اندلعت التظاهرات المطلبية في العراق، كحالها في البلدان الأخرى، حيث يسعى المحتجّون الى إيصال صوتهم الى السلطات، لكن الاستثناء الذي يميّز حالة الاحتجاج العراقية، هو الخطاب التحريضي، المتلاعب بأفكار الناس لغايات سياسية و”التطلع الخارجي”، الساعي الى انزلاقها نحو العنف المتبادل، كما دلّت على ذلك، الأرصاد الإعلامية.
كان المواطنون على حق، وهم يطالبون بالحد من الفساد وتوفير فرص العمل، وتعزيز الخدمات، وهي مطالب تتميّز بها
كل الفعاليات والحركات الشعبوية في العالم، والتي في الغالب ترفع الشعارات من قبل الناس العاديين ضد النخب،
كما حدث في فرنسا وهونغ كونغ، على الرغم من ان هذه الدول تتمتع بمستويات اقتصادية واجتماعية تفوق العراق.
أستطيع القول، ان حركة الاحتجاج العراقية، هي جزء من ظاهرة شعبوية عالمية، معروفة الأهداف في العمل على
توليد تغيير في البرامج الحكومية، السياسية والاقتصادية، كل حسب بلده ومجتمعه، حيث يصنف الشعبويون في الغالب، النخب النافذة بأنها منفصلة عن معاناة الناس، وانّ لا مفرّ من الإصلاح.
وفي العراق، يزداد الأمر تأزيما، ذلك انّ المسيرات المشروعة المطالبة بالحقوق والخدمات، يتخللها خطاب من جهات متعددة، تسعى الى بلوغ حالة من هستيريا احتجاج غير منتجة، وصولا الى الثقة الصفرية بين الشعب والسلطة.
وساعدت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام الخارجي، على اتاحة المجال الى خطاب تأليبي، يزيد من المهواة بين الطرفين، ويجعل منهما عدوين متقابلين، لابدّ لأحدهما ان يصرع الآخر.
وانتبه الكثير من الشباب العراقي الى ذلك، حيث الخطاب الشعبوي يتحول الى نبرة عنفية، محذرين من الانزلاق الى فوضى التظاهر المسلح.
التجارب تفيد، ان التحركات الشعبوية، التي تفضي الى تجمعات واسعة، يجب ان تكون محترزة من استدراجها الى مستنقع الاقتتال البيني، ومن ذلك ان خطاب دونالد ترامب في حملته الرئاسية والذي فاجأ فوزه فيها الجميع، وحمل بشائر الشعبوية اليمينية، صاحبه التحذيرات من حرب أهلية أمريكية. وفي روسيا لاحت ملامح العنف في مطالبات تحرير الفلاحين الروس 1870. والتزم الشعبويون احتجاجات الريف الأمريكي ضد البنوك والشركات الرأسمالية. وقبل كل ذلك، كانت اثينا منبرا اعتلاه الشعبويون من أمثال “كليون”، ضد ديموقراطية اليونان النخبوية، وما خَلّفَتْهُ من فوضى.
أوليفييه ايهل، خبير الأفكار السياسية في معهد العلوم السياسية في غرونوبل، لا يستغرب من كون العنف، او التطرف والحدّية، صفة من صفات الشعبوية، بعد ان وضع لها التعريف بانها “الوسيلة الجمعية للتنديد”.
كما يندرج تحتها مفردات مثل “الحمائية” و”كراهية الأجانب” و”الفضائحية”، و”الشعور بالإحباط والدونية”، وكل هذه الوصفات والشعارات، تبنّتها حالة الهيجان العراقي في تشرين أول /أكتوبر 2019.
يبدو الخطاب الشعبوي في التظاهرات العراقية، معبرا عن مطالب الطبقات الفقيرة، ويركز – كحال الخطابات الشعبوية في العالم – على انتقاد الخطط الحكومية، والقوى السياسية، وداعيا الى تحسين الأوضاع. ومقارنة بحركة السُتر الصفراء الفرنسية التي شارك فيها افراد كثر من الطبقات الوسطى، فان كلا الحالين، انزلقا الى بطش غير مسبوق، بل ان الحالة الفرنسية شهدت الاعتداء على المتاجر، والمرافق العامة، والمعالم الباريسية.
في النمسا، فان الشعبوية التي قادها حزب الحرية، كانت اكثر وطأة في العنف لكنها، لم تكن أقل مستوى من حدية الشعارات.
أيضا، فان الحالة العراقية، والفرنسية، فرغت من النخب الشعبوية الكاريزمية التي يمكن تصنيفها كزعامات، يمكن للسلطات التحاور معها، لوضع حد للازمة، وبسبب هذا الغياب، تتحدد خواتيم غير معروفة وغير محسوبة لكل من المتظاهرين والسلطات.
لا يغامر المعنيون، الشك، في ان الشعبوية العراقية سوف تكون صاحبة الدور في صياغة المرحلة القادمة، كاستحقاق طبيعي لصعودها العالمي، ولأن دولا سبقتنا الى ذلك، يتوجب الاستفادة من تجاربها في تعزيز المسار الديمقراطي، والتأسيس لنظام وظيفي واجتماعي واقتصادي، يستعيد الثقة بين الجماهير والسلطة، بعيدا عن ديماغوجيا التشويه لكل من التظاهرات والنظام السياسي على حد سواء.