23 ديسمبر، 2024 1:48 م

الشعب العراقي كيفما يراه الدكتور علي الوردي

الشعب العراقي كيفما يراه الدكتور علي الوردي

قد لا اكون مغالياً لو قلت ان الهزات العنيفة التي عصفت بالعراق وشعبه من متغيرات سياسية وانقلابات عسكرية وحروب فوضوية لم تحدث لبلد آخر من بلدان المنطقة المشابهة للعراق في ظروف نشأتها ومسيرة تاريخها السياسي والاجتماعي. فالجميع يدرك جيداً ان العراق لم يشهد طوال مراحل تأريخه استقراراً طويل الامد على اي من الاصعدة, الا في بعض المجالات ولمدد قصيرة نسبياً. وفي ظني ان ما يعانيه العراق اليوم من تحديات امنية ومصاعب جمة هي في حقيقتها نابعة من تراكمات عقود طويلة من تاريخ هذا البلد كان عنوانها الفوضى والتمرد وعدم الاستقرار, ولم ينل العراقيون منها سوى الدمار والخراب والتشريد.
     من يطلع على تاريخ العراق المعاصر بشقيه السياسي والاجتماعي واقصد هنا بــ (المعاصر) اي التاريخ الذي يؤسس لبناء دولة العراق الحديثة وتحديداً العام 1921, ستثار في ذهنه على الفور علامات استفهام كثيرة عن السر الكامن وراء مسلسل القلاقل والاضطرابات التي تجتاح العراق في كل زمان ومكان وعدم الاستقرار المزمن الذي تطبع به طوال مراحل تأريخه. ولكي نفهم ذلك لابد من الوقوف عند حقيقة مهمة دائماً ما يؤكد عليها علماء الاجتماع والمختصين فيه وفي مقدمتهم طبعاً الدكتور علي الوردي رحمه الله. ولمن لا يعرف من يكون الدكتور علي الوردي, اود التعريف به بأيجاز. فهو عالم اجتماع عراقي واستاذ مادة علم الاجتماع سابقاً في جامعة بغداد. يعد ابرز واشهر من تناول في مؤلفاته دراسة سمات المجتمع العراقي والظواهر الاجتماعية التي سادت فيه قديماً وحديثاً وبيان اسبابها وعوامل نشأتها وفق ما جاءت به نظريات علم الاجتماع الحديث. كرس الجزء الاكبر من حياته المهنية باحثاً متعمقاً في دراسة المجتمع العراقي فأجاد في هذا المجال كثيراً وكان مسعاه مثمراً واوصل القارئ الى حقائق غاية في الاهمية لم تأت بها عقول اي من اقرانه او الذين عاصروه (حسب رأيي الخاص). فمن جملة ما اتى به من حقائق هو ان المجتمع العراقي كغيره من المجتمعات البشرية يخضع في تكوينه لمجموعة عوامل بيئية ونفسية واجتماعية تمتزج فيما بينها لتكوين الطابع العام او الهوية الثقافية لهذا المجتمع, او ما يطلق عليه علمياً (Culture). وعليه فأن الفرد العراقي محكوم عليه السير في طريق ما رسمته له تلك الثقافة المجتمعية. لا يستطيع الخروج في تفكيره واقواله وافعاله عن نطاق القيم الاجتماعية التي نشأ وتربى عليها. بل سيكون منقاداً بشكل لا ارادي لتقبل ماجاءت به تلك القيم من فضائل ورذائل ومستميتاً في احيان كثيره في الدفاع عنها تجاه اي مؤثر خارجي حتى وان كان بهدف الاصلاح.
      خصوصاً اذا كان هذا الفرد ينتمي الى مجتمع منغلق على نفسه لا يفقه من الحداثة والتجديد من شئ سوى منظومة جامدة من قيم وعادات ومعتقدات ترسخت في عقول ابناءه. فلا حياد عنها ولا انحراف في تطبيقها. هذا الطرح الذي جاء به على الوردي يكاد يكون العامل المشترك لجميع المجتمعات البشرية ولعلنا نراه بوضوح اكثر في المجتمع العراقي ذو النزعة القبلية المتشددة. وعليه فأن من يود دراسة وتفسير اي ظاهرة اجتماعية وادراك مدى تأثيرها في حياة ابناء المجتمع, يتحتم عليه النظر اليها بمنظار ما تطبع به المجتمع من ثقافة سائدة.
     ان العلاقة الجدلية مابين الشعب العراقي والحكومات التي توالت على حكمه وما اتصفت به تلك العلاقة من احتدام ومواجهة على مر الاجيال, يعطي لنا انطباعاً واضحاً عن شخصية الفرد العراقي التي غلبت عليها النزعة الثورية والهيجان الدائم. وهذا مرده بالتأكيد الى جذور الثقافة البدوية القائمة على مبادئ الغلبة وعدم الانصياع. فكان من نتيجة ذلك ايضاً مجئ حكومات متولدة من رحم تلك الثقافة المجتمعية لتواجه شعب عنيد يصعب ترويضه ولا يتقبل بتاتاً فكرة الطاعة والانقياد, فأصبحت المواجهة بين الحاكم والمحكوم امراً حتمياً وشر لا بد منه, واصبح الصراع هو السمة الابرز للعلاقة التي تربط بينهما.