في مجتمعاتنا العربية , يبدو مضحكا القول أن الشعب مصدر السلطات , وما هو إلا سندان تنهال عليه مطارق الكراسي بأحجامها وأوزانها المختلفة , لتطرق رأسه وتشكل حياته وفقا لهول ضرباتها ونيران كيرها اللهاب.
الشعب العربي لا يمكنه أن يكون مصدرا للسلطات , وإنما هو هدفها , ولابد أن تتجسد فيه آليات الخضوع والخنوع والتبعية والإمتلاك , أي أن الشعب ملك مشاع للأحزاب والفئات والعمائم والقوى المتسلطة الباغية , المتمسكة بمناهج الإذلال والإهلاك والحكم بالحرمان من الحاجات.
الشعب العربي لم يُمنحْ الفرصة لكي يكون سيّد نفسه ومقرر مصيره , وإنما تم تحويله إلى أرقام وموجودات فاقدة الأهلية لبناء وتطوير منظومة الحياة , فهو ممنوع من التعبير عن رأيه على مدى قرون , وتحفّه مخاطر الكراسي في صناديق الدول والأوطان , وتضربه على رأسه مطارق الحكام.
وكما هو معلوم , فقد إرتكبت سلطات الحكم في دوله أبشع الجرائم والآثام بحق الإنسان , وأذاقته أقسى صنوف التعذيب والترويع في السجون والمعتقلات , التي تتباهى ببنائها والإمعان بتطوير وسائل القهر فيها , وإستيراد أقذر أدوات التمثيل الجسدي بالبشر المغلوب على أمره والمسحوق بجنازير الحاكم بأمرٍ مُهان من ذوي المصالح والإرتهان.
الشعب العربي ما تنفس هواء الحرية , وما أن توهم بأنه سيقدر على التحرر من أصفاد ذوي السلطان , حتى وجد نفسه في خنادق لم تكن في الحسبان , فصار البشر في محنة الخوف من نفسه ومن أخيه المواطن الذي كان يعيش معه بمحبة وألفة وتحنان.
ومضت خمسة سنوات من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , والعربي متمحن في نفسه ومذهول بما أصاب أحواله , وكيف توافدت إليه العواصف الطائفية والمذهبية والفئوية والتحزبية والتكفيرية , وكيف إجتاحت وجوده الإنفجارات والدمارات والتخريب السائد في البلاد.
وكيف أصبح الفساد دستورا والمحسوبية قانونا , والنهب تقليدا , والخيانة والتبعية وطنية , والباطل حقا , والضلال دينا والنار لغةً , والموت مشاعا ومبتذلا , والتهجير ديدنا , والإستحواذ على حقوق الناس شجاعة وفخرا , وسفك الدماء من طقوس أديانهم أهواؤهم , وكيف تعددت الآلهة وغاب الإله , وصارت العمائم تجهر بالسوء المباح!!
وكأن الشعب العربي لايمكنه أن يكون سوى مصدرا للدموع والأحزان , ولمسيرات اللطم والنواح والبكاء على القبور والأجداث الغابرات , ولا يمتلك قدرات أكون , وطاقات التحدي الإيجابي وصناعة المستقبل الحضاري , الذي يكفل مصالحه وأمنه وسلامة ذاته وموضوعه , ويحافظ على مسيرات أجياله المتعاقبة , التي عليها أن تتكاتف وتتآلف وتمتلك رؤية ذات أفق وسيع.
الشعب العربي لا بد له من كرسي وطني ينكر ذاته ويؤمن بموضوعه , ليأخذه إلى طريق الحياة والقدرة على البناء والعطاء الأصيل , وبعد أن يتعلم مهارات التعايش الوطني والفعل الحضاري
النافع البنّاء , عندها فقط يمكنه أن يكون مصدرا للسلطات , لأنه في هذه الأحوال سيمتلك وعيا حيويا بالمسؤولية والواجبات , وما يجب عليه أن يقوم به ويفعله لصناعة حاضره وغده الأفضل.
أما ما تحقق في المجتمع من تفاعلات بذريعة الديمقراطية , فأنها تكشف عن غياب الشعور بالمسؤولية الوطنية والإنسانية , والتحول إلى طاقات سلبية مؤهلة لتدمير الحياة , وما يتصل بها من معاني ومستلزمات ومبادئ وصيرورات , وعناصر عزة وإقتدار , وهذا الحال من منابع الأحوال التي يتدفق ما فيها حولها , فتورق بذوررها وتتفتح براعمها التي حققت ما هو قائم وقاتم!!