23 ديسمبر، 2024 9:08 ص

الشهرة ليست معياراً للصحة دائماً – قراءة في صحة كلمة كما تكونوا يولى عليكم

الشهرة ليست معياراً للصحة دائماً – قراءة في صحة كلمة كما تكونوا يولى عليكم

كثيرة هي النصوص التي نستشهد بها دون أن ندقق فيها ونبحث عن مصدرها وما قد تحمله من تناقضات. كتبت خلال الفترة الماضية بضعة مقالات ومنشورات مختصرة ضمن سياق واحد أردت من خلالها التركيز على فكرة مهمة وهي فكرة التدقيق فيما نسمع ونقرأ. والنماذج التي تحدثت عنها في مقالاتي لم تكن مقصودة بالمباشرة ولكني استفدت منها للوصول للموضوع فقط، وكذلك دخلت جزئياً في تفاصيلها من باب النموذج فقط، وإلا فإن الهدف الرئيسي من هذه المواضيع والمنشورات هو الحث على التدقيق وعدم قبول كل كلمة أو خبر دون ذكر المصدر بدقة وكذلك عدم الاعتماد على شهرة التداول لأنها قد تخضع لعوامل الترويج والتزوير والاستغفال والغفلة.
ومن ضمن ما نشرته في هذا السياق:-
مقالان عن تزوير الأخبار والنصوص العلمية.
مقال عن كلمة “لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم”.
مقال عن مقولة “حب الحسين أجنني”.
منشور في صفحتي في الفيس بوك بعنوان “اذا لم نسئل عن المصدر تنتشر الاكاذيب”.
وأكمل الحديث هنا عن هذه المقولة “كما تكونوا يولى عليكم”. وسأبين في نهاية المقال بعض فوائد سلسلة المقالات هذه.
نتداول كثيراً هذه الكلمة “كما تكونوا يولى عليكم” خاصة عندما نريد صب جام غضبنا من تسلط بعض الحكام علينا على الناس البسطاء لنخرج أنفسنا من دائرة المسؤولية، أو عندما نريد إيجاد عذر للكسل والتكسيل، وغير ذلك.
ولكون هذه المقولة منقولة على إنها نص روائي فالقدسية المحيطة بها قد تصور للبعض عدم إمكانية أخضاعها للنقاش أو الاقتراب منها أصلاً، والغريب أن المنهجين السائدين في التعامل مع هذه الامور كلاهما خاطئ، فالأول منهما منهج التقديس المبالغ به الى درجة منع السؤال والنقاش عن أي شيء يدخله صاحبه ضمن دائرته التقديسية التي لا تكاد تعرف ما هي ضوابطها وحدودها وقد تشمل نصوص لا أصل وأشخاص لا فضل لهم ولا سابقة . والثاني منهج الغاء الثوابت والتشكيك المطلق ونسف الاحترام بحجة العلمية والتحرر والصراطات المستقيمة. والمنهج الصحيح من وجهة نظري وهو منهج أهل البيت عليه السلام حسب معرفتي المتواضعة ألا وهو أعطاء كل أمر وشخص استحقاقه وجعل باب الحوار مفتوحاً على مصراعيه في كل الأمور ولكن بشرط العلمية والغاية الصحيحة.
والآن نعود لنقاشنا لهذه المقولة والذي نذكره على النحو التالي:

1-مصدر الكلمة:
وجدت البعض ينسب هذه الكلمة للإمام علي (ع) والحال إنها لم ترد عنه في مصدر معتمد. وقد وردت عن رسول الله (ص) في بعض مصادر العامة ولا وجود لها في المصادر الشيعية حسب تتبعي ورواها من العامة الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة، ورواها البيهقي عن أبي إسحاق السبيعي مرسلاً.  وعن الديلمي نقلها الحاكم النيسابوري وقد جاءت الرواية في الكثير من كتب الموضوعات وما ذلك إلا للجزم بوضعها. وقد وردت بنصوص أخرى كنص “كما تكونوا يؤمر عليكم” وهو بنفس ضعف النص الأول من ناحية السند.
أما من ناحية المتن فسنناقش ذلك لاحقاً، ولكن ينبغي الاشارة هنا إلى أن هناك خلل نحوي في نص الرواية لأن الصحيح نحوياً “كما تكونون يولى عليكم أو يؤمر عليكم” وقد أشار البعض ممن رواها إلى ذلك الخطأ. وبعض اللغويين حاول تصحيح ذلك الخطأ بالقول بأنه تم حذف النون للتخفيف مستشهداً ببعض الاشعار والحال إن المقارنة مع الاشعار مقارنة غير صحيحة وفقاً لقاعدة يجوز في الشعر ما لا يجوز في غيره.
يقول الفتني عن الرواية في كتاب تذكرة الموضوعات  ما نصه “كما تكونوا يولى عليكم أو يؤمر عليكم ” في سنده انقطاع وواضع هو يحيى بن هاشم وله طريق فيه مجاهيل”.
أما أبو بكرة راوي الحديث  فهو نفيع بن مسروح, وقيل: ابن الحارث بن كلدة الثقفي, وقيل: مولاه. أبو بكرة. كانت أمه (سمية) جارية الحارث بن كلدة، وقد أتت به وبأخيه زياد الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان على أنه أخوه. اعتزل الفتنة يوم الجمل ويوم صفين. توفي سنة(52)هـ.وهو صاحب القصة المشهورة مع المغيرة بن شعبة في زمن عمر بن الخطاب اذ كان ممن شهدوا على المغيرة بالزنى.

2-المصدر المحتمل لوضع النص:
أ-من وضع بني أمية لأنه يفيد في تدعيم ملكهم من خلال بث روح الكسل لدى الناس وسنوضح ذلك لاحقاً، ويمكن تصور الوضع بالآليات التالية:
1-من خلال أبي بكرة نفسه كونه مرتبط ببني أمية من خلال أخيه زياد، وكونه ممن اعتزلوا معركة الجمل وصفين ولم يقف مع الخليفة الشرعي، ولكن مما يضعف ذلك إن الرجل لم يُشتهر عنه الوضع وتروى له مواقف يكون استبعاد هذا الاحتمال هو الارجح منها موقفه من انتساب اخيه لمعاوية وموقفه من اصحاب الجمل.
2-من خلال نسبة الوضاع هذا الحديث لأبي بكرة زوراً وما أكثر الوضاع في زمن الأمويين وبعدهم.
ب-من وضع آخرين ارتبطت مصالحهم بهذا الحاكم أو ذاك.
ج-رأيُ لأبي بكرة تم نقله على أساس إنه رواية. ووفقاً لتحليلنا لشخصية أبي بكرة لا نستبعد صدور هذا الكلام منه.
د-رأيُ للحسن البصري تم نقله على أساس إنه رواية. حيث نقلت بعض المصادر كلام قريب منه للحسن البصري، والبصري هو ناقل الحديث المزعوم عن أبي بكرة في بعض الاسانيد أو ممن يستشهد به كما عن الطبراني.

3-الخلل في متن النص:
والخلل في النص فضلاً عن الخلل في السند والخلل النحوي، هو أنه يضع قاعدة من السهل أن تذكر نماذج تخرقها ولا تنسجم معها، فكم من حاكم عادل وشعبه لم يعرف قدره وقيمته وضاع وسط  جهلهم وفي غربة علي بن ابي طالب عليه السلام خير شاهد، وكم من حاكم ظالم ليس من سنخ شعبه.
ثم إن التعميم هنا كيف يكون؟ هل هو لكل الناس؟ قطعاً لا، لأن الناس مختلفون، ويوجد تفاوت حتى بين افاضلهم!
فبصورة من منهم سيكون الحاكم؟
وحتى لو كان المقصود الاغلبية فكيف جاز اطلاق النص بصورة القاعدة التي لا تقبل النقض؟ والاشكالات هي هي حتى لو كان الحديث عن الاغلبية لا عن الكل وعلى نحو التعميم لا على نحو القاعدة هذا أولاً.
وثانياً: النص فضلاً عن مخالفته للواقع فهو مخالف للكثير من الثوابت  وكذلك مخالف لنصوص مسندة صحيحة، منها على سبيل المثال قول الإمام علي عليه السلام من وصيه له بعد ضرب أبن ملجم له ” لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم ” فمن الواضح أنه لا تماثل بينهم وبين شرارهم لأن شرارهم هم القمة في السوء.
وثالثاً: النص يدعو للكسل والسكوت عن مواجهة الحكام الظلمة، والبحث عن الحل في الداخل فقط عبر اللوم المستمر للنفس والذي يقود في الغالب إلى التواكل واليأس، عبر تسويق ثقافة “الصوج بينا مو بيهم” و “احنا نستحق”. وهذا بدوره سيجمد أي رغبة في التغيير حتى لو كان الوضع سيء إلى أبعد الحدود كما شهدنا ذلك في عهد الطاغية صدام في العراق اذ كانت فئة لا بأس بها من الشعب العراقي لا تتحرك باتجاه التغيير بحجة إن صدام هو استحقاقها!!
نعم بلا شك أن لنوعية الشعب أو اغلبيته تأثير في اختيار الحكام بأي منظار نظرنا ولكن ليس بهذا النحو الذي يطرحه النص. فكلما كان الشعب واعياً مثقفاً كلما كان بإمكانه اختيار حكام افضل وفقاً لآليات الديمقراطية المتبعة حالياً. ولكن ذلك لا يعني أن الاختيار سيكون صواب دائماً. وكلما كان الشعب أكثر تكامل كلما حظي بفرصة أكبر للحصول على حاكم عادل. ولكن ذلك لا يعني عدم احتمال مجيء حاكم ظالم لشعب جيد في اغلبه لأن “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون”، ولأن “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة” ولأن ولأن . . .

الدروس التي نستفيدها من سلسلة المقالات هذه:
أ-دقق في المصدر في كل ما يُعرض أمامك، خاصة إذا كان الموضوع محل جدل، فأن تقضي بعض الوقت في البحث عن الحقيقة عبر تحقيقك بنفسك أو سؤال المختصين أفضل بكثير من أن يتم استغفالك.
ب- هالة القدسية تحجب الرؤية، فلا تضع هالة قدسية مزيفة على أشخاص لا يستحقونها، ولا تصنع بينك وبين النقد البناء حواجز بشرط أن تمتلك أدوات النقد و أن تكون حسن النية.
ج-من يريد اقناعك فقط يذكر لك نصف الحقيقة أو لا يذكر المصادر أو يذكر مصادر مزيفة لأن غايته الاقناع سواء أكان بسوء نية-كما هو الغالب- أو بحسن نية، أما من يريد ايصال الحقيقة والهداية فلن تجد عنده ذلك، نعم قد يتم كتم بعض الحقائق اضطراراً أو موازنة بين المصالح والمفاسد إذ ما كل ما يُعرف يُقال.
د-كم نحن بحاجة لمراجعة تراثنا ونصوصنا ومسلماتنا ومشهوراتنا، ولكن ليس على نحو المراجعة التي تهدف للهدم، وليس على نحو المراجعة التي تخلط الحابل بالنابل، ولكن على نحو المراجعة العلمية الجادة من أهل الاختصاص. ففي مروياتنا – لدى أبناء العامة المسألة تأخذ ابعاد أكبر فكتب المرويات ومنها الصحاح تزخر بالإسرائيليات والمروانيات والعباسيات – هناك الكثير من الروايات التي ينبغي أن نتوقف عندها كثيراً، وفي تاريخنا هناك الكثير من الامور التي ينبغي أن يُعاد النظر فيها، وفي معتقداتنا الشخصية والنوعية هناك مما لا اصل له لا بدين ولا بتاريخ.
هـ-لست من انصار نظرية المؤامرة ولكن على العاقل أن لا يُستغفل ، والاستغفال فرع الجهل والثقة الزائدة، فكلما كنا أكثر معرفة ووعياً  ولم نضع ثقتنا في غير محلها كلما التفتنا لموارد الخطر وفهمنا ما يدور حولنا. ونفي وجود المؤامرات غباء أو مؤامرة!!