17 نوفمبر، 2024 6:33 م
Search
Close this search box.

الشكر على الواجِب..؟!

إذا أردتَ أن تعبر شارعاً، وتوقف سائق بعد انتظار وسمح لك بالعبور، فإنك تمتلئ بمشاعر الامتنان، وتلوح له بيدك تحية، وتودُّ لو تعانقه. وإذا راجعتَ دائرة، فعاملك الموظف بود وأنجز معاملتك بيسر وبلا تعقيدات، فإنك تردد لنفسك عبارة أصبحت غائبة: ما يزال في الدنيا بقية خير! وإذا عملَت الأجهزة الرسمية بكفاءة في ظرف طارئ، كسقوط الثلج مثلاً، لهج الناس بالشكر وأفرطوا في المديح العاطفي… وهكذا!
السائق الذي أعطاك أولوية عبور الشارع، والموظف الذي أنجز معاملتك بإتقان، والعاملون الذين فتحوا الطريق في الثلج أو أصلحوا خطوط الكهرباء، هم أناس يلتزمون بالقانون، أو يؤدون عملهم الأساسي -يؤدون واجبهم ببساطة، لا أكثر ولا أقل. ولا ينبغي أن يكون الالتزام بالقانون والأخلاق، أو أداء العمل حسب الأصول، أموراً تخلق هذا النوع من الاستجابة المتحمسة السعيدة. الأصل أن تكون كل هذه المواقف وأشباهها طباقاً لقولنا “لا شكر على واجب”، الذي نكرره وكأنه إيمان، لكننا نخالفه وكأنه رجس من الشيطان، لكثرة ما اختل مفهوم “الواجب” وندر الذين يؤدونه بإخلاص.
إنك تشكر السائق الذي سمح لك بعبور الشارع، وتسعَد بالموظف الذي يسَّر أمرك، أو تكيل الثناء لمنتسبي الأجهزة الذين عملوا بكفاءة، لأن هذه التجليات أصبحت هي الخارجة عن المألوف. والمألوف، هو أن تقف على ممر المشاة وتضع رجلك اليمنى في الشارع طالباً حقك في العبور، فلا يتوقف لك أحدٌ حتى تغامر برمي نفسك على سيل العربات، أو تنتظر حتى يأتي ابن الحلال الذي يشعر بك. وتراجع دائرة، فيعاملك الموظف بإهمال وفوقية، وقد يتفنن في إرجاعك وتحويلك إلى هنا وهناك وكأنه ينتقم، لتكتشف أخيراً أن ذلك كله كان بلا داعٍ. وقد تراقبه وقتاً من الشباك وهو يثرثر مع زميل ويشرب الشاي على مهل عند مكتب آخر، وكأن وقتك وأعصابك شؤون لا تعنيه. وقد تشكو من انقطاع خدمة، فتنتظر المجيبَ أياماً أو أسابيع، لكنه لا يجيب.
وهكذا، أصبحت مجرد رؤية أحد يفعل الأمور كما يجب، أو يلتزم بالقانون طوعاً -أو خوفاً- مدعاة للرضى و”السعادة”. وقد تحبُّ نفسكَ أيضاً إذا عدتَ إلى بيتك آخر النهار وقد لوَّح لك بعض الناس امتناناً، لمجرد أنك أديتَ واجبك الأخلاقي أو القانوني في بعض المواقف -مجرد الواجب الطبيعي فقط.
هذا مجرد طرح تبسيطي لنظريات رصينة في فلسفة الأخلاق، مثل “أخلاق الواجب” و”أخلاق المنفعة” وما شابه. ذلك شغل المتخصصين. لكن الفكرة هي أن السلوكيات من النوع الموصوف المتعلق بالواجب والرضى، تنتمي بالتعريف إلى منطقة الأخلاق. وفي منظومات أخلاقية أخرى، يغلب أن لا يرفع المواطن في الدول الغربية مثلاً يده شاكراً، أو يلهج بالثناء لأن شخصاً أعطاه حقه في عبور الشارع، أو أنجز معاملته، أو أدى وظيفته بكفاءة. فالسائد هناك هو احترام حكم القانون، والالتزام بميثاق شرف جامع -أو عقد اجتماعي ضمني- يرتب العلاقات على أساس إدراك الناس للمنفعة التي يجنونها هم أنفسهم من امتثالهم –والآخرين- لهذا الميثاق.
إذا لم يكن هناك “ضمير جمعي” إيجابي يتم بناؤه قصداً، بالتربية والتعليم والتثقيف، وتكريسه بالممارسة، فإن كل فرد سيعمل على هواه ولمنفعته على حساب غيره بلا ضابط ولا مقياس. وسوف تغيب عن كل أصحاب المصلحة في المجتمع –كل فرد وكيان وهيئة- حقيقة أن أداء العمل بضمير والالتزام بالقانون هو مصلحة الجميع في نهاية المطاف، وأنها الشروط المسبقة الضرورية للبدء في الحديث عن تحقيق “السعادة” بالمعنى الفلسفي، أو “النجاح” بالمفهوم العملي والشعبي. إنك تنغص على الآخرين هنا، وينغصون عليك هناك حتماً!
سيادة ظاهرة “الشكر على الواجب” لأن أداء الواجب أصبح نادراً، هي أزمة على أي مستوى يمكن تخيله. إنها ترتب علينا الشعور بالرضى والامتنان لمجرد تحقيق طبقة “دنيا” نسبياً من الحاجات، من مشاهدة سلوكيات ينبغي أن تكون عادية ومفروغاً منها. ويعني ذلك الانشغال عن مراقبة الغايات العليا، والبقاء في منطقة متخلفة نعبّر عنها إذا رأينا تقدم الآخرين بعبارتنا المألوفة: “نحنُ أينَ والناسُ أين”! وكأننا نعترف بأننا في مكان في الأسفل والوراء؛ في مجرد مرحلة تطبيع ما ينبغي أن يكون طبيعياً، قبل أن نفكر في تحقيق الذات والابتكار والمشاريع الجمعية الآملة.
نقلا ع الغد الاردنية

أحدث المقالات