18 نوفمبر، 2024 4:38 ص
Search
Close this search box.

الشرط الاجتماعي لفكرة انتظار (المنقذ / المخّلص)

الشرط الاجتماعي لفكرة انتظار (المنقذ / المخّلص)

لاريب في ان كل ما يمت بصلة لحياة الانسان ويتمخض عن طرز اجتماعه وأنماط  قيمه وأطر علاقاته ، مدموغ بطابع النسبية التاريخية وخاضع لميكانزمات التحول والتبدل ، باستثناء ما يدلل على روابطه وقناعاته مع فكرة المقدس في بعدها الديني / المحرّم ، التي وان حملت خصائص البنية الاجتماعية ، وتناغمت مع ايقاع المرحلة التاريخية ، وتلونت بتلاوين المنظومة الثقافية ، الا انها تبقى ملازمة لكينونته وملاصقة لمصيره . ولذلك فان مجمل تمظهراته الذاتية والموضوعية محمولة على الأنضواء ضمن سيرورات الحتمية الزمكانية ، التي لا تفتأ أن تخلع على مظاهر الطبيعة ومعطيات المجتمع وتجليات الفكر سمات التغيير في الماهية والانزياح في الوجود ، بحيث ان مغزى الظاهرة ذاتها لا يلبث أن يظهر بأشكال وأنواع متغايرة بين مجتمع وآخر ومن جماعة وأخرى . وعلى الرغم من الأصول الاجتماعية والغايات الدنيوية التي تتوخاها فكرة انتظار (المنقذ / لمخلّص) ، الا أنها وبسبب من طابعها التجريدي وعمارتها المفارقة ، فضلا”عن شحنتها السيكولوجية المرفوعة الى مصاف الطوبى في المخيال الشعبي ، نحت باتجاه التماهي مع منتجات الفكر الديني وتسللت لاستبطان رموزه المقدسة ، على وفق ما أجاد وصفه الفيلسوف الروسي (نيقولاي برديائف) حين أعتبر ((ان المؤثرات الروحية تعمل في مسارب خفية تبعث على الدهشة)) . وهو الأمر الذي أسقط عنها مشروطية الواقع الاجتماعي واستحقاقات التجربة الانسانية . ولهذا نجد انه بقدر ما لا يخلو مجتمع من المجتمعات من واقعة الحضور الديني في نسيج عناصره وصيرورة تكوينه ، فأنه قلما يجهل أو يفتقر لفكرة وجود (المنقذ / المخلّص) ضمن ذخيرة رأسماله الرمزي ، حيث تربض في قيعان موروثه وتعشعش في أعماق لا وعيه ، وكأنها حقيقة من حقائق حياته وحصيلة من حصائل خبراته . وعلى أساس ذلك فقد سوغت هذه الحقيقة للبعض الادعاء بأن ميلاد هذه الفكرة وسرّ تشبثها بالبقاء شغّالة في بنية الوجدان الاجتماعي ، نابع من أصول دينية صرفة حيث الوعد الالهي بالشفاعة والخلاص للانسان من خطاياه وانحرافاته وهي الفكرة التي طالما تناولتها النصوص المؤسسة بشيء من تأكيد المعنى وتكرار المغزى ، ليصار ، من ثم ، التعويل على فضيلة الأمل الذي يشيعه في النفوس دور (المنقذ / المخلّص) ، لا في حيزالحياة الدنيوية المتناهية فحسب ، بل وفي رحاب الحياة الأخروية اللامتناهية أيضا”. والواقع انه لا جدال حول أهمية العامل الديني في نشر فكرة الانتظار اللاهوتية وترسيخ مدلولها القدسي في شعاب الذاكرة الجمعية ، من منطلق ((ان المقدس – كما يشير الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو – لا يوجد الا بالنسبة لمن لديهم حسّ بالمقدس ، والذين مع ذلك ، حين يواجهون المقدس ذاته ، يخبرونه على أنه متسام تماما”)) ، وهو ما يغذي الانطباع لدى المؤمنين / المريدين بانتماء هذه الفكرة لعالم اللاهوت وغربتها عن عالم الناسوت . بيد ان الخاصية الجوهرية لتلك الظاهرة المحيّرة لا تكمن في كونها تنبثق عن عالم السماء ومعتقداته ، بقدر ما تتمخض عن عالم الأرض واشتراطاته ، وان هي تسربلت برداء الدين وادعت خروجها من معطف المقدس . بمعنى انها وليدة مخاضات الواقع الاجتماعي المأزوم ، وثمرة بؤس الشروط الانسانية وتعاستها . فحين يقع الانسان بين شقي رحى الجهل بأسباب المعاناة التي تطحن كيانه والتخلف في ادراك مصادر الشقاء التي تشلّ ارادته من جهة ، ومشاعر العجز في مواجهة قوى الطغيان التي تهدر آدميته والاحباط في التخلص من علاقات الهيمنة التي تستبيح كرامته من جهة أخرى . أي حين يفقد رجاءه بنفسه وتنعدم سبل الخلاص أمامه ، لا مناص له من هجر الواقع الذي يعيش فيه ونبذ الجماعات التي ينتمي اليها ، ميمما”وجهه شطر ما لا تدرك طبيعته وما لا تسبر مكونات قدرته متوسلا”اليه ومن خلاله ، اجتثاث مظاهر الشرّوالظلم والعبودية التي يرزح تحتها واشاعة قيم الخير والعدل والمساواة التي يتوق اليها ، حيث تتجسد ارادة الخالق في مصائر مخلوقاته . ولهذا فان ((الانسان المسحوق – يؤكد الباحث مصطفى حجازي – بحاجة الى وليّ لشدة شعوره بعجزه وقصور امكاناته على التصدي والمجابهة والتأثير . ويحتاج الى حمايته نظرا”لشدة احساسه بالعزلة والوحدة في مجابهة مصيره المحفوف بالمخاطر حين تلم به النوائب أو يصاب في نفسه أو ذويه أو أمنه أو قوته . فالوليّ ملاذ ومحام يتقرّب اليه ويتخذه حليفا”ونصيرا”، كي يتوسط له لدى العناية الالهية)) . وفي السياق ذاته فقد ارتأى الباحث العراقي (ابراهيم الحيدري ) ضمن بحثه الرائد في – تراجيديا كربلاء – ((ان مبدأ الأمل المنقذ في انتظار الامام المهدي الذي ترسخ في الذاكرة ، يعيش بالطبع في سلبية الحاضر وينمو في تربة خصبة وغنية بالتوتر)). واللافت للنظر في هذه المسألة الحسّاسة ان شدة التعلق بهذه الفكرة والتعويل على دورها الخلاصي ، لا تتناسب فقط طرديا”مع الاسراف في رذائل الطغيان السياسي ورزايا الحرمان الاجتماعي فحسب ، بل وتزداد مع الايغال في ضروب القحط الثقافي والتصحر المعرفي التي يجبر الانسان على التكيف معها والتمرغ فيها ، بحيث تغدو وكأنها جزء من خصائصه ودالة من دواليل تكوينه . وهذا ما فطن اليه الفيلسوف (بيير بورديو) حين وجد انه ((كلما زاد حرمان الناس ثقافيا”على وجه الخصوص ، كلما كانوا مجبرين وميالين أكثر الى احلال وكلاء محلهم لتكون لهم كلمة سياسية)) . 
[email protected]

أحدث المقالات