إستطاع الشعب الكوري (في جمهورية كوريا الجنوبية) من الإطاحة بطريقة سلمية دستورية برئيسة الجمهورية بارك. والسيدة بارك ليست فقط رئيسة للدولة لتكون زعيمة السلطة التنفيذية فحسب، وإنما رئيسة الحزب الحاكم – والذي له الأغلبية في البرلمان، بمعنى إنها تسيطر على البرلمان الكوري (السلطة التشريعية)، بالإضافة الى أنها أبنة رئيس كوريا السابق، جونكغ-هي بارك، الذي حكم كوريا لحوالي عقدين من الزمان، منذ إستيلائه على الحكم في عام 1961 وحتى عام 1979. فهي في الواقع ابنة الطبقة الحاكمة في كوريا وزعيمة هذه النخبة السياسية بدون منازع. فكان والدها من الجنرالات العسكريين عند وصوله الحكم من خلال إنقلاب عسكري. فهي أيضاً من هذه الطبقة الأمنية-العسكرية التي تمسك بزمام الملف الأمني في الدولة، وخاصة أن كوريا الجنوبية تعيش وكأنها في حالة إستنفار عسكري دائم مع كوريا الشمالية، وأن العاصمة (سيئول) تبعد عن الحدود العسكرية الفاصلة بين الدولتين بحوالي 50 كلم. فهناك أكبر تواجد أمريكي عسكري في شرق آسيا – أكثر من 50 ألف مقاتل؛ فهنالك الجيش الثامن الامريكي، والقوة الجوية السابعة وقاعدة البحرية الأمريكية الدائمة. فلا يمكن حماية استقلال كوريا الجنوبية من شمالها إلا بهذا التواجد العسكري الامريكي المستمر في بلادهم. فحالة الاستنفار العسكري هذه مستمرة عندهم منذ 1953، كما أن الجيش الكوري الجنوبي يتألف من أكثر من 650 ألف جندي وأكثر من ثلاثة ملايين احتياطي، ويستهلك هذا الجيش الجرار أكثر من 15% من موازنة الحكومة السنوية.
والرئيسة بارك التي فازت بالانتخابات الرئاسية لولايتين إنتخفظت شعبيتها من 65% الى الحضيض (أقل من 4%) عند الكشف عن فسادها الإداري. كل ما في الأمر أن حالة الفساد عندها لا تقارن بالمرة بما هي عندنا. فالذي قلب الطاولة عليها هو الكشف عن تعينها صديقتها في موقع مرموق في مكتب الرئاسة (وهو من حقها). هذه الصديقة هي في الواقع إبنة زعيم الكنيسة – بمعنى أنها ابنة المرجعية الدينية عندهم، ولكن الشعب أعبر ذلك من قبيل المحاباة لمن ليس لديه تلك الكفاءة. عندما انكشف أمر صديقتها، في أواخر الشهر العاشر (أكتوبر) 2016، قامت الرئيسة بارك بإنهاء عقد العمل معها، ولكن البرلمان حجب الثقة عنها، ولكن التظاهرات بعشرات ومئات الآلاف استمرت في العاصمة
وأمام القصر الجمهوري والبرلمان تطالب بتنحية رئيسة الجمهورية عن منصبها. مع العلم بأن البرلمان لا يستطيع تنحيتها لأنها أنها تملك الأغلبية النيابية في الجمعية الوطنية عندهم، وثانياً يتطلب الانتظار -كما في دستورهم – للانتخابات القادمة. ومع هذا فأن إصرار الشعب واستمراره في التظاهرات بلا هوادة ولا إنقطاع ولا ملل أجبر البرلمان بالتنحية الموقتة لرئيسة الجمهورية، وجرى رفع قضيتها الى المحكمة العليا في البت بدستورية تنحية الرئيس المنتخب بصورة ديمقراطية قبل إنتهاء المدة. أقرت المحكمة الدستورية العليا في كوريا قبل أيام (10/3/2017) إنهاء رئاسة بارك وتنحيتها عن منصبها الدستوري.
الشعب الكوري أثبت لنا بأنه شعب لا يتهاون في مسألة الفساد الإداري، وخاصة ما يترتب على ذلك الفساد إن وصل الى سدة الحكم وأعلى سلطة في البلد، فهو كالوباء إن لم يعالج ويقضى عليه، فإنه ينتشر في جميع قطاعات الدولة والمجتمع – كما هو حاصل عندنا اليوم. فالفساد الإداري هو كالفساد المالي بعينه وإن كان صغيراً تافهاً مثل تعيين الأقارب والأصدقاء والمعارف (المحسوبية والمنسوبية) أو سرقة المال العام.
ونتيجة لهذا الفساد الإداري البسيط (بالمقاييس عندنا ولكن ليس بمعايير الكوريين)، وصلت تحقيقات النزاهة عندهم الى إعتقال رئيس شركة (سامسونغ) الكبرى بتهمة التعامل مع معاونة الرئيسة وإعطاء المساعدات المالية إثناء الانتخابات لحزب رئيسة الجمهورية الحاكم، مع أن رئيس الشركة هذا هو رئيس مجلس إدارتها وهو الوريث المالك لهذه الشركة العالمية. فالشعب الكوري بقي على مبدأ الإلتزام بالقيم الاخلاقية العليا ولم يتهاون أمام انحراف كبار المسؤولين الذين لم يلتزموا بها وإن كانوا رئيساً للجمهورية أو أولاد مراجع دينية عظام. أين نحن منهم يا ترى! مع أننا نؤمن بالحديث النبوي المشهور الذي نردده دائماً ونسمعه من على المنابر: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
هذا الشعب لا يدعي بأنه من المتدينين ولم تكن أحزابه الحاكمة دينية ولا.. ولا! فأكثر من نصف الكوريين (57%) لا يصنف نفسه بإنه ينتمي الى أي دين، والباقين منهم ينقسمون بين معتقدين بالدين المسيحي أو الدين البوذي. فالقيم الأخلاقية قد لا تستوجب الدين والمعتقد والمذهب، وإنما بناء الأمم يعتمد بصورة رئيسة على الالتزام بتلك القيم العليا. فالبنية التحتية للأمم والمجتمعات هي ذلك الالتزام الذي يسري في عروق أبنائه. فنحن شعب متدين ولكن بدون أخلاق، والشعوب الحية هم القائمون على قيم الأخلاق ولكن ليسوا بالضرورة متدينين. ومع أن الأديان جيمعها تدعو الى
الإلتزام بالاخلاق الحميدة (وكل قيم الأخلاق حميدة) ولكن الذي طغى عندنا هو إلتزامنا بشعائر الدين وتركنا الأخلاق جانباً، نبرر للفاسد فساده وندافع عن الظالم في ظلمه ونهين الحقير والمسكين ونبجل المتعالي والمتكبر. يا لنا من أمة – أضاعت أخلاقها بإتباع هواها وتمسكها بقسور الدين، أو كما قال المتنبي:
أغَايَةُ الدّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ
كما أن الشعب الكوري ليس من الأمم والشعوب التي أقامت حضارات وأنشأت إمبراطوريات ذاع صيتها على العالمين عبر التاريخ – كما ندعي بها نحن. فقد كان شعباً حكمت عليه الجغرافية بأن يكون بين حضارتين أنشأت امبراطوريات جبارة عبر التاريخ وهما الصين واليابان. وحتى الأمة الصغيرة المجاورة لهم (المغول-التتار) أقاموا أكبر إمبراطورية عظمى في التاريخ، ولكن لم تسنح الفرص للكوريين بأن يكونوا مثلهم ويسيروا حذوهم. فكانت بلادهم عرضة لغزوات جيرانهم الى وصلت في مراحل تاريخهم العصيبة في القرن العشرين بأنهم كانوا يستعبدون من تلك الدول المُستعمِرة وأن يستحيون نسائهم.
كما أن الديمقراطية والقيم الليبرالية في الحرية والمساواة غير متجذرة في تاريخهم ولم تكن جزءً من ثقافتهم. ففي تاريخهم المعاصر كانوا تحت حكم العسكر تتعاقب الانقلابات عندهم بين عهد وآخر، وكانت تُطبق عليهم أحكام الطوارئ، فتعطل القوانين عندهم وقبعوا تحت حكم الدكتاتورية الى نهاية الثمانينات من القرن العشرين. فالديمقراطية جديدة العهد عندهم ولم تتجاوز الثلاثين عاماً بعد، فليس هنالك من ثقافة ديمقراطية في كوريا كما هي عند الشعوب الغربية. ولكن لدى الكوريين تجذرت عندهم سمة خاصة بهم، إلا وهي الوقوف ضد الفساد والمحافظة على أسس النظام الديمقراطي السليم. فالشعب عليه أن يكون هو المراقب، يقف ضد الفاسدين إن هم أخلوا بواجباتهم أو مسؤولياتهم، لا كما هو عندنا نترك الأمر للسياسيين وأولياء الأمر والمسؤولين، فنرى الغالبية منا يسكتون إن أفسد كبرائنا وينامون إذا أسرفوا. هذه الحالة المريضة هي مطابقة لوصف علاقة فرعون مع قومه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ. أليس هذا حادثٌ قائم عندنا وسنة جارية بيننا منذ عقود، فعندما يستهين القادة بالشعب فإبناء هذا الشعب يُطيع ويخنع.
فلنتخذ من الشعب الكوري إنموذجاً في الحياة الحرة الكريمة الآمنة المنتجة والملتزمة لا بشعائر الدين وطقوسها ولكن الأهم بالمحافظة على القيم الأخلاقية المدنية التي تجعل من بلادنا نظيفة طاهرة من الظلم والفساد (حتى وإن اقترفه كائناً من كان). فعلينا أن لا ننتظر توجيه من حزب عريق أو دعوة من قائد عظيم يرشدنا الى التحلي بالقيم أو السكوت عنا من
أجل مصلحة ما، فلا يجب أن يكون من أمثال هؤلاء من يبعث فينا الهمم بالانتفاض والثورة ضد من يعبث بمصالح الناس والصالح العام. فهذا واجب كل مواطن بل وكل إنسان. وحقاً قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالتغيير يبدأ من داخل الأمم من خلال صيانة نظامهم العام وطهارته من الفساد، وليس بنداءات ساداتهم أو وعود قادتهم، فالأمة بوعيها الجمعي هي التي تلتزم وهي التي تثور وهي التي تصون أمرها العام وتحافظ على قوامها وعمرانها ونهضتها. فـ (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
فهذا هو قدرنا نصنعه بأنفسنا وبجهودنا، لا بجهود قادتنا وساداتنا وكبرائنا، فكيف ما تكونوا يولى عليكم – كما في الحديث الشريف. فالشعب الذي يسرق المال العام أو يستهين به يرزقه الله بحكومة تسرق ماله العام – كما يقول المثل، والذي يُطبِل ويصفق ويبجل قادته وساداته بدون معرفة الحق سوف يتولى عليه من يسلب منه حقوقه وماله ويستهين بدمه وعرضه.
هذه هي سنن التاريخ وهذا هو قدرنا. لنتخذ في زماننا هذا من الكوريين مثلاً نتحذي بهم، وإلا سنكون كما وصفنا القرآن بأن نلقي اللوم على قادتنا بأنهم أضلونا السبيل. ولكن لا ينفع عض الأنامل حينئذٍ.
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا