نحن في عالم لا يقرأ الشعر. فكفى وهماً حول قدرة الشعر على فعل الاعاجيب، كما يتبدى للبعض. نحن في عالم، الكلام فيه يمضي في خدمة القوة، والشعر لا يخدم احداً، ولكن مع ذلك ينبغي ان نكتب الشعر حتى نصل الى تفاهم روحي مع الاشياء، بينما الشعر محال الى هامش العطالة وعدم الفعل.
وحتى تمضي لحظتنا الرمادية، ينبغي ان نكتب الشعر، لانه سيد لا ينازع ولا يقبل ان يمشي في الركاب….. فالشعر في عراقنا، مؤجل حتى اشعار اخر، في زمن آخر، عندها ربما سيكون فعله مدوياً ومأساوياً.
-1-
كلنا يعرف، ان الشعر ملازماً للحياة البشرية، وهذا اشد الاشكال الادبية واصدقها تعبيرا عن الذات، كونه نابعاً مباشرة من الوجدان الى المتلقي دون وسيط. لذلك، فالشعر والانسان شيء واحد، ولن ينتهي الشعر الا بانتهاء الانسان والوجدان.
وموت الشعر في اي ادب، لا بد ان ينتهي بموت الادب كله، وخاصة في لغتنا نحن بالذات، لان الشعر ضروري لتطوير اللغة التي لها الاهمية الكبرى و لتقدمنا الحضاري.
فالشعر يتهمش وينعزل عندما تغيب المعرفة الجمالية التي غالبا ما تنسحق تحت وطأة البنية التحتية للمجتمع، حيث يبدو بحالة غياب اشبه بالكامل ولا نستطيع الخروج من ذلك دون ان نخلق حركة نقدية تواجه تيار التبلد عبر حوار واع وجدي.
ومهما كان المنهج او المنطلق فلا بد من المكابدة والمجاهدة من قبل الباحثين والنقاد بدون الدخول في المشاحنات النقدية التي تستهلك الطاقة وتهدر الامكانية. فنحن احوج ما نكون الى من ينير درب مجتمعنا الذي تشكل نسبة الوعي بين افراده (2%) والامية الثقافية (98%). فهل انا محق اذا قلت ان الشعر محال الى هامش العطالة وعدم الفعل حتى تمضي لحظتنا الرمادية؟
من وجهة نظري، ليست هناك جهة معينة مسؤولة عن تحديد الخيارات التي من المفروض ان يواكبها الشاعر. صحيح هناك بعض العراقيل والحواجز التي قد تحد من الخيارات المتاحة، بل تعمل على عزل الشاعر عن دوره الذي يؤديه كشاعر ولكن تظل الشاعرية في حد ذاتها رسالة ومسؤولية ذات ابعاد عميقة في نفس الشاعر.
فالشاعر هو الذي يصل فيما يكتب الى خلق نوع من الجدل قد يصل الى التصادم مع الاخرين احياناً. نحتاج منه الى احداث صدمة عنيفة في قناعاتنا وطمأنينتنا، وهذه المسألة العميقة والمتفرعة لا يمكن ان تحدد وتعين من قبل جهة معينة او سلطة بل انها مسؤولية نابعة من اعماق الشاعر كأنسان معايش للواقع وملم بالاحداث.
وهذا الجدل مبني على طبيعة طرحه للقصيدة وفهمه لدوره ومسؤوليته التي يؤديها حيث يجب ان يكون متصلا بالناس، مندمجاً بآلامهم وآمالهم…. وعندما يصل الى تحقيق هذه الرغبة ليس مهماً ان يكون صائباً للهدف في جميع طرحه للقصائد التي تتناول الاحداث ولكن يكفي ان يحاول جاهداً لخرق بعض الجمود الذي اصاب الاغلبية والركود الفكري الذي اصبح يسيطر على اغلبنا.
– ألم يكن الشاعر خير معبر عن آمال الجماهير وتطلعاتها وكفاحها من اجل مستقبل افضل وسعيد، وهو الاكثر احساسا ومعاناة بآلام وهموم واحزان جماهيره؟ فالشاعر في عرض التاريخ وطوله كان الاول في حمل راية النضال والكفاح ضد الهمجية والظلم والاستبداد والجهل والعوز والجبن والاستسلام. فقد كان يتصدر دائماً الخطوط الامامية في كل كفاح وثورة وجهاد.
– ألم يكن الشاعر (سيزيف) العنيد الصامد يحمل طول عمره صخرة عذابه ومعاناته من اجل شعبه دون ان يكل او يرتد او يستسلم؟
– ألم يكن الشاعر أمل المؤرخين في تسجيل دقائق الاحداث وجليل الوقائع، وقصائده واشعاره سجلات مهمة ووثائق مثلى للمؤرخين يشهدون بها في الكشف على حقائق الاحداث والنوائب القديم منها والحديث؟
– ألم يكن الشاعر القائد والمعلم الذي يحث ويدفع المجتمعات المستضعفة الى الأخذ بحقها للعيش بشرف وبكرامة تحت ظل العدالة والسلام والرخاء من اباطرتها وحكامها…
– ألم يكن الشعر خير من حمل القيم الاصيلة ومعطيات العصور وما حفلت به من ثورات فكرية وسياسية واجتماعية وعلمية؟ ألم يكن الشعر خير معبر عن مشاعر وعواطف الانسانية عامة بوصفه البليغ وتجسيده الدقيق واحساسه الصادق ومعايشته الدائمة الصبورة؟ وخير من حوى قضايا الامم المصيرية وبطولاتها الخالدة وملاحمها العظمى؟
في الماضي كانت هناك مقاييس تميز الشعر، مقاييس شكلية او جوهرية، مقاييس فنية او موضوعية، مقاييس تجعلنا نقول (س) شاعر. اما اليوم وبكل صراحة ودون تنظير وفلسفة، اعترف انني لا استطيع التمييز بين ما يسمونه شعراً وما يسمونه نثراً.
ليقل لي هؤلاء المنصبون انفسهم اليوم شعراء (تجاوزاً)، ما هو تعريفهم للشعر؟ ما هي مقاييسه؟ لماذا فلان وفلان شعراء…؟ أأقول انها ازمة النقد التي نعيشها اليوم اكثر مما هي ازمة الفن والابداع؟ هل يستطيع النقد الاجابة ام انه هو الآخر تحول الى وسيلة للتعمية او للاستذكاء على القارئ والكاتب معاً بدلاً ان يكون وسيلة للافهام والبيان والتبيين؟
كل الذي فعله النقاد عندنا هو جعلهم لكل غامض شعراً وكل واضح لا شعر. واذا فهمت ما تقرأ كان المقرؤ دون قيمة، واذا عجزت عن الفهم كان المقرؤ زبدة العبقرية والابداع.
هذه المعادلة التعيسة يجب تحطيمها، فغاية الشعر هي القارئ ولا شعر دون قارئ او سامع يحلم، يتفاعل، يشارك، يجاهد…. والقارئ هو القارئ وليس القارئ بعد خمسين سنة.
فعندما نكتب وننشر لا نفكر بمن سيأتي، نفكر فقط بالذين هم معنا، باصدقائنا، بابناء بيئتنا وعصرنا، نتوجه الى هؤلاء، اليهم من خلال الكتابة برسالة معينة يفهمها متسلمها ويتجاوب معها او يرفضها، لا ان يستعير القواميس ويستنجد بالسحرة والمشعوذين لكي يشرحوا له لغة هذه الرسالة والمقصود منها. فكل قصيدة تعتمد الغموض تفتش عن الابهام تلجأ الى افتعال مشكلة والى نصب حاجز بينها وبين القارئ لا تستحق اسم قصيدة.
ان الاغلبية من الشعراء اليوم عندنا لم يعد يتبعهم احد لا من الغواة ولا من غير الغواة، ولم يعد يقرأهم أحد. والصالح منهم يذهب مع الاسف برأس الطالح لانك حتى تقنع الناس بأنك شاعر حقيقي لا بد ان تمضي عليك سنوات طويلة تبرهن خلالها على براءتك وحسن طويتك وانعقاد صلة لك مع الشعراء.
– فما الذي يبحث عنه الجمهور؟
انه يبحث عن شاعر بريء يقول كلاماً جريئاً وجميلاً وشاعراً لا ذاك الكلام المستهلك الممجوج الذي لا يتمكن القارئ من متابعة الجملة او البيت فيه الى آخره. اي انه من ذاك التواصل المعقول بينه وبينهم بحيث يجري التأكيد بانه يتعامل –اي الجمهور- مع فنان لامع مشعوذ، ومع كتابة متعوب عليها لامع كتابة مجانية، ولا يعني ذلك ان الجمهور يبحث عن الكلمة العادية او السهلة او المسطحة، فهو يعرف جيداً مستلزمات الكتابة الشعرية. انه يبحث عن ذاك الجسر الذي يفترض ان يصله بالشاعر فيجب ان يجده. انه يبحث عن شاعر يعرف جيدا ماذا يقول بعيدا عن الثرثرة واللف والدوران والتأنق المصطنع المهدر للجمل والالفاظ وتكلف القول بحيث يشعر القارئ وفي كل صورة ينتهي منها انه يتذوق فعلا ما يقرأه ويحسه كأنه جرى فعلا له لا للشاعر الذي يكتبه.
اما ان يبرهن الشاعر على تلك العبارات والصور المعتمة المبهمة المعماة على اساس انها رسوله الى القارئ وعلى اساس انه شاعر طليعي وتجريبي ومستقبلي فأمر لم يعد يجد له سبيلاً الى القارئ.
-2-
ان التزييف والتقليد لم يكن مقصوراً على بعض المجالات الاساسية في حياتنا العامة اليوم فحسب بل تجاوزه الى امور كثيرة لا حصر لها. وقد نال الشعر العراقي حظه الاوفر من ظاهرة الغش والتزييف وكان له المكان الاول في مضمار السبق واالتنافس على تغيير الحقائق وطمس كل المبادئ البناءة واستبدال الجيد بالردئ، وذلك ليس الا الوصول الى (شبه شهرة) واهنة بأقصر واسهل الطرق التي يحققها هذا التزييف.
ان ما يشد انتباه اي متتبع لصفحاتنا الثقافية اليوم ظاهرة كثرة الشعراء، وذلك التعاطي المفرط للكتابة الشعرية الى درجة يمكن الحديث معها عن ظاهرة ادبية يمكن تسميتها بظاهرة (الفورة الشعرية) التي لم تقرأ من شعرها شيئاً.
اننا نقف امام كم هائل من القصائد مشدوهين حائرين لا نلمس منها شعراً بل هو اقرب الى استعراض لرهط كبير من الشعراء- ان جازت تسميتهم شعراء حقاً- ولا ادري من اين اتى كل هؤلاء الشعراء وكيف تسنموا سدة الشعر واخذوا ألقاب شعراء وهم لا ينتمون للشعر ولا تربطهم به اية رابطة لانهم لم يضفوا عليه اية لمسات تجديدية لانهم اسرى التقليد الاعمى الذي لا يقع فيه الا من كانت مواهبهم (مطموسة)، وهؤلاء يمكن ان نشبههم بالببغاوات التي تقلد الاصوات التي تسمعها مراراً دون ان تفهم معنى هذه الاصوات ذاتها.
هذا النسق من التسفيه للغة والفكر شاع في الآونة الاخيرة ولجأ اليه الذين لا يملكون قافية ولا يعرفون كيف يتعاملون مع الكلمة والوزن فأصبح شعرهم عبارة عن طلاسم. والذي يحتم ان يكون لكل قصيدة منه ملحقاً تفسيرايا ومخططاً جغرافياً يهتدي به القارئ ليصل الى فك الالغاز والاحاجي المحيطة بالمعنى وبالمبنى في هذا الضحل الركيك.
– فما الذي دهى الشعر العراقي اليوم؟ لماذا لم تعد تهزنا كلماته؟ ما الخيارات المتاحة للشاعر في مجتمعنا بوصفه شاعراً؟ عن ماذا يجب ان يكتب وعن ماذا يجب ان لا يكتب؟
ان هؤلاء الشعراء احدثوا ما يمكن تسميته نكسة في الشعر العراقي من خلال خروجهم عن منطق العبارة اللغوية… التجريد والغموض في الرمزية الى حد يبلغ في بعض الاحيان حد الهذيان واللامعنى… الانفعال والمباشرة الفجة… الغوص بغباء في الوجدان ومحاولة استبطان انفعالاته الداخلية.. تشابه المنشور منه الى الى حد انعدمت قدرة القارئ المتابع لا المتخصص على التمييز بين جيده ورديئه مما انصرف عنه وبات القارئ الوحيد لدواوين الشعر هم الشعراء انفسهم.
– ان هذا النوع من الشعر هل له علاقة بالحداثة؟
لنفترض ونسجل ما يجب قوله:
ان مفهوم الحداثة في شعرنا العراقي الحديث ظل غامظاً مبهماً على الرغم من انقضاء اكثر من خمسة عقود زمنية على بروز ظاهرة الريادة الشعرية. وعلى الرغم من مئات الكتب والمقالات التي طرحها الكثيرون من ابناء الجيل الشعري اللاحق بعموم الساحة العراقية والعربية بحيث تشعبت الرؤى وتداخلت المفاهيم حول هذه المسألة الشائكة التي اتخذت في اطارها المتداول ابعاداً جديدة هي ابعد ما تكون عن المفهوم الاصطلاحي لكلمة الحداثة ذاتها حيث يرى البعض في حداثة الشعر خروجاً عن المتوارث الشعري برمته وانصياعاً كاملاً لمتطلبات مرحلة جديدة من مراحل الحياة منقطعة الجذور عن سابقاتها. اي اغتراب كامل عن الجذور التاريخية والحضارية والتماس مع كل ما هو قادم من حضارة الغرب، فقدمت الحداثة الشعرية نصوصاً شعرية لم تصمد في الذاكرة الشعرية ولم تفلح في تأسيس تجربة متكاملة لحداثة الشعر العربي بعامة والعراقي بخاصة لانها اساساً لم تقيم على فهم واع للعملية الابداعية العربية والتركيبية المجتمعية العربية انساناً ومعرفة، في حين راح البعض الآخر ينظر الى القصيدة نظرة سلفية بحتة لا تقوم على اساس الموازنة بين التراث والحاضر ولا تعالج الواقع المرئي او المتخيل بمنظار الزمن المتجدد، وظلت العقيدة عند اصحاب هذا الاتجاه فاقدة لعناصر ديمومتها، ذلك لانها لم تضيف شيئاً الى ما هو معروف من خصائصها المتوارثة. والحداثة في الشعر العراقي للأسف اخذت وجهاً كاريكاتورياً، اذ هل يمكن تصور حداثة شعر في غياب حداثة حياة؟! واين نحن من العقلانية والمدنية التي ارتبطت بها الحداثة في الغرب؟ وماذا بوسع طلاسم الشعر المبهمة ان تفعل امام (98%) من امية الجماهير الابجدية والثقافية ؟ وماذا تستطيع كلمة ان تفعل ازاء فقدان كسرة خبز او ازاء واقع مرير يمتد من الخيبة حتى الخيبة…؟!
ان الشعر في ابسط تعريف له، هو تعبير فني عن تجربة انسانية، وتبعاً لهذا فللشعر بعدان: البعد الفني والبعد الانساني. لذلك يفترض في الشعر ان يلامس تفاصيل الواقع ويعي وجوده ضمن السؤال السياسي في اطار الجسم المجتمعي.
بمعنى، ان الشعر لا يمكنه ان ينفلت من اسار المجمتمع الذي هو مجتمع متناقض، فهو يفرز من جهة عوامل الطغيان والهمجية وتجريد الانسان من انسانيته، ومن جهة اخرى عوامل مضادة تعمل في اتجاه الابداع والحرية، وعلى الشعر ان يعي هذا التناقض والعمل على تغليب الاتجاه الانساني على الاتجاه التدميري، اتجاه الحياة على اتجاه الموت.
-3-
الشعر العراقي يعاني من ازمة الدوران حول نفسه في افق مسدود، واني اعتقد ان مشكلة الشعر العراقي بصفة عامة تكمن في حالة الانحطاط العام التي حصلت في السنوات الاخيرة ليست في العراق فحسب بل وفي بقية الاقطار العربية، حيث لم يعد هناك ذلك الغليان السياسي مثل غليان عقد الستينات وبداية عقد السبعينات من القرن العشرين، ولا ذلك المد القومي العارم ولا تلك المقاومة الكبيرة لكل اشكال الهيمنة والسيطرة…. فقد حصل نوع من الخفوت في كل الاصوات وبدأنا نجني ثمار احباطات كبيرة وكثيرة واخرى على الطريق ستأتي…
اذن، هناك احباط معين في هذا الواقع الذي هو جزء من الواقع العربي المضطرب من كل النواحي، ومثل هذا الاضطراب يؤثر بدوره على الابداع ولذلك، فقد كان اول من دفع ثمن هذا الاضطراب والاحباط هو الشعر وبخاصة الشعر العراقي، الا الشعراء الذين تعودوا ان يربطوا بين تجربتهم الشعرية العميقة وبين حياتهم بدون اية تبعية سطحية للاحداث.
ان هذا ما يمكن ان نسميه بالازمة ولو انني لا أميل لاستخدام هذه المفردة في المجال الثقافي، لان هناك مراحل وتحولات دائماً، وعلى اية حال فمرحلة الازمة هذه هي بالتأكيد ما يجعل الشعر العراقي يدخل مرحلة تساؤل حول افاقه وحول طرائق عمله، وقد تكون هي المفتاح الاساسي للتجربة القادمة.
ان الشعر العراقي اليوم او الشعرية العراقية الآن لا تشهد أية تيارات متعددة ومتضاربة، لان هناك شعراء يكتبون الشعر الحديث دون ان يضفوا عليه أية لمسات تجديدية، لانهم اسرى التقليد الاعمى الذي لا يقع الا من كانت مواهبهم مطموسة. وهناك على النقيض شعراء يحاولون استيراد احدث الوان الموضات والصرعات الشعرية التي لا يستسيغها احد ولا يتقبلها بل ان هؤلاء الشعراء انفسهم في تقديري لا يفهمون ما يكتبونه، واذا قلنا اننا لا نفهم ما تكتبون اتهمونا بالتخلف وبعدم الارتقاء لمستوى العصر وحساسيته الجديدة، وبين هؤلاء واولئك شعراء يبشرون بكل خير لانهم يعكسون هموم امتهم وقضاياها المختلفة، ويعبرون عن ذاتها في سعيها للتقدم ومجارات روح العصر الذي نحيا في اطاره.
لقد قامت الشعرية العراقية الحديثة على اكتشاف شعراء كانت لهم جذورهم الممتدة في تراثنا، وكانوا قد نشأوا في هذا التراث وتمرسوا فيه ثم اخذوا مآخذهم المختلفة في التجديد، واصبح من اليقين الذي لا يجوز ان نمادي فيه.
ان حركة التجديد الشعري او ما تعرف بثورة الشعر العربي الحديث التي اوجدت ما يسمى بالشعر الحر، كانت استجابة لحاجة حقيقية للمجتمع. كما كانت امتداداً طبيعياً لما كان يكتب قبلها مباشرة من شعر، اي للحركة الرومانسية، فقد طورت الرومانسية في الاوزان وعددت القوافي وكانت تمهيدا لظهور شعر التفعيلة وكان الرواد من كتاب الشعر الحر… كانوا جيلا مستوعباً للتراث العمودي، وكانوا قبل تحولهم للشعر الحر يكتبون شعراً عمودياً ولكن بمعجم معاصر واستناداً لتجارب وافكار معاصرة فلم يكن تحولهم بعد ذلك للشعر الحر عجزاً او قصوراً بل جاء محاولة للاقتراب من الحياة اليومية المعاصرة والتعبير عنها تعبيراً اكثر مرونة ورقة، وكان يمثل فلسفة فنية جديدة آمنوا بها وارادوا التعبير عنها، ثم جاء بعد ذلك جيل ثانٍ من الشعراء احدث مزيداً من التطوير ولكنه لم يخرج كثيراً عن الجيل الذي سبقه، اما الجيل الثالث فأنه لم يحدث اي تغيير.
انه مهما يكن من امر، فأننا قد نخلص الى ان الشعراء الاوائل من هؤلاء المجددون هم اقرب الى نفوسنا وفهمنا ممن تلاهم من اجيال الشعراء المحدثين بسبب صلة هؤلاء الرواد بتراثنا وبسبب اصالتهم الشعرية.
اما من تلاهم فلم ينشأوا في التراث ولم يتمرسوا فيه الى الحد الذي يعينهم على ان يكون تجديدهم ذا صلة، ومن اجل هذا بدأ كل جيل يتراجع عن الجيل الذي سبقه مسافة تزيد او تنقص عن غيره بعداً عن الشعر الحقيقي سواء أكان هذا الشعر الحقيقي متمشياً مع اصول تراثنا ام متمشيا مع ما يسميه الشعراء المحدثون بالشعر الحديث.
فالذي يخيل إلي ان السبب في هذا ان قصائد هؤلاء اصبحت ذات مفردات متكررة ولم يعد هناك جديد امامهم يجددون به انفسهم بسبب ضحالة او انعدام معرفتهم بتراثنا وشعرنا الذي كان النبراس الذي اهتدى به رواد الشعر الحديث وقلدوه. فالاجيال التي تلت هؤلاء الرواد انما كانت مقلدة للتقليد نفسه وليس عندهم في الاكثر الاعم ما تقدمه وسقط هذا الشعر في هاوية الثرثرة النقدية الفارغة.
ان الحداثة في الشعر العراقي ليست بنداً لكل ما افرزته حضارة الغرب شعرياً او ابتعاداً عن القيم الجمالية والتذوقية والبلاغية في المعجم العربي بل هي- المفروض ان تكون- المزيج الحي والواعي للعملية الابداعية برمتها عبر دراسة النص الشعري القديم وتحليل مقارباته وموازناته بلاغياً وجمالياً، ومن ثم هضم كل هذه العناصر مجتمعة بما فيها التركيبة الاجتماعية والحضارية للانسان العراقي المعاصر بغية بناء نص عراقي جديد متميز يقوم على اسس تجذرية كامنة في اللفظة العربية ذاتها والخارجة من الارض العربية ذاتها لكي لا تكون عملية التحديث الشعري منقطعة عن الاصول الميدانية وبعيدة متغربة في عالم خارج طبقات الجاذبية.
ان هذا الذي نسميه تجديداً في شعرنا اليوم انما هو في الحقيقة تأثر بشعراء من الغرب وتقليد لهم، ثم اخذ للاسف بعض اشباه النقاد يزينون هذه الاتجاهات بان يجعلوها متمشية مع نبض الحياة الحديثة والاستجابة لحاجاتها المتجددة في الصياغة والمضمون معاً.
ولا يقتصر الامر على مثل هؤلاء اشباه النقاد بل يتعداه الى الأهم منه هو وجود محررين في الصفحات الثقافية ومسؤولين عنها ممن تنقصهم المقدرة على تذوق محسنات الشعر ورصانته من حيث الجودة والرداءة، يدَّعُون الادب والابداع وهم اشبه بكتاب العرائض، ابتلينا بكتاباتهم الفارغة التي تسود بياض صفحات جرائدنا، ممن يغالوا في تكريم بعض ما يسمون بالشعراء جزافاً بطبع اسمائهم بالخط الكبير وينزلون باسماء معروفة في زوايا الصفحات، واذا كان الشعر يُقيَّم بهذه الطرق العشوائية والمحتكمة بالعقد النفسية عن عدم وعي واحساس ادبي فلا خير فيه، والى هذا الحد ينتهي الشعر بمفهومه اللغوي والاخلاقي عندنا.
لقد آن الاوان لكي يصارح بعضنا البعض في سبيل تصحيح المسيرة الشعرية حتى يدعمها ويقودها الاكفاء القادرون.
[email protected]