تقوم العلاقات الدولية على قاعدة القوة والهيمنة منذ نشوء الأمم والدول والإمبراطوريات في التاريخ. فمن لها القوة العظمى من تلك الكيانات الإجتماعية – السياسية هي التي تتحكم برسم معالم العلاقات الدولية. فالحق يقف مع صاحب القوة في الساحة الدولية، لأن تلك القوة العظمى هي الخصم والحكم، كما في قول المتنبي. المبادئ والقيم إنما تضفي نوع من الشرعية لعمل القوة العظمى في النظام الدولي، ولكنها ليست أساسية في تنظيم العمل في العلاقات الدولية.
هذه الطبيعة للعلاقات الدولية تكون مجحفة بحق الدول التي ليس لها القوة الكافية لتؤثر على مجريات الأمور في الساحة الدولية، فتنشأ التحالفات والمحاور لتزيد من عضد الدولة التي لها مصادر وأمكانيات قوة محدودة. فكيف الأمر في الحركات الجماهيرية في داخل الدول والتي عادةً ما تصارع الأنظمة الحاكمة لتغير الواقع الظالم أو الفاسد في مجتمعها، فإن محدودية تأثيرها في العلاقات الدولية يكاد يكون ضئيلاً. وعادة ما تنطلق من تلك الحركات الإجتماعية التي تنادي بإقامة العدل وتطالب بالحرية للمواطنين شعارات تندد بالدول والأنظمة التي تساعد وتدعم ظلم الحكام الفاسدين. ولكن الهدف من هذه الشعارات إنما يكون لإستمالة عطف الدول الأخرى أو النظام الدولي بأن يأخذ جانب مصالح الشعوب وليس مصالح الحاكمين الذي يعثيون في الأرض ظلماً وفساداً.
فالشعارات الثورية لحركات التحرر مع أن طابعها هو التنديد بالدول التي تساند الطبقة الحاكمة في النظام السياسي الظالم، ولكن هدفها هو إستمالة بعض اللاعبين في النظام الدولي لمساعدة المستضعفين والمظلومين ودفعهم بالوقوف بجانب الشعوب المسحوقة من قبل الطبقات الحاكمة. وهذه الإستمالة
وطلب المساعدة والعطف والمؤازرة بالإضافة الى التنديد إنما يستهدف القوى (أو القوى العظمى) في النظام الدولي ضد صانعي القرار الفاسدين في أمة ما وضمن نظام الظالم ما.
الشعارات الثورية إنما هي تعبيراً عن عواطف جياشة (بإن تكون صياغتها بشكل يؤثر على تأجيج المشاعر الجماهيرية) لإعطاء نظرة عما يجري من صراع في داخل الأمة، ولكن يجب أن لا تكون إشفاءً لغليل القيادات الثورية. فالثوار إنما ينتصرون بقوتهم وعزيمتهم، ولكن الإستراتيجية الثورية إنما تحقق بإضعاف قوة الطبقة الحاكمة المستندة على شرعية حكمها في النظام الدولي. فكلما ضعف الإسناد والدعم للطبقة الحاكمة كلما كان أسرع للقوى المطالبة بإحقاق الحق وإقامة العدل وتحقيق الحرية للمواطنين من تحقيق النصر.
ولكننا نجد أن الشعارات التي ترفعها الحركات الإجتماعية والثورية في منطقتنا يكون تأثيرها معاكساً بحث تضفي دعماً للنظام الحاكم وقد تكون دافعاً لإسناد النظام الدولي للطبقات الحاكمة، لإنها عادة ما تكون موجهة ضد الدول الكبرى وتطالب بإنهاء وجودهم والإضرار بمصالحهم أو حتى الدعوة لموتهم أو القضاء عليهم. فهذه الشعارات عادة ما تكون مفيدة للطبقة الحاكمة لأن النظام الدولي سيزيد من دعمه لذلك النظام الفاسد الذي يقهر شعبه ويسلب حقوق مواطنيه. فالنبي محمد (ص) لم يرفع شعار التنديد بالدول والأحلاف العشائرية التي كانت تقدم الدعم والشرعية والإسناد لقريش. فعندما أُرسل المؤمنون الأوائل الى الحبشة للتخلص من ظلم قريش، سعى النبي لأقام علاقات طيبة مع ملكها مع أن لقريش علاقات تجارية كبيرة مع الحبشة. وكذا كانت سنته في التعامل مع اليمن أو باقي القبائل العربية، فلم يرفع شعارات معادية مع إمبراطورتي الروم والفرس لما لهم من علاقات تجارية وطيدة مع قريش. فالدول والإمبراطوريات تتعامل مع من يحكمون ومع من يمسكون بزمام الأمور في الأمة. فإما إن نستميل عطف تلك الدول وكسب تأيديهم، كما نجح في تحقيق ذلك سفير النبي لملك الحبشة (جعفر بن أبي طالب) أو عدم التعرض لهم وتخصيص الصراع على أنه أمر داخلي محلي عنوانه إنهاء حالة الظلم والقهر في الأمة.
فالشعارات التي تنادي بالموت لذلك النظام والقتل لتلك الأمة وإلقضاء على هؤلاء القوم من خارج الحدود لا ينفع هدف الثوار في تحييد النظام الدولي والنظر الى قضايا الظلم داخل الإمة وفساد الحاكمين. فالشعارات محلها للإستهلاك المحلي لشحذ الهمم وتهييج مشاعر الجماهير وتوحيد الأمة ضد الطبقة المستبدة الحاكمة. وإن كانت بعض أطراف النظام الدولي أو اللاعبين المؤثرين فيه هو من يساند الطبقة الحاكمة أو يقدم لها الدعم والقوة فإن الظروف الموضوعية للصراع الداخلي إنما يستوجب وضع الأولويات، فلا يمكن للحركات التي تطالب بتحقيق العدل والحرية أن تصارع الدنيا كلها وتنتصر. فـ “الفئة القليلة” يمكنها أن تنتصر على “الفئة الكبيرة” – بإذن الله – ولكنها لا تستطيع تحقيق النصر بمحاربة العالمين جميعاً. فحتى إنتصار الثورة الإسلامية في إيران كان موجهاً بالتحديد بشعارات إسقاط الشاه، وليس إسقاط النظام بل بعض مفاصله (مثل المخابرات –السافاك) ولم ترفع شعار حتى إسقاط الدولة. وأنطلقت شعارات (الموت لإمريكا، الموت لإسرائيل) بعد إنتصار الثورة لشحذ همم الجماهير بعد إستيلاء الطلبة على السفارة الأمريكية في طهران نتيجة إيواء الولايات المتحدة للشاه اثناء مرضه المميت وما أعقبه من إحتجاز الدبلوماسيين في السفارة كرهائن. فكانت تلك الشعارات هي لتوحيد الجماهير مع هذا الموقف الوطني المطالب بإنهاء دعم الولايات المتحدة للشاه وإنهاء دعمهم ومساندتهم له. ثم أضيف لهذه الشعارات فيما بعد (الموت للإتحاد السوفيتي) عند إندلاع الحرب العراقية الإيرانية ودعم الإتحاد السوفيتي لحليفهم القديم العراق.
في التحرك الجماهيري الثوري للحوثيين في اليمن، كانت من أولى الشعارات التي رفعت في صنعاء بعد إنتصار حركة أنصار الله في الصراع اليمني على الحكم هو شعار (الموت لإمريكا، الموت لإسرائيل، واللعنة على اليهود). فالأزمة السياسية في اليمن هي داخلية محلية بحتة، والتدخل الخارجي في شؤونها إنما هو إقليمي بإمتياز، لا دخل للدول الكبرى وإمريكا فيها إلا فيما يتصل بمحاربة القوى المتطرفة التي استولت على الصومال وإنسحب منها القوات الإمريكية على حين غرة وعُدّ ذلك الإنسحاب بهزيمة عسكرية،
هذا بالاضافة الى القصف الامريكي المستمر لقيادات “القاعدة” التي بدأت تنتشر في حضرموت وتدعو في العلن بالسعب لإسقاط الأنظمة الموالية للولايات المتحدة في شبه الجزيرة العربية. فإنتصار “أنصار الله” في صنعاء ووصولهم الى عدن دق جرس الخطر عند السعودية ودول الخليج، وليس في واشنطن والدول العظمى الأخرى. وكان بالإمكان طمأنة تلك الدول الكبرى (والتي من ضمنها الصين وروسيا) على أن الوضع الجديد سوف يحفظ سلامة الملاحة والتجارة في باب المندب ويؤمن مجراها، وأنه بإستطاعة النظام الجديد أن يحقق السلام والأمن في اليمن ويساعد الغرب في القضاء على القاعدة والإرهاب في اليمن لقامت هنالك معادلة سياسية دولية مختلفة تماماً.
لكن المقلق حينها للدولة العظمى (الولايات المتحدة) الحامية لمصالحها في شبه الجزيرة العربية عبر الأنظمة الخليجية القائمة كان تلك الشعارات التي حملها الثوار اليمنييون. فلم يكن هنالك شعار موجه ضد السعودية أو مجلس التعاون الخليجي مثلاً، أو حتى الموت للقاعدة. فكان التوجه ضد النظام الدولي برمته.
والأخطر ما فيه هو شعار (اللعنة على اليهود) الذي يدخل في عداد المعادة للسامية الذي يرفضه النظام الدولي القائم برمته. فلا يمكن القبول برفع شعار مشابه للأبادة الجماعية لشعب ما أو فئة دينية أو عرقية أو قومية من أي طرف كان أو محور في النظام الدولي. فقد يكون لمثل هذا الشعار هاجس ديني لأنه يتصل بالصراع الذي حدث في زمن صدر الإسلام بين القبائل اليهودية في المدينة والمسلمون الأوائل في زمن النبي (ص)، ولكن ذلك التاريخي لا يمكن أن يكون له صدى سياسي وتأثير على أرض الواقع في ظل النظام الدولي المعاصر. فكيف يمكن لمجموعة ثورية في اليمن الذي يأن من مشاكل معاصرة هائلة (إقتصادية وإجتماعية وسياسية) أن تصارع القوى الدولية أو أن تحضى بدعم حتى من أي من محاورها الدولية. ولهذا إستطاع التحالف الذي تقوده السعودية أن يستمر في حربه على اليمن فيما يغض العالم بأسره على أعلان الإستنكار أو ابداء حتى نظرة العطف أو المساندة المعنوية تجاه شعب اليمن المظلوم،
ولا حتى التنديد بما يحصل هناك من حصار على الشعب بأسره. فأُستغل هذا الشعار ما وراء الكواليس بإسكات المجتمع الدولي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في اليمن.
العلاقات الدولية لا يمكنها أن تقام على شعارات تنطلق من مشاعر جماهيرية أو نزعات عاطفية للقيادات الثورية أو تنفيس لأضغان حدثت في أحقاب التاريخ البعيد. فإسرائيل بقوتها العسكرية والدولية لم تستطع كسب عطف الشعوب الأخرى لأنها تدعو لتصحيح واقع إجتماعي معين والمطالب بحقوق تاريخية تدعيها ولا يمكن تحقيقها في عالم اليوم. فلم تستطع حتى إسرائيل (التي سيطرة عظمى على الإعلام العالمي ومصادر الأموال ومراكز صنع القرار الدولية) إستمالة عطف وتأيد المجتمع الدولي لمواقف العداء الذي تنتهجها ضد الفلسطينيين أو المطالب التاريخية التي تدعي بأحقيتها في القدس وما حولها على أنها خاصة باليهود وحدهم. فقد رفض العالم حتى الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، وآخر قرار لمنظمة الأمم المتحدة – يونسكو بعدم وجود حق تاريخي لليهود في حرم المسجد الأقصى خير مثال على أن العالم لا يعترف بالصراعات ذات الأصول الدينية-التاريخية. فما نرفعه من شعارات لا يمكن أن تستند على صراعات تاريخية، فـ ” تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ، وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”، ولكن يمكن أن تكون تلك الشعارات التي ترفع في ظرف النضال والصراع مستندة على تلك القيم الأخلاقية الدينية القائمة على التعايش الإنساني المسالم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ؛ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فحتى عندما أمر الله المؤمنين بالإستعداد للقتال والحرب: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ … أعقب هذا النصح مباشرةً بأن بتنهجوا سبل السلام: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
فعالم اليوم متشابك في الأمور كلها، وليس هنالك من إمكانية لزيادة عدد الأعداء، بل علينا زيادة الأصدقاء والأعوان والعمل الدؤوب على تقارب المصالح بين الدول والتعاون فيما بينها وزيادة التعارف
بين الأمم. فالسلام هو الغاية التي يدعو لها الدين، وليس الصراع الذي يخلف الخراب والدماء والدمار. فهُدى الله جاء لإعمار الدنيا وإقامة الحياة الحرة المطمئنة لنيل ثواب الآخرة، حتى وصف الله الحياة الآخرة بأنها دار السلام: (لهم دار السلام عند ربهم، وهو وليهم بما كانوا يعملون). فشعارات (الموت والصراع والقتل واللعنة) تحفز كل القوى العالمية ضد من يرفعها لأنها معادية لأمم أخرى، وتحث على الدمار والدماء. فالعلاقات الخارجية هي علاقات مع الدول مبنية على مصالح ومنافع مشتركة، ولا تقوم على ضغينة أو أخذ ثارات تاريخية … فشعار (اللعنة على اليهود) هو شعار يرمز عالمياً بالمعاداة للسامية. والسامييون هم اليمنييون بالذات (فهم أصل أغلب اليهود والعرب معاً). فقد كان لليهود حضور تاريخي في أرض اليمن يمتد لآلاف السنين، وكان اليمن موطن الساميون من العرب واليهود على مر العصور. ولكن المعروف عالمياً أن المعاداة للسامية يخض اليهود لما لاقوه من محرقة في أوربا في أوائل القرن العشرين. ولا يمكن أن نطالب بالتعاطف الدولي ومناداة الشعوب المحبة للسلام ومنظمات حقوق الإنسان والدول المنضوية في المنظمات الدولية أن تقف بجانبنا في الوقت الذي نرفع فيه شعار اللعنة على اليهود والذي يعني معاداة السامية.
فالشعارات الجماهيرية يجب أن لا تكون منهاج عمل لبناء العلاقات الدولية، فهي أيديولوجيات ثورية للإستهلاك المحلي.