وقراءة مفرداتها هو عبور على ضرورة البحث عن حقيقة تلك الوثائق التي استخدمها في بحثه ، وظل الكثير يستخدموها في بحوثهم واستنتاجاتهم وكانها خبر متواتر وصل الى درجة اليقين ، خاصة وانها تخص الشيخ المفيد المعني في بحث هذا الكتاب ، وكان من المفروض البحث في كل ما يخصه .
ان هاتين الرسالتين لاذكر لهما في كل التراث الشيعي قبل بن بطريق والطبرسي لذلك لابد من التردد في استخدامهما الدلالي وكشف اهداف وجودها السيئ في تراث ال البيت .
يتبع