23 ديسمبر، 2024 5:16 ص

الشعر العربي والقيم الأخلاقية

الشعر العربي والقيم الأخلاقية

إذا كان للتأثر والتأثير المتبادل بين الشعر والمجتمع جانب واضح مباشر سريع، فإن هناك جانباً خفياً منه، غير مباشر، وإنما يعمل عمله بتأن وبطء غير منظورين. فقد حمل الشعر العربي قيم العرب الاجتماعية وأخلاقهم وسلوكياتهم، من جيل إلى جيل بأمانة قلّ نظيرها، بغض النظر عن حسنها وقبحها ومقدار تطابقها مع المثال الأخلاقي، بل نقل ثقافتهم بما تعنيه الكلمة من معنى عام يشمل العادات والتقاليد والعقائد وغير ذلك، وتحكم بنقلها.
   فغلبة الصورة الحسية للمرأة في شعر الغزل مثلاً، جعل هذه الصورة هي المثال الذي تقاس عليه درجة جمال المرأة، في كل العصور اللاحقة، وربما إلى  يومنا هذا. وكذلك في ذكر شاعر لخصال ممدوح جعل هذه الخصال هي الأنموذج الذي يقاس عليه الرجال في كل العصور… فالإنسان العربي المستقبل للشعر المستجيب لأطروحاته تفاعلاً، ينتزع معارفه ومقاييسه الجمالية من عصارة هذا العلم الممتع الوحيد المتوفر له، وهو الشعر.
   وبذلك يعلل فشل أشعار قديمة كثيرة في الوصول إلى أيدينا لعدم تناسبها مع المقياس الأخلاقي الذي يرتضيه الشاعر أو الراوية أو الناقد، وبمثله يعلل وصول أشعار أخرى. وتعلل بذلك أيضاً كثير من الاختيارات الشعرية في مصادر الأدب القديم. بل يعلل تأليفها أصلاً، باعترافات مؤلفيها أنفسهم. ألم تؤلف المفضليات لتأديب وتعليم المهدي بن المنصور معارف العصر من التاريخ والأيام واللغة والرواية وأخلاق العرب الحميدة، فيتمثلها، وأخلاقهم الدنيئة فيجتنبها، أليس لهذا أمر الرشيد مؤدب ولده، أن يرويهم شعراً لأبي العتاهية، وللسبب نفسه، ورد نهي عن تعاطي النساء شعر عمر بن أبي ربيعة، إذ (( إن لشعره لموقعاً في القلوب، ومدخلاً لطيفاً، لو كان شعر يسحر، لكان هو)) كما يقول أبو الفرج الأصفهاني ، والأصفهاني نفسه يروي أن شيخاً من قريش قال: (( لا ترووا نسـاءكم شعر عمـر بن أبي ربيعة، لا يتورطن في الزنا تورطاً ))، وهذا أيضاً حد معقول من التأثير القريب من التأثير المباشر، لكن الملفت حقاً تحكم الشاعر بقيم المجتمع بعدم السماح لها أن تتأثر أو أن تتغير، وفقاً لمتطلبات العصر وظروفه الجديدة. وذلك بنقله القيم القديمة على أنها الصورة الأمثل، أو بتقليده التام لسابقيه فيها. وما ارتباطنا الجامد بالماضي، وحنيننا المستمر له، ونظرتنا إليه على انه الصيغة الفضلى للحياة، إلا صدى لارتباطنا بموقف الشعر والشاعر من الماضي المثال.
   وبذلك يمكننا تفسير ظاهرة الملاحاة والمهاجاة بين شعراء الدولة الأموية، دون سابق عداوة أو بغضاء، بل غالباً ما كانت بمودة كاملة، كما هو الحال بين جرير والفرزدق، بما يؤشر عدم استطاعة قيم المحبة والأخوة الإسلامية من التمكن في النفوس الذائبة في قداسة الماضي والحنين لصورته المثالية كما يرسمها الشعراء، بتذكر الأيام الخوالي حيناً، وبتقليد سابقيهم ( المثال ) حيناً آخر. ألم يحصل ذلك بسبب تقليد شائع بين الشعراء في التهاجي بالأنساب والأيام مما جبّه الإسلام. ثم ألا يمكن أن يكون ذلك تفسيراً لروح الملاحاة الودية والمنافرات الإخوانية بين أفراد مجتمعنا العربي، بل أحياناً المهاجمات الحميمة للنكتة والملاطفة فحسب، مما نسميه شعبياً ( النصبه )!! ومثله شيوع روح السخرية والاستهزاء ممن نحبه، نوعاً من المجاملة في العلاقات الشخصية. ألا يمكن أن يكون ذلك قد تسرب لسلوكنا، من الشعر وأصبح جزءاً من عاداتنا، نتعاطاه بشكل طبيعي رغم النهي القرآني الصريح عن ذلك.
   وعلى القياس نفسه ألا نستطيع أن نفسر الجانب ( العنفي ) في شخصياتنا في شتى مجالات حياتنا الاجتماعية والسياسية، بما تسرب إلينا من سلوك عنيف أمدتنا به ثقافتنا الشعرية الراسخة، حينما بث شعراؤنا صور العنف والاستباحة والبطش في مجال الحماسة والفخر والمديح، لتشكيل صورة البطل في أذهاننا. ويقابل ذلك صورة الخنوع والخضوع والاستكانة والمهادنة، نتيجة دفاعية، لمن يؤثر سلامة الدين والدنيا، كما أمدتنا به صور ثقافتنا الشعرية القديمة، في سرعة تغيير المواقف، والاستجابة لمتطلبات الظروف، بما يعزلنا عن مبادئ ربما أفنينا أعمارنا صوناً لها وتمسكاً بها.    
   ويرتبط بهذا الموضوع موقف الشعر من السلطة، فقد كتب نصف الشعر العربي أو أكثر تحت عروش الخلفاء والسلاطين، إرضاءً لكبريائهم وغرورهم، ووسيلة إعلامية مؤثرة تؤيد سلطاتهم، وتبرر مواقفهم، وتهاجم معارضيهم وتفندهم، بما جعل الشعر العربي في كثير من أزمانه لسان حال السلطات القائمة، مرسخاً هذه العلاقة قيمة مهمة في ثقافة المجتمع. ولم تألُ السلطات الحاكمة جهداً في استثمار هده القيمة لتركيع العناصر الواعية ( الشعراء )، أو التأثير على الرأي العام المحلي أو العالمي، بأن هذه السلطة شرعية يقف إلى جانبها النخبة الاجتماعية الرفيعة، وإذا كان الأمر سابقاً يتم غالباً برغبة حقيقية من الشاعر، فيرتحل إلى ممدوحه الحاكم رغبة في الاستزادة من ( الخير )، أو مللاً من حالة الفقر والعوز التي يعيشها الشاعر، مما لا اضطرار فيه، فإن ذلك تحول في ما بعد إلى قاعدة إلزامية، سخرت فيها الطاقات الشعرية لتلميع أحذية المستبدين، وتزيين ولائم الظلم والاستهتار، بإرهاب وتخويف وتخوين الشاعر، تحت شعار ( من لم يكن معنا فهو ضدنا )، فسفحت أرق المشاعر في أمسيات وتجمعات ومهرجانات تعبوية، يسخر فيها الشاعر من السلطة، والسلطة من الشاعر، فكلاهما يعرف حقيقة موالاة صاحبه. الأمر الذي عزز قيمة ( النفاق ) و( الكذب ) وسربها إلى فئات وشرائح اجتماعية واسعة كالصحفيين والفنانين والعلماء، بل عامة المجتمع …. كل يخدم من موقعه.
   ولم يكن ذلك ولا غيره ليحصل، لولا عضوية الشعر في ثقافتنا، ورسوخ قيمه في دخائل نفوسنا، وتأثيرها البالغ في ما بعد على سلوكنا وأخلاقنا. يقول الأمام علي (ع ) : (( الشعر ميزان القوم )). وقال ( شيللي ): (( الشعراء هـم مشـرعو العالم وإن لم يعترف بهـم )). وقـال ( أ. أ. ريتشاردز ): (( الشعراء وحدهم وليس الوعاظ هم الذين يضعون أسس الأخلاق )).
   ولنا بعد ذلك أن لا ننساق وراء حماس هذه الفكرة، فنعد ذلك السبب الوحيد الأوحد، أو التحليل الأدق الأصوب. بل ينبغي أن ننظر بشمولية أوسع، بما يقتضي أن نجعل ذلك سبباً من أسباب عدة، وقد يكون السبب الأول، والمحرك العضوي الفعال في مثل هذه الظواهر، لاعتبار أن الشعر ( كان ولم يكن  معه شيء ) من المكونات الثقافية. ولهذا يقول الدكتور عبد الله الغذامي: (( يعد الشعر هو المكون الأول لشخصية العرب الثقافية والسلوكية ))، ودرس في ضوء هذا مجموعة من الظواهر الثقافية العربية المعاصرة، مرجعاً امتداداتها لجسد الشعر العربي القديم وما نقله من قيم شعرية موروثة لثقافة المجتمع العربي المعاصر، سلوكاً وتقاليد وعادات، تمثل حضارته الراهنة.
إن الدافع النفسي والاجتماعي الذي استدعى الشعر، جعله ممارسة إبداعية فردية ذات أثر اجتماعي عميق، لذا كانت له هذه الأهمية القصوى في حياة المجتمع العربي، فدخل تفاصيل حياة العربي وكلياته، بما جعل منه عنصراً عضوياً لا يمكن الاستغناء عنه في وصف ثقافته على مر العصور التي عاشها.
وتدين جوانب كثيرة من سلوكاتنا وتصرفاتنا للشعر، كما يدان ببعضها الآخر. وذلك لما تشبعت به نفوسنا من قيم هي في الأساس قيم شعرية فتسربت لمواقف حياتنا، أو لنقله قيماً قديمة وترسيخها في ثقافتنا، أو وقوفه عائقاً أمام تطور وتغير القيم الجمالية والأخلاقية من عصر إلى عصر. مما يمكّن من تفسير كثير من ظواهر حياتنا الاجتماعية ومواقفنا الفكرية وقيمنا الأخلاقية.
 
 [email protected]