17 نوفمبر، 2024 7:31 م
Search
Close this search box.

الشروكية وطنيون على هامش وطن

الشروكية وطنيون على هامش وطن

اقترن مفردة الشروكية بأبناء  محافظة ميسان ، وامتدت لتشمل كل من يسكن مدن جنوب العراق ، استغلت هذه المفردة من الكثيرين لمحاولة الانتقاص والإساءة من هذا الطيف العراقي الواسع والعريق في انتمائه لأرضه ووطنه ، ظهرت هذه التسمية في مطلع القرن الماضي ، وبالأخص بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ميلادي  … اختلف المؤرخون والباحثون في أصل هذه التسمية ومصدرها ونشأتها ، ترجح بعض الدراسات الانثربولوجيا أن مصدر هذه الكلمة يعود إلى اللغة السومرية القديمة وتعني ( المواطن الأصيل ) ، ويذكر الدكتور فوزي رشيد في كتابه ( سرجون الاكدي ) بان هذه الكلمة تعود إلى اللغة الاكدية وهي الاسم الحقيقي للملك سرجون الاكدي حيث كان يسمى ( شروكين ) ، وتعني الملك الصادق ، وقد استخدمت القوى الاستعمارية التي سيطرت على العراق قديما هذه المفردة وأطلقوها على معظم سكان العراق من أبناء  الحضارات السومرية والاكدية والبابلية في إشارة إلى انتمائهم لحاكم العراق الأول سرجون الاكدي الذي انشأ اول إمبراطورية في التاريخ في الألفية الثالثة قبل الميلاد ، ومحاولة منهم للتميز بين سكان العراق الأصليين وبقية الأجناس الغازية والمحتلة له … وقد تفرد الدكتور علي الوردي في كتابه (طبيعة المجتمع العراقي ) بان هذه اللفظة أطلقتها قبائل الفرات الأوسط على أبناء المناطق الشرقية المحاذية لنهر دجلة ، في إشارة على عدم اشتراكهم في ثورة العشرين التي التي قامت بها هذه القبائل على الاحتلال الانكليزي عام 1920 ميلادي ، أو لكونهم تخلو عن بعض عاداتهم العربية كونهم سكنوا مناطق الاهوار ، التي تعتبر بيئة غريبة عن البيئة العربية الصحراوية التي انحدروا منها ، وهذان الرأيان على الرغم من صدورهما من اكبر عالم اجتماع عراقي ، إلا إنهما قابلان للمناقشة والتصويب …
فالقبائل العربية التي كانت تسكن مناطق الاهوار في جنوب العراق على الرغم من أنها منعت قسرا من  المشاركة بثورة العشرين،  نتيجة سطوة الإقطاع الذي كان يهيمن على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تلك المنطقة  ،إلا إن الكثيرين من أبناء تلك القبائل قد شاركوا في هذه الثورة وقدموا التضحيات في سبيل تحقيق أهدافها الوطنية ،  وأما مسألة تخليهم عن طبيعتهم البدوية وسكنهم الاهوار ، فأن القبائل العربية التي نزحت من شبه الجزيرة العربية بشطريها بعد الفتح الإسلامي للعراق سنة 15 هجرية ، كانت قد تخلت معظمها عن بعض عادات وطبائع الصحراء وامتهنت الزراعة ، بينما كانت تعد مهنة الزراعة مسألة معيبة في نظر البداوة العربية ، حيث يذكر الطبري في ( تاريخ الأمم والملوك )… إن معاوية بن أبي سفيان قد زار المدينة المنورة في أيام حكمه فلم يستقبله أهلها لإيمانهم بعدم شرعية خلافته ، ولم يخرج لاستقباله سوى قيس بن سعد بن عبادة زعيم الأنصار ، فقال معاوية مخاطبا سعدا …( أين نواضحكم يا بني النجار ) ، وكانت كلمته هذه محاولة منه للانتقاص منهم كونهم يعملون في الزراعة ، والناضح هنا البعير الذي يستخدم لسقي المزروعات …وان صحت هذه النظرية ، فأعتقد ان السبب الذي دعا قبائل الفرات الأوسط لإطلاق هذه التسمية على قبائل الجنوب لا تعدو من كونها ذات دلالة جغرافية لا غير …  ان امتزاج البداوة العربية مع سكان العراق الأصليين من بقايا الحضارات السومرية والاكدية والبابلية في تلك المنطقة قد ولد نمطية اجتماعية  ومعيشية جديدة ، غيرت الكثير من المفاهيم والعادات القديمة التي كان يحملها العرب الفاتحين لهذه المنطقة ، وهذا ما أشار  إليه الباحث شاكر مصطفى في كتابه ( الجبايش ) .. حيث قال بان معظم علماء الانثربولوجيا الذين درسوا مناطق جنوب العراق قد وجدوا إن هناك تشابه كبير بين طبيعة حياة  سكنة هذه المناطق وبين حياة سكانها  الأصليين من السومريين ، وقد عزوا ذلك إلى الامتزاج الحضاري والاجتماعي الذي حدث بعد الفتح الإسلامي بين السكان الأصليين للاهوار والعرب النازحين من شبه الجزيرة العربية إليها … عانى أبناء مناطق الجنوب ( الشروكية )  وعلى مدى عقود طويلة من الحرمان والظلم والتهميش والإقصاء من معظم الموجات الاستعمارية التي غزت العراق والحكومات التي تعاقبت على حكمه … وكان هذا الظلم والتهميش تقف ورائهما دوافع طائفية وقومية مقيتة ، حاولت تجريدهم من عروبتهم وعراقيتهم ، فقد وصفهم  ساطع ألحصري (بالغجر) … وأما خير الله طلفاح فقال عنهم بأنهم ليسوا عربا ولا عراقيين ، في كتابه الذي نشره في أربعينيات القرن الماضي بعنوان ( على الله أن لا يخلق ثلاثة الفرس واليهود والذباب ) ، ويقول عنهم عبد العزيز الدوري في كتابه  ( الجذور التاريخية للشعوبية ) … بأنهم بقايا الفكر المجوسي الذي أفرزته حركة المختار الثقفي .

وتأتي هذه التهم والأباطيل  وتنهال على هذا المكون العراقي ألصميمي الأصيل بسبب مواقفهم الوطنية اتجاه القضايا المصيرية التي مر بها العراق في تاريخه الحديث ، فهم أول من تصدى للغزو البريطاني للعراق في معركة الشعيبة عام 1915 ميلادي ، بقيادة السيد محمد سعيد ألحبوبي والسيد محسن الحكيم رحمهما الله ، وهم أبناء ثورة العشرين التي أرغمت سلطة الاحتلال البريطاني على الرضوخ لمطالبهم وتشكيل حكومة عراقية وطنية عام 1921 ميلادي ، كانوا هم اول المبعدين عنها … إن الظروف المعيشية الصعبة التي كانوا يعيشون بها تحت وطأة الإقطاع اضطرت الكثير منهم إلى الهجرة من مناطقهم إلى إطراف بغداد القديمة في مطلع أربعينيات القرن الماضي  ، في محاولة منهم للتخلص من هذه السطوة وتحسين مستواهم ألمعاشي ، فسكنوا مناطق الشاكرية والميزرة ، وامتزجوا بالمجتمع البغدادي وساهم الكثير منهم  في الحركات والانتفاضات التي قامت ضد الحكومات الرجعية آنذاك ، وأصبحوا رقما صعبا في المعادلة البغدادية  وبالأخص بعد ثورة تموز الخالدة 1958 ميلادي ، بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ، الذي أنصف هذه الشريحة العراقية الفقيرة بعدة قوانين ساهمت في تغيير نمطية حياتهم ومستقبل أبنائهم ، بقانون رقم 30 الذي قضى على الإقطاع في مناطق الجنوب ، وتوطينهم في دور سكنية بمناطق الثورة ( مدينة الصدر ).
والوشاش والحرية والشعلة ، بعدما كانوا يسكنون بيوت الصفيح ، وما إن حدث انقلاب شباط الأسود عام 1963 ميلادي حتى عاد الفكر الشوفيني الطائفي لينال من هذه الشريحة الواسعة من الشعب العراقي ، فأصبحوا وقودا لحروب عبثية خاضها النظام السابق لبناء أمجاد شخصية زائفة ، وامتلأت السجون والمعتقلات بالرافضين لنهج هذا النظام وعنصريته ، والذي تجلى هذا الرفض في ذروته بالانتفاضة الشعبانية المباركة التي قام بها أبناء الوسط والجنوب عام 1991 ميلادي ، والتي جابهها النظام بكل قسوة وبطش فملئ مدنهم بالمقابر الجماعية التي ضمت أجسادهم الطاهرة من شباب وشيوخ ونساء وأطفال في جريمة يندى لها جبين الإنسانية ، التي التزمت الصمت اتجاه ما حدث بدوافع سياسية وطائفية وقومية … حتى إن رئيس النظام السابق قد كتب مجموعة من المقالات في جريدة الثورة آنذاك أطلق عليهم تسمية ( أهل الجريبات ) في محاولة للانتقاص منهم ، أي نسبة إلى الجراب الذي كان توضع فيه الأطعمة والمتاع للمسافر العربي البدوي ، ووصف بها أبناء الجنوب بأنهم من أصول هندية استقدمهم الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق ووطنهم في هذه المناطق … بعد التاسع من نيسان 2003 وسقوط الصنم ، تنفس هذا الطيف العراقي الكبير الصعداء ، وتصدر الكثير من أبنائه الواجهة السياسية للعراق الجديد ، وبدئنا نسمع بألقاب عشائرية كانت مهمشة ومغيبة لعقود طويلة باتت على راس هرم السلطة  فيه الان … لكن بالرغم من كل هذا لازال أبناء الجنوب يعانون الفقر والحرمان ولازلت مدنهم فقيرة ببناها التحتية والخدمية ، ومدارس الطين تشكل وشما معيبا في مدنهم العائمة على بحار من النفط … ولازالوا يقدمون التضحيات دفاعا عن العراق ووجوده وهم يقارعون الإرهاب لتحرير مدن لازالت فيها بعض الأصوات النشاز التي تنعتهم بالشروكية والفرس والهنود  ، لكن حسهم الوطني والعقائدي جعلهم يتجاوزون عقدة الماضي القريب وما عانوه من ظلم وتهميش ، وهم يسعون الآن ليكون أصحاب وطن سلب منهم قسرا لعقود طويلة ، في محاولة لاستعادته ، كي تمتزج روحهم الوطنية مع وطن لطالما بذلوا الغالي والنفيس من اجله ، حتى لا يبقوا وطنيون على هامش وطن .

أحدث المقالات