19 ديسمبر، 2024 1:00 ص

الشهيد الصدر الثاني – قراءة في مشروعه الحركي والفكري

الشهيد الصدر الثاني – قراءة في مشروعه الحركي والفكري

رُسمت للسيد محمد محمد صادق الصدر صورة نمطية نقشت في عقول من واكب وتابع حركة الشهيد الصدر ومنهجه الإصلاحي، الذي استحق أن يكون رائد المشروع التغييري في العراق، مع احترامنا للحركات التي سبقته وتلته فيما بعد؛ كونه يشكل ظاهرة ثورية حركية استطاع أن يحرك مكنونات الفرد العراقي بعد أن ظل أسيراً لهواجس الخوف والرهبة، لما قاساه من بطش نظام احرق الحرث والنسل.
ولعلنا نؤشر تشكيك البعض عندما تسلم الشهيد الصدر الثاني مفاتيح بعض الحوزات التي أغلقها النظام، وهذا يمكن تبريره إذا علمنا  أن الصدر أدرك بأن تراث الحوزة بات مهدداً بالزوال، وهذا يعني خسارة شعبية كبيرة في بداية المشوار الشاق، لأن الرجل قال حينها بأن سمعته الشخصية لا تعني له شيئاً في قبال مصحلة الإسلام والمذهب، إذن فهو يدرك جيداً بأن هذه الخطوة والخطوات اللاحقة مدروسة جيداً ونابعة من صميم رجل يريد الإصلاح والتغيير وإحياء ما يمكن إحياءه.
ولم نذهب بعيداً عن الخطوة الأهم والأكثر تشكيكاً بمشروع الصدر الثاني، فمن خلال دعوته لإقامة صلاة الجمعة أكد الشعور لدى مناهضية بأن الصدر مرجع للسلطة، وقد بالغ هؤلاء وتسرعوا في الحكم عليه لا بل شنوا هجمات لا حصر لها في سبيل تحديد تحركاته والحيلولة دون توسعها وسحب البساط من تحت اقدامهم.
ولم يكن النظام البائد غافلاً عن التفكير في استغلال حركة الشهيد الصدر الثاني، بوصفه مرجعاً عربياً عراقياً، ليضرب المراجع الآخرين من غير العرب، وربما كان يعتقد بأن هذا الظهور للشهيد الصدر سيصب في ذات الاتجاه مع ما تقدمه وزارة الشؤون والأوقاف من خدمات، وبذلك فأن النظام البائد استحوذ على طرفي المعادلة الإسلامية السنية – الشيعية.
ولكن هل نجحت توقعات الطرفين، هل اصبح الشهيد الصدر مرجعا للنظام، وهل تم تحديد رقعة تحركه وتحجيم قواعده الشعبية التي بدأت بالاتساع شيء فشيئا؟  الواقع يشير إلى عكس ذلك فخلال أقل من سنة على حركة الشهيد الصدر ألتف من حوله مئات الآلاف من الشباب الواعي، وبدت صلاة الجمعة كأنها محفلاً دولياً يعج بالمشاركين من جميع أنحاء العراق وهذا ما شجع المرجع الصدر لتغيير تكتيكاته وخططه باتجاه فتح صفحة أكثر وضوحاً مع النظام ليبدأ من مرحلة المهادنة إلى مرحلة المواجهة، فقد تجلى ذلك من خلال الشعارات التي  كانت ترفع في صلاة الجمعة (كلا كلا يا شيطان) (كلا كلا أمريكا) (كلا كلا إسرائيل) (نعم نعم للحوزة) وغيرها من الشعارات التي كانت لها دلالات واضحة على رفض سياسات  النظام وبداية المواجهة.
لم يقف مشروعه إلى هذه النقطة وحسب، إنما حاول الصدر وبذكاء متقد أن يحيد قطاعات واسعة من الذين يحسبون على النظام، فخطاب إلى الموظفين، وانتقاد إلى سدنة العتبات المقدسة وممارساتهم الخاطئة، ودعوة للأخوة مع السنة والمسيحيين، والعشائر، والشباب، والمرأة، وحتى شريحة الغجر. هذه النداءات تؤكد بأن الشهيد الصدر الثاني كان يفكر بمشروع عابر للطائفية والحزبية والعرقية والقومية، مشروع يحتوي العراقيين بألوانهم كافة، إلا أن المشروع الوطني لم يكتب له النجاح الآني، بل كتب له النجاح التاريخي الحقيقي فيما بعد.
هذه الصورة النمطية التي رُسمت لمحمد صادق الصدر، الرجل الثائر الشجاع، الذي ارتدى كفنه أمام أعتى طواغيت القرن الماضي، وهذا الرجل يستحق هذا الوصف، إلا أن هذه الصورة لا بد أن تقترن بما امتلكه من فكر ربما سبق حركته، فهو صاحب البواكير في الكتابة والتأليف، فليس بعيدا عنا كتابه (أشعة على أصول الدين) و (نظرات إسلامية في اعلان حقوق الإنسان والمواطن) التي كتبهما وهو لم يكن يتجاوز العشرين من عمره. هذا إنما يشير إلى ان فكره سبق حركته ولولا هذا النبوغ سوف لن تكون حركته قوية ومؤثرة بهذا الشكل.
ربما يستغرب البعض إن الصدر تم تغييبه في الحقول المعرفية، وهذا طبيعي إذا ما علمنا إن الرجل لم يكن في ظروف مترفة حتى يتم استنطاق أفكاره، وهذا ما جسدته حركته التي أبعدت من التف من حوله عن دراسة أفكاره بعمق وموضوعية وعلمية، لأن الأفكار التي جاء بها الشهيد الصدر تحتاج إلى دراسات عابرة لمرجعية الميدان لعادل رؤوف، وتتعمق أكثر من السفير الخامس لعباس المياحي، ويكون فيها دقة أكبر وتبتعد عن عاطفة ابداع المرجع لكريم المنفي، على الرغم من أن ظروف كتابة هذه المؤلفات الرائعة كانت أكبر من أن تتناول نظريات الشهيد الصدر في ولاية الفقيه مثلاً، وكيف أن الرجل أسس لمفهوم الأعلمية لقيادة الأمة الإسلامة وجعله أساس يجب  أن يتمتع به المرجع ليكون ولياً لأمر المسلمين رغم اختلاف البعض  مع هذه النظرية، كما ونحتاج أن نتأمل جيداً كيف أن الشهيد الصدر عالج قضايا كبيرة، كقضايا حقوق الإنسان والحريات والنظرية المكيافيلية، كما أبدع في طرح رؤية دقيقة وموسعة حول النظرية الماركسية، وأستطيع أن أزعم أن الرجل كان أقرب للباحث الأكاديمي في تناوله للنظريات الماركسية وكان فاهما مستوعبا لقوانينهم: المادية التاريخية، المادية الديالكتيكية، الأطوار الشيوعية. وحاول أن يعرضها على بساط البحث والفحص، ليرفض ما يستدل على خطأه ويوافق على ما يستدل على صحته.
لعل المجال واسعاً ومشرعاً لإعادة إحياء التراث الفكري، وقراءته قراءة متأنية تبتعد عن العواطف الجياشة التي كانت تكبلنا فيما سبق، فكل زمان له أدواته، وزماننا اليوم يدفع بنا إلى تناول محمد الصدر مشروعاً فكرياً، مع الحفاظ على أرثه الحركي التغييري كنبراس نستلهم منه القوة والعزة والشجاعة.