23 ديسمبر، 2024 3:13 ص

الشعر يؤرخ ويؤرق .. الى عازفة كربلاء

الشعر يؤرخ ويؤرق .. الى عازفة كربلاء

ألا هبي بلحنك فاطربينا …..فشعبي يرتدي لونا حزينا
هذا نقد من نوع آخر لاحاجة معه لتحليل وزن القصيدة وعروضها وبحرها هذه المرة ..فلايخفى على كل متذوق للشعر العربي انها معارضة ( او في الحقيقة محاكاة ) للمعلقة الشهيرة، ونقول محاكاة لأن الشاعرهنا لم يرد تماما المعارضة ، بل بروح شاعرية ولمسة وجدانية وخزين صحيح من الشعر الكلاسيكي العربي الذي تميز شاعرنا على مساحته الزمنية مع القصيد بحفظ ومحاكاة كثير منه ..الامر الذي مكنه دائما من استحضار الفاظ وتعابير وقوالب يندر التمكن منها بين شعراء اليوم الذين هربوا من عجزهم الى الاختباء وراء عباءة الحداثة المهلهلة التي ماسترت اجساد قصائدهم من النقد ولاحمتها من الرد..
الشاعر اقتبس جزئيا بيت عمرو بن كلثوم الشهيرمطلع معلقته واستبدل بعض الفاظه بمايخدم غرضه وقد نجح أيما نجاح ..ساعده في ذلك استقرار البيت والمعلقة كلها بوزنها في اذهان الناس بافتتاحيتها الشهيرة الفريدة المتميزة عن الطلليات الاخرى في المعلقات السبع الخالدات ..وهي (الا هبي ) فحافظ الشاعر عليها وادخل بل وغلغل قصده خلالها ملبسا اياها حلة جديدة ، وفر له فيها البحر الوافر وفرة من الحركات والأنغام المؤثرة المتناسقة كثيرا مع الغرض الذي يحسب له ايضا تمكنه من تحديثه عن القصيدة الاصلية. فقد كانت للفخر عند الشاعر الجاهلي الفذ وهنا البست غرض الشكوى السياسية الغارقة بالسخرية الحزينة وهو غرض ابدع فيه الجواهري ولعله ابتدعه ..
واستخدمه الشاعر هنا دون احساس االمتلقي بملل التكرار بل على العكس ..جعل هذا ميزة استفاد منها لتنبيه المتلقي وايقاع التاثير المطلوب ..

رجِعنا في الجهالةِ الفَ عامٍ……وعُدنا نبعث الزمنَ الحزينا
ساعده في ذلك شهرة الحدث ورواجه بين الناس سلفا ..فالامر كله يدور حول فتاة بريئة ومجموعة كذبة ودجالين امتصوا دماء بلد الشاعر وثرواته بل وحتى اخلاقه متلبسين شعارات يركبون بها اكتاف السذج والفقراء وغير المتعلمين من الطبقة البسيطه التي تقدس الدين والمراقد واولياء الله وأل بيت نبيه الأطهار ..وبعد ان سرقوا المال وخربوا كل شيء وافتضح امرهم ..حصل الحفل الجماهيري في ملعب رياضي لمدينة مباركة من ارض العراق ، يجلها العراقيون والمسلمون عموما لما لها من ذكرى عظيمة مقترنة برجل اعظم ثار على الطغيان فبطش به عدوه المتسلح بالسلطه والطغيان وتخلى عنه صحبه بعد وعود بالنصرة ، فما راى منهم غير الخذلان الاقليلا من الصادقين ..وهو الامام الحسين عليه السلام ..
مشينا خلفَكم في كلِ أمرٍ….فلاقينا المصائبَ وابتُلينا
فتقمص هؤلاء السراق الغارقون في الرذيلة ثوب الفضيلة وصاروا ينعون قدسية المدينه الطاهرة ..حقا ان في المدينة بقع طاهرة ومرتبطة بذكرى اكثر طهرا ، ولكنها مدينة ..فيها كل شيء وان غلب عليها الالتزام والتدين ..ولكنها مدينة ، بعد كل شيء مهما احب الناس تسميتها او تبجيلها ..اقام السارقون مأتما على خلفية ظهور فتاة لطيفة كانت تعزف على آلة موسيقية رمزا للفرح بالضيوف واظهارا لمدنية مذبوحة !
ملأتُم في المقابر كلَّ شِبرٍ……بأرض اللهِ صرنا تائِهينا
..تباكى السراق والفاسدون على طهارة المدينة “ المنتهكة بآلة الكمان” والتي يبدو انها لم تنتهك بسرقاتهم وموبقاتهم وايتامها النائمين على الارصفة ولا الارامل اللائي بلا معيل ولا على المدارس الطينية ولا لا ..فقط تلك الفتاة التي كانت محتشمة الملبس لا تظهر الا شعرها الجميل هادئا مكشوفا غير مغطى بالنفاق الذي غطى موبقات الفاسدين وسرقاتهم .. استفزالشاعر فنطق بصوت الجمهور ..في اشارة وكناية رائعه وبالغة ..يحسنها الغرض والهدف اكثر مما يحسنها البديع وفنونه ..مخاطبا تلك الفتاة الرقيقة المسالمة البريئة التي تسلحت بالفن والنغم واهدت للناس السلام وهم مااعطوا الناس الا الفقر والحرب والقتل والتشريد : فها هو يخاطب من خلالها الفاسدين وتاريخم القريب المريب وحاضرهم الاسود، والشعب المظلوم الحزين:
اَلا هُبّي بلحنِكِ فاطرِبينا……..فشعبي يرتدي لوناً حزينا
شَبِعنا من اكاذيبٍ وإفكٍ………..أساؤوا عَيشَنا دُنيا ودينا
ها هو يصر ولا يتراجع ومعه الشعب فيضيف واثقا
فغير الشر لن نَجني ثماراً……….وبِتنا في التخلّفِ سائرينا
البلد الذي كان فخرا بعلمه وادبه وفنه ..استكثروا عليه بعد ان ذبحوه ، حتى منظرا بسيطا للفن والفرح غاب منذ سنين ..البلد الذي كان فخرا صار مصدر خجل:
إذا قيل العراق أغضُ طرفي…….وأخجلُ من كلام الشامتينا
رجِعنا في الجهالةِ الفَ عامٍ……..وعُدنا نبعث الزمنَ الحزينا
يقول :
فما عادت الى بغدادَ ليلى………وقد جَفَّت خمورُ الأندرينا
في اقتباس ناجح آخر عن شطر عمرو بن كلثوم ( ولاتبقي خمور الاندرينا ) واستخدام (جفت) هنا كناية عن الجفاف والحزن لكل فرح ومرح وسعادة .وغياب ليلى يرمز الى غياب الحب والسلام فالمراة رمز الحب والسلام ولايرمز الرجل الا الى القوة والحرب .وخاطبة المراة في اول القصيدة كان اكبر عناصر نجاحها غرضا .
مشينا خلفَكم في كلِ أمرٍ…….فلاقينا المصائبَ وابتُلينا
دعونا نغير المسار قليلا ..فقد سرنا خلفكم عقدين وصدقنا انكم قادة ورجال دين ، فماذا جنينا ..المصائب والبلاء والموت والخراب وملئت المقابر بدل الملاعب :
ملأتُم في المقابر كلَّ شِبرٍ……..بأرض اللهِ صرنا تائِهينا
أما عذركم واتكاءكم على قدسية كربلاء ومحبتها ..فانه كذب مكشوف ونحن الذين نحبها لا انتم ، فلم نسرقها ولم نستغلها دينيا لاستغفال الناس والعبث بهم ..نحن الذين نجلها ونكرمها لا انتم ولن ينتقص منها حفل وفرح لشعب غرق في الحرب والدمار والحزن بسببكم ..ونحن احفاد الحسين الثائر لا انتم :
ستبقى كربلاءُ مزارَ فَخرٍ …….ويبقى في ضَمائِرنا حُسَينا
القصيدة للشاعر الاستاذ عبد الجليل ابراهيم الاوسي .
ولا آخذ عليه فيها فنيا الا قوله “فغير الشر لن نجني ثمارا” وكان اجدى لو قال لا نجني ..لان الامر مضارع وماضي ومستمر الى المستقبل ..اما قوله -لونا- بدل -ثوبا- فلاباس به ..
أدهم الشبيب 4 آب 2019