في التجارب الديمقراطية الحديثة، تبرز وظيفة الجمهور الناخب في العقد الاجتماعي المطلوب لإنجاز ديمقراطية الدولة، ولعل ابرز مظاهر هذه الوظيفية بعد الذهاب الى صناديق الاقتراع ، حشد الجمهور من قبل قيادات الراي العام لتحقيق اهداف مرحلية مثل الاستفتاء على الدستور او تعديله او التوصيات على قوانين معينة ، وتجاوز مشهد الربيع العربي الحالة الى حشد الجمهور فيما عرف بالتظاهرات المليونية ، من اجل فرض الامر الواقع على الاغلبية الصامتة بان ما يطالب به الشارع السياسي انما يمثل راي الاغلبية .
والسؤال من هي الاغلبية في التظاهرات المليونية الحالية كما يحصل في مصر او كما يحصل في العراق حينما تعد الاحزاب الإسلامية حشود الزائرين لإداء مراسم عزاء الحسين “ع” ، خطأ بكونها حشودا مليونية لصالح اجنداتها السياسية ؟؟.
الاجابة على هذا السؤال في علم الاجتماع السياسي تبدأ في بلورة فكرة الظاهرة والعرف والفارق ما بينهما في حشد الراي العام ، فظاهرة خروج الناس لتأييد زعامة سياسية او اجتماعية او حزبية ، يمكن وصفه بالظاهرة السياسية ، وما يجري في مصر اليوم من حشود مليونية متناظرة يؤكد هذه الظاهرة بوجود قيادات سياسية تناور في المشهد السياسي المصري ما بين قوى رافضة لأجندة الاخوان المسلمين بزعامة الرئيس المخلوع، في مقابل قوى ليبرالية، ترى ان تطبيق هذه الاجندة للإسلام السياسي بوصفتها الاخوانية ، تضر بمستقبل البلد .
وفي العراق تجري هذه التظاهرات بين حين واخر ، لتحريك المشهد السياسي لعل ابرزها تظاهرات ساحة التحرير التي انتهت الى مهلة المائة يوم لتعديل مسار الحكومة الخدمي ، في كابينة رئيس الوزراء نوري المالكي الثانية، فيما تتواصل اليوم تظاهرات ساحات الاعتصام في المحافظات السنية المنتفضة ضد تطبيقات السلطة تحت عناوين التهميش والاقصاء وعدم ظهور شراكة حقيقية في السلطة بين مكونات الشعب وفقا لمنطوق الدستور العراقي .
وتأسس هذه الظواهر الاجتماعية لأعراف وتقاليد سياسية في حقب زمنية متتالية ، تنتهي الى تعديل صيغة العقد الاجتماعي، الذي يمثل الرؤية الشاملة للدولة في العلاقة ما بين السلطة “الحاكم”والشعب” المحكوم ” ، في حمى المتغيرات المتسارعة في الربيع العربي ، الذي اطاح بعدد من الانظمة الشمولية ، لما عرف ب” الجمهوريات الملكية”التي اعتمدت نموذج الحكم الجمهوري فيما تواصلت فيها تطبيقات توريث السلطة كما حصل في مصر وليبيا واليمن ، فانتهت هذه الانظمة حيث سارت رياح الربيع العربي للتغيير ، ولكن من دون ان تأتي بنموذج جديد متوافق عليه للعقد الاجتماعي ما بين الشعب والسلطة التي صعدت ديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع بنسب متفاوتة ما بين الاغلبية والاقلية السياسية وسط ظهور” الاغلبية الصامتة ” التي لم تتفاعل مع الحدث الكبير للانتخابات بعد حقبة الحكم الشمولي ، فكانت الاحزاب القافزة على سلطة الربيع العربي في الاغلب الاعم من التيار الاسلامي ، ومنها من تسارعت خطواته في العدالة الانتقالية لتنتهي الى تطبيقات اقسى مما كانت عليه ايام الحكم الشمولي الذي ينعت بالدكتاتورية ، وفي النموذج العراقي يصح القول بان عراق جمهورية الخوف في اطار الحكم الصدامي انتهى الى جمهوريات الاحزاب واجنداتها المتعارضة ، فيما يصح القول ايضا ان ما حصل في مصر اليوم وربما يحصل في غيرها من جمهوريات الربيع العربي يعكس هذا التعارض بين رغبات التغييركظاهرة اجتماعية ، فشلت في التحول الى نظام سياسي يؤسس لأعراف وتقاليد الديمقراطية في هذه البلدان .
كل ما تقدم يؤكد ان الانتقال الاجتماعي من حكم الدكتاتوريات الى الحكم الديمقراطي يتطلب خطوات مدروسة بعناية ، ودراية سياسية وحنكة وخبرة في العمل الديمقراطي ، يبدو ان اغلب المؤسسات الحاكمة ما بعد الربيع العربي لم تمتلك رجالا يؤمنون بالديمقراطية اكثر مما يؤمنوا بما ناضلوا وجاهدوا من اجله عقود طويلة لفرضه بقوة السلطة على الشعب وشتان ما بين افكار نؤمن بها وبين انموذج التطبيق وهكذا تداعت احجار السلطة الجديدة على رقعة شطرنج الربيع العربي والقادم منه واضح المعالم .