كنتُ أتواصل تلفونياً مع إحدى أخواتي التي تسكن مع عائلتها (قسراً) كمغتربة في إحدى البلدان الأوربية في مساء يوم الأربعاء المصادف الحادي والعشرين من حزيران/2017م، وإذا بها تصرخ ـ ـ ويييييييي ـ ـ فجروا المنارة (أثناء محادثتها معي كانت تشاهد القنوات العربية كالمعتاد من خلال شاشة التلفاز التي أمامها)، كنتُ حينها خلف مقود السيارة على إحد الطرق السريعة وكانت زوجتي بجانبي فكُدت أن أحرر كلتا يدي لأشبك بهما على رأسي وصرخت مستفهماً منها بجملة (لا مستحيل الرجاء تأكدي من الخبر) فجائني الجواب منها بعد لحظات من الصمت الرهيب بأنّ الخبر صحيح!!!!، قلت لها كلمتي “لا مستحيل” لأنني لم أكن أتوقع أن تصل الدناءة والخسة واللؤم والجهل بالفاعلين الى هذا المستوى ـ ـ لماذا؟!!، لأنني وغيري من المتابعين ربما نجد سبباً (فقهياً) كما يدعون بترويجهم لأفكارهم وأحكامهم وسيكولوجية أتباعهم عندما فجروا أضرحة الأنبياء على إعتبار إنها قبور!!، ولا أعلم بأي منطق أو مفهوم (فقهي) يتم تفجير ضريح لرسول أو نبي ذُكِر إسمه في الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث؟؟!!، وبأي مفهوم تم تفجير وتدمير الأثار على إعتبار إنها أصنام؟؟!!، وحيثُ أنّ المنصف والمتنور يعتبرها أعمال فنية رائعة تبين عظمة الخالق في خلقه حين منح البعض منهم مواهب دون غيرهم!!، فنحتوا هذا الصخر لإبراز جمالية المقدرة البشرية وإبداعها التي خصّهم بها الخالق دون غيرهم من الكائنات الحيّة!!، فهل يستطيع أي حيوان نحت طينة أو صخرة ليحيلها الى عمل إبداعي؟؟!!، الجواب بالطبع لا، لماذا؟ ـ ـ لإن الخالق أكرم الإنسان بالعقل ليميزه عن باقي الكائنات الحيّة!!، والخالق أيضاً وضع الحدود لمقدرة البشر وإبداعاتهم لكي لا يتوهم البعض منهم أنّ بإستطاعتهم تجاوز حدودهم البشرية، ولهذا فمهما بلغ النحّات من مقدرة وفن فأنه لا يستطيع تحويل نحته أو عمله الفني الى كائن حي ويبث الروح فيه، لأن هذا الأمر هو من إختصاص وقدرة الخالق الذي وضع الحد الفاصل بينه وبين المخلوق ـ ـ أي بين الإله والإنسان!!!، فالإنسان المؤمن السوي هكذا يفهم الأمور وهكذا يؤمن من أنّ الخالق لا يحتاج الى وصاية أو حماية من أحد للدفاع عن عظمته ومقدرته التي لا يستطيع خلقه منافسته عليها، فهو الذي وضع القوانين الإلهية وهو الذي صاغ الإنسان بحدود لا يستطيع تجاوزها مهما بلغ من المقدرة!!، إذن لماذا هؤلاء المتشددون يدمرون التماثيل التي مِن الإستحالة على مَنْ نحتها أن ينفخ الروح فيها؟؟!!، كذلك ليس هنالك أي خوف ونحن في القرن الواحد والعشرين من أن يأتي أحدهم ليقدم فروض الطاعة والتأليه لهذه التماثيل والحجارة كما كان يفعلها الأولون جهلاً وتخلفاً، فالزمن الحالي غير ما كان عليه البشر قبل الف أو الفي عام، إذن ممن الخوف؟؟!!.
وربما نعرف أيضاً سبب حقد المتشددين على دور العبادة للمكونات الأخرى من كنائس وأديرة ومعابد للديانات القديمة كالأيزيدية وغيرهم.
لكن لنعود الى الشهيدة منارة الحدباء وجامعها، فهي ليست ضريح وليست تمثال وليست معبد أو دار عبادة للأديان المرفوضة بالفكر الداعشي لتدخل ضمن مفهوم المتشددين على أنها حرام ويجب إزالتها من على وجه الأرض!!، وإنما دار عبادة حالها هي وجامعها كحال أي منارة جامع آخر، ولو كانت تُعتبر غير ذلك برأي المتشددين فلماذا خصّها البغدادي بإعلان خلافته من على منبر جامعها، إذن السؤال الذي يفرض نفسه لماذا فجروها؟ هل هو الخوف من إنهيار معنويات من تبقى منهم كونها مثلت رمزاً لهم بعد ظهور البغدادي وخطبته المشهورة من على منبرها؟؟؟، أم نكاية بالقوات المقاتلة لحجب فرحتهم بالوصول اليها؟؟؟، أم نكاية بالموصلين الذين لم يدعموا في معظمهم دولة الخلافة المزعومة؟؟؟، أم هنالك أصابع حاقدة خفية ترغب بإنتهاز حالة الفوضى فدست من يفجرها من المتشددين حالها حال كل الصروح التاريخية دينية كانت أم عمرانية؟؟؟.
وهنا أقف للمقارنة بين فعل وفعل آخر مضاد له في كل المعاني والمعايير الإنسانية، وحيث أنّ الفرق الزمني بين الفعلين لا يتجاوز (78) عاماً وهو عُشُر (أي واحد من العشرة) من عمر المنارة أو ما يزيد قليلاً (عمر المنارة بحدود 850 سنة).
الفعل الأول كما حدّثنا عنه تاريخ الموصل القريب يعود لحكاية حقيقية ربما لا يزال البعض ممن عاصروها على قيد الحياة تتكلم عن شخص يمتهن مهنة البناء إسمه “عبود الطنبوره چي” وباللهجة الموصلّية يدعونه بعبودي الطنبوغه چي ـ ـ و”عبودي الطنبوره چي” إنسان كادح بسيط من مسيحيي الموصل كان يعمل خلفة أي (أسطة) أو عامل بناء ماهر مع بقية إخوانه الموصليين من جميع المكونات في هذا الصنف (الكار أو الكاغ) كما يُطلق الموصلييون عليه والذي يمتاز بكثرة مشاهيره محلياً من جميع مكونات المجتمع الموصلّي المتجانس حينها، وفي سنة 1939 (بعض المصادر تذكر سنة 1940م) تحديداً أرسل متصرف الموصل (محافظ الموصل) بطلب عبودي الطنبوره چي لسمعته الجيدة في مجال مهنته وكلّفه بترميم الجزء المتهدم من منارة الحدباء والذي يقع في وسطها من الخارج وحيثُ كان يُعتبر الوصول اليه ضرب من الخيال لعدم توفر الإمكانيات من الأليات والعُدد المطلوبة، وبعد أن (درس) الإسطة عبود الحالة بصعوده على سطوح البيوت المجاورة للمنارة لمشاهدة الجزء المتهدم من مسافات أفضل من رؤيته له من على الأرض قرر المجازفة بحياته بإستخدامه لصندوق صنعه له النجارون بناءً على طلبه وربطه بحبال من أطرافه ودعا ستة من عماله الأقوياء الى الإمساك بإطراف الحبال لينزلوه مع عُدَدِه وما يحتاجه من مواد البناء من أعلى المنارة الى الجزء المتهدم من الجهة المائلة للمنارة!!، وجرت محاولات عديدة صعوداً ونزولاً للصندوق الخشبي وبداخله الإسطة (عبود) للوصول الى هذا الجزء حتى إستطاع الوصول اليه والمئات أو ربما أكثر من الناس المتجمهرة حول المنارة وجامعها وسطوح البيوت المحيطة بها كانت تنظر اليه حابسة أنفاسها وتدعوا له بالنجاح في مهمته، وحيثُ كانوا مساعديه الذين يمسكون بالحبال يعدون الثواني لإنهاء هذه المهمة الصعبة خوفاً من إخفاق أحدهم بالمطاولة في مسك الحبل فيحرره وعندها سيخسر عبود حياته!!، وخلال ترميم عبود للجزء المتهدم الذي عشعشت فيه الطيور تفاجأ بوجود ثعبان كبير كان يتوقع وجوده لفطنته العالية، وحيثُ كانت حينذاك تتواجد الثعابين في داخل الموصل وبيوتها التي تحتوي في أغلبها على السراديب التي تعتبر الملاذ الآمن لبعض الزواحف ومنها الثعابين، وكان عبود قد أخذ الحيطة لمثل تلك المفاجئات بضم مذراة الحصاد الى عُدده التي حملها معه، وبشجاعة وسرعة خاطفة سحب الثعبان من الفتحة بواسطة المذراة ورماه أرضاً وحيثُ تكفل مَنْ هم على الأرض بقتله.
وبعد أن أنهى “عبودي” عمله على أحسن ما يرام وسط هلاهل وتصفيق الجموع المحتشدة سأله متصرف (محافظ) الموصل عن أتعابه وأتعاب فريق عمله، فقال له “عبودي” مؤشراً على الجامع ومنارته: هذا بَيتُ مَنْ؟؟؟.
أجابه المحافظ: هذا بَيت الله.
قال له “عبود الطنبوره چي”: إذن حسابي سيكون عنده وليس عندك وسط ذهول مَنْ كان حاضراً!!!، ثمّ دفع مِن جيبه الخاص أجور عُماله وتحمل مصاريف عمل الصندوق الخشبي الذي حملهُ وجميع مصاريف العُدد ومواد البناء التي إستخدمها لتنفيذ مهمته.
والروابط أدناه بالتتابع للباحثين والكتّاب الأفاضل: أزهر العبيدي والقصة التي كتبها بقلمه (حكايات عمّو مشتاق الدليمي/ حية البيت: الجزء الثاني/ عبودي الطنبورجي ومنارة الجامع الكبير) والدكتور غازي رحّو نقلاً عن ما أعده الكاتب مؤيد ناصر وكذلك الدكتور سيار الجميل، وجميعهم كتبوا ونقلوا حرفياً فعل “عبود الطنبوره چي” الحسن، وهنالك آخرين من الباحثين الأجلاء كتبوا عن هذا الحدث أيضاً ووثقوه بتفاصيله:
http://www.baytalmosul.com/1575160416051607160615831587-1587157516041605-1575160415811587160016001608/15
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=640703.msg5909445#msg5909445
http://www.algardenia.com/maqalat/30695-2017-06-27-16-39-12.html
الرابط أدناه لحفيد عبود الطنبورجي (وأسمه جرجيس) وقصته مع محافظ الموصل سنة 2014م، كما نشرتها صحيفة المدى في عددها (3070) ـ السبت 03/05/2014:
http://almadapaper.net/ar/printnews.aspx?NewsID=463836
ولكي نصل الى المقارنة بين الفعلين، فإنّ “عبود الطنبوره چي” لم يتصرف إعتباطاً في موقفه النبيل هذا لأنه شعر عندما قرر مع نفسه المجازفة بحياته التي لا تساويها كنوز الأرض لتصليح وترميم منارة (بيت الله) لقيمتها الدينية والتاريخية وعَلِمَ بفطرته مِن أنّ أسمه سيخلده التاريخ وسيذكره في صفحاته الناصعة.
أما مَنْ فجّرَ في لحظات مجنونة ما بناه ورممه “عبود الطنبوره چي” فسيلعنهُ التاريخ في نفس كتابه لكن في صفحاته المظلمة، وسيبقى الموصليون والعراقيون يتذكرون الفعل الحسن لعبود والفعل السيء لمَنْ هدّم المنارة، وسيبقى التاريخ أيضاً يذكر في صفحاته السوداء زمننا (الأغبر) وسياسييه الذين سلموا لتلك العصابات مدن وأقاليم بكاملها ولم يستطيعوا الحفاظ على تراثهم وآثارهم.