19 ديسمبر، 2024 12:58 ص

الشعب لا يصفق أبدا لصفيق

الشعب لا يصفق أبدا لصفيق

“وقفوهم إنهم مسئولون” 
  يتميز العراقيون عن غيرهم بخبرتهم اللامتناهية بإطلاق الالقاب والاسماء لكل شيء يضعون عقولهم فيه أو تقع عيونهم عليه بسخرية متميزة قد لا يكون لها نظير في مجتمع ما آخر، ويكون الأمر في غاية الأهلية خاصة عندما يتعلق بإطلاق تلك الالقاب والأسماء على بعض الشخصيات النابية السياسية والمجتمعية المنحرفة عن جادة الطريق، والمؤثرة كذلك في الوسط السياسي والاجتماعي والوظيفي بحكم استغلال القوانين الوضعية للتملص أيضا من سلطة القضاء وقبضة العدالة، فالشعب دائما لا يرضى عن إمام أو حاكم جائر ولا يصفق أبدا لصفيق خائب خائر، إلا في حال أن الناس قد سقطوا في فتنة.

  ولكن متى يكون إيقاع تلك الالقاب والمسميات أكثر تأثيرا ووقعا على مسمياتها وفي محيطها الذي يتداولها؟.
يكون ذلك عندما يكون المستهدف من الشخصيات المستهترة والفاسدة المتنفذة والمهيمنة على دفة الحكم وأمور الدولة المفصلية والمجتمع، الأمر الذي يجعله أن لا يتخلص من شباكها، مثله كمثل الصيد الذي يقع في قبضة الطيور الجارحة كالنسر والعقاب، أو الضواري المستسبعة من أمثال الأسد والنمر، لذلك فإن هذه الحالة شكلت جزء من ثقافة الشعب العراقي وتراثه الثر، بعد أن فرضت نفسها على المسمى نفسه.

  وقد تعبر تلك الالقاب أحيانا عن حالة بصمة أو صفة بما لا يستطيع مؤلف بعبقريته الجمة من ايصال وقعها بشكل دقيق وساخر لأخلاد الناس ووجدانهم حتى وإن وضعها في مجلد كبير، وجاء هذا التميز نتيجة لما لمسوه من قسوة بلدهم من خلال تسلط حكامه وجورهم عليهم من أمثال المقبور على حسن مجيد الملقب ب”علي كيمياوي”، وللفقير والمظلوم من الشعب حق في هذا الإجهار وحجة في اطلاق تلك التسميات الساخرة على جميع الظلمة والفاسدين والمارقين حتى يتعض من لم تناله قبضة القضاء، وأغلب الأحيان تكون تلك الالقاب سنخة لأغلب ممارسات وتصرفات بعض القادة والسياسيين ممن كانوا فلتة زمانهم وقادته الضرورين، وهكذا.

  كما أن العراقيين صاروا يسمون الأشياء بصفات هي الأقرب لمجمل مصائبهم المتعددة والمتنوعة كمصيبة الموت، فعلى سبيل المثال يسمون الطريق ذي الحوادث المرورية المؤسفة والشديد الخطورة من جراء الاهمال والتهميش ب”طريق الموت”، وتلك السفرة التي راح ضحيتها عدد غفير من الشهداء والجرحى نتيجة التفجير الارهابي الجائر ب”سفرة الموت”، وذاك الجبل أو البحر ب “جبل الموت” وب”بحر الموت”، والرحلة الفلانية التي تسببت في قتل ثلة من العراقيين ب”رحلة الموت”.
-وعلى هامش رحلة الموت على سبيل المثال نستذكر رحلة الشباب العراقي الذي ركب رحلة الموت من خلال المخاض في بحر أيجة للعبور إلى أوربا لطلب الخلاص من اوضاعهم المزرية في العراق، حيث عرجنا في ما مضى على سرد واحدة من النكبات التي تعرضت لها أحدى الأسر العراقية آنذاك من خلال ركوب “رحلة الموت” عبر تركيا، وحقيقة مأساة تلك العائلة أنها فقدت اثنين من أطفالها هما “حيدر وزينب” فقدتهما غرقا في عرض البحر بسابقة قل نظيرها في التاريخ المعاصر امام نظر والديهما اللذان لم يتمكنا من انقاذهما البتة-.

  عموما فإن العراقيين نستطيع القول عليهم إن صح التأويل أنهم اختلفوا عن شعوب المعمورة بأن سادت في أجواءهم الثقافية والمجتمعية بعض من المظاهر العاطفية الإنسانية السوداوية التي أثرت على مجمل مفردات حياتهم وسلوكياتهم وتحولت إلى ثقافة كمظاهر البؤس والحزن والحرمان وغياب الفرح والأمن وانخفاض المستوى المعاشي والتعليمي والصحي، وبطبيعة الحال فان للفساد والإرهاب الوزر الأكبر في تصاعد مأساة العراق والعراقيين نحو أسوأ الظروف ونحو بلوغ أعلى سقوف تلك المآسي والمعضلات على المستوى العالمي، وبالتالي تبلورت تلك الظواهر إلى ما من شأنه تخطي حدود المظاهر الثقافية إلى حد ما يصح أن يطلق عليه أنه صار عرفا أو تقليدا أو حتى تراثا.
 

  فبغض النظر عن المرحلة التي مر بها العراق والعراقيون إذا أردنا أن نحسب معاناتنا وأسبابها فإنها اجمالا تعود لأصل الصراع الصهيوني الاسلامي أولا، ولأصل الصراع المذهبي المذهبي ثانيا، فبخلال فترة حكم النظام المقبور طيلة مدة 35 سنة وما سبقها من أنظمة غاشمة تجسد النفس الطائفي والمذهبي والمناطقي في أبرز حالاته في المجتمع العراقي وبأوضح صوره وأجلاها بظاهرة لم تكن مسبوقة خلال تاريخ العراق المعاصر، هذا وبرغم كل النتائج التي ترتبت على العامل النفسي والاجتماعي للذات العراقية فإن العراق وشعبه رغم كل ذلك قد قطعا عهدا جديدا بعد حالة التغيير التي جرت في العام 2003 م، وإستبشرا خيرا بولادة عهد عراقي جديد يرفع الحيث والحرمان عنهم، وبإزالة كل مظاهر الظلم والتخلف عن كل عراقي شريف ذاق الأمرين، ولكن الذي ما كان بالحسبان أن فئة قد انتهزت الظروف المؤاتية وسيطرت على المشهد العراقي للحد أن البعض من هؤلاء قد حسبوا أنفسهم على الطبقة السياسية كمعارضين وهم في الحقيقة ما هم إلا سراق أو قطاعي طرق أو ممن خرج منهم عن القانون أو هرب من الخدمة العسكرية إن لم يكونوا إبتداء من جلاوزة النظام وأعوانه وقد أسميتهم ب”الزمكانيين” -لأنهم يصلحون لكل زمان ومكان- وانهم”المنافقون”و”الانتهازيون”و”الوصوليون” حقا، ومن المؤسف أن صار القرار العراقي بيد بعض هؤلاء، لأنهم وبعد عودتهم للعراق أثناء الاحتلال قاموا بعد إن إتسقت الأمور لهم قاموا بالاستيلاء على ثرواته النفطية، كما وسرقوا أمواله وخيراته ليستثمروها في عواصم أوربا والخليج لمصالحهم الشخصية الضيقة، وخربوا جميع أشياءه حتى نسيجه الاجتماعي لم يسلم من سطوتهم وخرابهم ففككوه إلى شيعة وسنة وأكراد، ولم تسلم من هذا الأذى والتخريب المؤسسات الانسانية والصحية والتعليمية والثقافية ومعظم مؤسسات الدولة والحكومة بحجج واهية لا تمت للحقيقة بصلة بتاتا.

  والحمد لله على كل حال ولا يحمد على مكروه سواه، فبظل هؤلاء توج العراق على أنه بلغ الدرجات العليا في الفساد، والدنيا في التطور والاعمار وبناء الحياة والإنسان.

  فإلى هؤلاء ممن لا إيمان لهم، ممن تسببوا في هدر ثروات العراق وأمواله، وممن سفهوا أحلام العراقيين، لهم أن تتبعهم لعنة العراق والعراقيين أين ما حلوا ورحلوا، ولهم أن يوسموا بتلك الالقاب الساخرة والتي ما أن وضعت في ذاكرة التاريخ حتى تحولت إلى عقوبة أزلية تلاحقهم عبر صفحات التاريخ ومحطاته، لا يمكن لأحدهم الخلاص منها والإنفلات من ربقتها والتملص من شنارها وعارها أبدا حتى لو دفع جميع الأموال التي سرقها ثمنا لذلك.

  فويل لكل فاسد ومفسد ودنيء وخائن الذي تسبب في قتل العراقيين وسرقة اموالهم، وباع ارضهم وعرضهم ومياههم، وويل لكل من يوسم منهم بوسمة عار وشنار كانت مما جنته يديه ونسجتها نفسه لنفسه وجرت على السن فقراء العراقيين ومظلوميهم ومحروميهم خاصة، فصارت له دالة وعلامة تلاحقه ما دامت الحياة، ففي تلك الحالة لا يلومن إلا نفسه ولا يندب إلا حظه العاثر.

  فتحية لكل العراقيين الشرفاء، وتحية لمعتقداتهم ومقدساتهم، وتحية لشهدائهم وجرحاهم، وتحية لجميع رجالهم ونسائهم خاصة الثكالى منهم، وأطفالهم خاصة اليتامى، وتحية لجميع قواتهم المسلحة بما فيها الحشد الشعبي المقدس، وتحية لكل ذرة تراب عراقي وقطرة مياه عراقية ونسمة هواء وحبة قمح وذرة ملح في شماله ووسطه وجنوبه، وفي شرقه وغربه، وفي”نينوى والفاو وخور عبد الله”وفي كل شبر عراقي من أرضه وبحره وسمائه.
والحمد لله رب العالمين.

“لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما”.