إنّ الحديث عن اقتراب المنطقة من حرب إقليمية لا يبدو ضرباً من التهويل، بل انعكاسا لواقع سياسي متأزم، تحركه ثلاث قوى مركزية: أزمة الشرعية السياسية، إعادة تموضع التحالفات الدولية، وتنامي الصراع على النفوذ الجيوستراتيجي في ظل انكماش أدوار القوى التقليدية وصعود لاعبين جدد.فلا ريب أنَّ الانسحاب الأميركي من دور الضامن القيمي للنظام الدولي أتاح لقوى استبدادية، مثل روسيا والصين وإسرائيل، التمدد في فراغ شرعي. إنّ ما يجري ليس أزمة عابرة، بل إعادة تشكّل لمركز الثقل العالمي نحو قوى تؤمن بالهيمنة لا بالتوازن. هذا الانكفاء قاد إلى تآكل المعايير القانونية الدولية، مما شرعن القمع والسرديات المتطرفة في السياسة الخارجية. الرئيس الأمريكي ترامب بدوره عمّق هذا التحول من خلال فك الارتباط مع التحالفات التقليدية وتبني نهج الصفقات بدل نصرة المبادئ العليا في العلاقات الدولية. النتيجة: إن الشرق الأوسط بات مكشوفًا أمام تحالفات هجومية تُوظف الدين والعرق لتبرير عسكرة المنطقة.
فالتقارب بين نتنياهو وترامب ليس تحالفًا شخصيًا، بل هو تحالف أيديولوجي يرى في القوة والعزل أدوات للنجاة السياسي. كممارسة سياسة “الضغط الأقصى” على إيران، ونقل السفارة للقدس، ودعم الاستيطان، كان لها واقع استفزازي لدى المجتمع الدولي وعمّقت حالة الغليان الإقليمي. فالتحولات الجيوسياسية المتسارعة تسير نحو حافة الصدام، بفعل الانفلات الإسرائيلي وانعدام الردع الأميركي. اقتصاديًا، هذا المناخ يضعف الاستقرار ويعزز عسكرة الاقتصاد الإقليمي بدل تنميته. اما اجتماعيًا وأمنيًا، تزداد هشاشة الدول، وتتسارع حركات التطرّف والاصطفافات العابرة للحدود.
فمما لا شكّ فيه، قد قاد الانكفاء الأمريكي عن القيم الكونية إلى فراغ إستراتيجي خطير ملأته نظم استبدادية تتحالف على تقويض القانون الدولي لحساب السرديات العرقية والدينية. إنّ ما يحدث ليس انحرافًا طارئًا، بل هوتحوّل بنيوي في مركز الثقل العالمي، حيث تتراجع واشنطن عن دورها القيادي لصالح قوى ترى في القوة حقًا وجوديًا. فمن المؤكد إن التحالف الترامبي-النتنياهي يُعيد إنتاج الفاشيات التاريخية بثوب ديمقراطي زائف، ما يجعل التطبيع أداة احتواء لا سلام. كما هو التحول من الليبرالية إلى القومية العرقية بدوره يهدد بتفكيك المنظومة الأخلاقية التي شرعنت النظام العالمي.
أولاً: إسرائيل – نتنياهو بين العزلة والنجاة
نتنياهو لم يعد يتحرك ضمن منطق الدولة، بل منطق البقاء السياسي. فزيارته للمجر وللولايات المتحدة الأمريكية ليست فقط لطلب الدعم العسكري، بل لكسر طوق العزلة الدولية التي بدأ يفرضها عليه الرأي العام الغربي. هو يدرك أن نهايته السياسية قد تكون قريبة، ما يدفعه للمغامرة الإقليمية لتوحيد الجبهة الداخلية والخارجية تحت مظلة “الخطر الوجودي”. وهو تكتيك استخدمه زعماء عديدون قبله، أبرزهم نيكسون – كما تمت الإشارة – حين حاول تصدير أزمته الداخلية إلى الخارج.
مؤكدا أن نتنياهو يراهن بقوة على اللحظة الدولية المتأزمة لتوسيع نفوذ إسرائيل تحت غطاء الانكفاء الغربي وتراجع الردع الدولي. فالتحالف مع قوى اليمين الشعبوي في العالم (ترامب، ميلوني، أوربان) يمنحه شرعية بديلة عن الشرعية القانونية. كذلك الاضطرابات الإقليمية تتيح لإسرائيل تسويق نفسها كركيزة “استقرار” أمام الفوضى الإيرانية والعربية. ولا شك أن صفقات التطبيع وفّرت فرص كبيرة لإختراق العمق العربي سياسيًا وأمنيًا، دون دفع ثمن سياسي تجاه الفلسطينيين. اما عسكريًا، فنتنياهو يحتفظ بهامش مناورة واسع لضرب أهداف إيرانية في سوريا والعراق ولبنان دون رد حاسم.
مع تعاظم غير مسبوق وإتساع العزلة الأخلاقية والدبلوماسية، خاصة في أوروبا والأمم المتحدة، كاد أن يضعف شرعية إسرائيل طويلة المدى، لأسباب كثيرة: فقد تحوّل الجيش إلى أداة سياسية بيد نتنياهو وهذا بدوره يهدد التوازن المؤسسي الداخلي ويزيد الاستقطاب المجتمعي. كما أن إسرائيل باتت رهينة مسار تصعيد دائم، ما يعرّضها لمواجهة إقليمية متعددة الجبهات في لحظة ضعف دولي. وعلى الرغم من استمرار تجاهل القضية الفلسطينية دوليا واقليميا وإسرائيليا فإن هذا لا يلغيها، بل يراكم الانفجار القادم على المستوى الشعبي والإقليمي. لذا بات جلي من دواع رهان نتنياهو على البقاء عبر “إدارة الخوف” سيصطدم عاجلًا بحدود القدرة على إنتاج الأمن المشروط من العنف.
ثانياً: الولايات المتحدة – ترامب وورقة الشرق الأوسط
إعادة استدعاء ترامب في هذا التوقيت لا يمكن قراءته بمعزل عن الانقسامات داخل المؤسسة الأمريكية بين تيار العقلنة وتيار التصعيد. فالدولة العميقة الأميركية ليست متجانسة، بل موزعة بين مراكز نفوذ متصارعة. لكن ما يبدو واضحاً أن الشرق الأوسط يُعاد توظيفه كأداة للضغط في الداخل الأمريكي، وكساحة لتصفية الحسابات مع الصين وروسيا على المدى الأبعد.
ترامب لا ينظر إلى الشرق الأوسط ككتلة استراتيجية موحدة، بل كورقة تفاوض هشة يمكن استخدامها لمكاسب داخلية وخارجية. أفرغ الشراكات التقليدية من بعدها القيمي، واستبدلها بمنطق “الدفع مقابل الحماية”، ما أدى لتراجع الثقة الإقليمية بواشنطن. كذلك استثمر ترامب في الانقسام العربي – الإيراني، ثم الانقسام العربي – العربي، لتسويق إسرائيل كحليف مشترك بدل أن تكون خصمًا تاريخيًا. من خلال “صفقات التطبيع”، حوّل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع داخل البيت العربي نفسه، مما أضعف الجبهة الإقليمية. ايضا ترك المنطقة مشرّعة أمام التدخلات التركية، الروسية، الصينية، دون استراتيجية احتواء أو إدارة متوازنة للنفوذ.
إنَّ الشرق الأوسط بات منقسمًا إلى محاور متصارعة: محور التطبيع، محور المقاومة، ومحور الحياد القلق، ما سهّل تفكيك القرار الإقليمي. وفي ظل غياب مشروع عربي جامع، وتفشي النماذج السلطوية، جعلا المنطقة عاجزة عن إنتاج أمنها الذاتي أو خطابها السيادي. إن التحالفات القائمة ضد الذات (عرب يحاصرون عربًا، ومسلمون يتقاتلون بالوكالة) جعلت من المنطقة ملعبًا بلا حارس. اقتصاديًا، بقى النزيف مستمر بفعل الانفاق العسكري والتحالفات العدمية، بينما الشعوب تعاني من أزمات خانقة. ترامب لم يخلق الفوضى، لكنه منحها رخصة رسمية، وجعل من الضعف البنيوي فرصة لإعادة رسم الخرائط لصالح قوى غير عربية.
ثالثاً: فرنسا – ماكرون والرهان على الفجوة الأوروبية الأميركية
ماكرون يتحرك كزعيم أوروبي يرى فرصة في تراجع الدور الأميركي. مصر، بالنسبة لفرنسا، ليست فقط شريكاً عسكرياً، بل بوابة لإعادة التموضع الفرنسي في البحر الأحمر وشرق المتوسط. صفقة رافال ليست تجارية فقط، بل تحمل رمزية عسكرية ورسالة استراتيجية بأن أوروبا قادرة على ملء الفراغ الذي يتركه الانسحاب الأميركي.
الرئيس الفرنسي ماكرون يحاول استثمار الانكفاء الأميركي، والانقسام داخل الغرب، ليعيد صياغة دور فرنسا كقوة وسيطة عاقلة. يتحرك على خط الأزمات (لبنان، ليبيا، الساحل، مصر) بمحاولة ملء الفراغ دون الدخول في مغامرة هيمنة. الرهان على “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي” يمنح باريس مساحة مناورة لكنها محدودة دون غطاء أوروبي موحّد. الخطاب الفرنسي يقدم نفسه كمدافع عن التعددية والاستقرار، لكن الميدان يُظهر ضعفًا في التأثير الحقيقي.
فرنسا لا تملك “عصا موسى”، لكنها تملك لغة ثالثة قد تمنع انزلاق المنطقة أكثر نحو الاستقطاب القطبي.
فرنسا تفتقر إلى أدوات النفوذ الخشنة (الاقتصاد، القوة العسكرية) مقارنة بواشنطن وبكين، ما يحدّ من قدرتها الردعية. فمحاولات ماكرون للوساطة تصطدم بحالة الانقسام العربي، وغياب مشروع أوروبي موحد في ملفات الشرق الأوسط. ولا ننسى بأن النفوذ الفرنسي اصلا مهدد بتغلغل القوى الكبرى في إفريقيا والبحر المتوسط، ما يعقّد طموح باريس في لعب دور “الضامن“. كذلك الداخل الفرنسي نفسه يعاني من أزمات ثقة، مما يجعل تصدير الدور الخارجي محل تشكيك سياسي داخلي. الخلاصة: ماكرون لا يحمل معجزة، لكنه يحاول صنع توازن في عالم فقد بوصلة الاعتدال، ويصغي له الجميع لكن بيدٍ على الزناد.
رابعاً: الصين وروسيا – الانتظار الذكي للرصاصة الأخيرة
في الوقت الذي تتصارع فيه القوى الغربية على إعادة تشكيل النظام الإقليمي، تتحرك بكين وموسكو وفق منطق النفس الطويل. الصين تضع ركائز اقتصادية هادئة عبر “الحزام والطريق”، بينما تعمل روسيا على اعادة تحصين مواقعها في سوريا وإيران. كلاهما ينتظر لحظة الإنهاك الغربي ليدخل من الباب الكبير.
الصين وروسيا تعتمدان سياسة “الزحف البطيء” بدل المواجهة المباشرة، وتراهنان على إنهاك الغرب من الداخل. فبكين تبني نفوذها عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والمبادرات العابرة للقارات (الحزام والطريق)، بدون إثارة ضجيج أيديولوجي. بينما موسكو تتحرك عسكريًا وسياسيًا بنمط غير مباشر، عبر الحروب بالوكالة والتكتيك الميداني المتقلب. كلاهما يدرك أن الغرب يُستنزف سياسيًا واجتماعيًا، خصوصًا في ظل الانقسام الأميركي والتوتر الأوروبي الداخلي. لذا، فهما لا يتعجلان “النصر”، بل يراهنان على الفراغ الاستراتيجيالذي يخلفه الغرب في كل منطقة يتراجع منها.
السؤال هو هل يمكن الدخول من الباب الكبير بعد الإنهاك الغربي؟ نعم، بشرط أن يبقى الغرب غارقًا في التناقضات بين قيمه وسلوكياته، وفاقدًا للبوصلة الجيوسياسية الموحدة. روسيا تسعى لفرض أمر واقع جيوعسكري (كما في أوكرانيا وسوريا)، بينما الصين تبني شبكات نفوذ تربط الشرق الأوسط بآسيا.لذا فالدخول من “الباب الكبير” لا يعني الغزو، بل تحقيق الشرعية كقوة بديلة قادرة على الاستقرار والربط والتنمية. لكن الرهان محفوف بالمخاطر: لأن الانزلاق في مستنقعات محلية، أو ردات فعل غربية متأخرة لكنها مؤلمة. فبينما الانتظار الذكي قد يثمر، لكن رصاصة النهاية قد تنطلق في اتجاهات غير محسوبة إذا تغيرت قواعد اللعبة فجأة.
خامساً: ضريبة الجغرافيا السياسية الجديدة – شرق أوسط متعدد الأقطاب؟
السؤال الأهم: هل نحن أمام شرق أوسط جديد؟ الإجابة: نعم، لكن ليس وفق الخرائط السابقة. نحن أمام مشهد إقليمي يتسم بـ تفكك المركز التقليدي للقرار، وصعود تحالفات مرنة ومرحلية، وتحول القضايا المركزية (مثل فلسطين وإيران) إلى أدوات تفاوض لا أكثر. الجغرافيا السياسية الجديدة تتشكل، لا كخريطة استعمارية، بل كـ”نظام سيولة إقليمي” بلا مركز مسيطر. تحول المحاور من ثابتة إلى متحركة (إيران-روسيا، إسرائيل-الخليج، تركيا-آسيا، الصين-الكل) خلق توازنًا هشًا. كل قوة تحاول بناء “نطاق نفوذ خاص”، لكن لا أحد يمتلك القوة الكاملة لإخضاع البقية، ما يؤسس لتعددية اضطرارية. الانكفاء الأميركي، وصعود الصين، وتماسك روسيا النسبي، كلها عوامل تضعف فكرة القطب الواحد. هذه الولادة صاخبة، غير مكتملة، وتحدث دون توافق إقليمي أو عقد أمني شامل، ما يجعلها عرضة للانفجار.
خلاصة الحديث أنّ الشعوب أول الضحايا: مزيد من الصراعات بالوكالة، وانهيارات اقتصادية، وهشاشة في العقود الاجتماعية. فلا شك أن الدول الصغيرة أو الضعيفة ستُدفع للارتهان لمحاور قسرية، مما يفقدها هامش المناورة والسيادة السياسية. العين ستبقى على النخب الحاكمة وهي تدفع الثمن لاحقًا بانفجارات داخلية إن فشلت في التكيّف أو احتواء الضغوط الخارجية. الاقتصادات الهشة تدفع ثمن التموضع العسكري والتسلّح، على حساب التنمية والعدالة الاجتماعية. في هذا التعدد القطبي، لا يوجد منتصر دائم، بل لاعبون مرهقون يتناوبون على الخسائر، ما لم تُصنع صيغة توازن ذكي. إذن المنطقة بالفعل على فوهة بركان، لكن ما سيمنع الانفجار الكامل هو عاملان: عدم استعداد الشعوب لحرب واسعة النطاق، وتوازن الرعب الإقليمي والدولي الذي يجعل من أي حرب شاملة انتحاراً سياسياً وجيوسياسياً للطرف الذي يبدأها.