18 ديسمبر، 2024 8:16 م

الشخصية العراقية في الادارة والحكم

الشخصية العراقية في الادارة والحكم

ينتابني انطباع دائم بان العراقي ضد اي حكومة كانت ، منذ الحكم العثماني للعراق الى وقتنا الحاضر . . مرورا بالعهد الملكي ، ثم الجمهوريات المتعاقبة على اثر الانقلابات العسكرية العديدة . وربما كان ذلك نتيجة انعدام الثقة بين الانسان العراقي والحكومة التي تنظم اموره . فالعراقي لديه قناعة بان الحكومة ماهي الا سلطة موجهة لاضطهاده من خلال القوانين المتشددة ومن خلال الضرائب المفروضة عليه وكذلك التجنيد او الخدمة الالزامية . ولذلك فهو يفرق دائما بين نحن وهم . وهم تمثل السلطة او الحكومة الغاشمة التي تحاول ان تضطهده او تبتزه باي طريقة كانت . وهذا السلوك لازم العراقي وتوارثه من الاباء والاجداد . . وهذه لم تات من فراغ . فاكثر المختصين بعلم السلوك يعتقدون بان سلوك الفرد لايقتصر عليه فقط بل انه ينتقل الى اولاده ثم احفاده عن طريق الجينات الوراثية . فذاكرة الجينات لاتحتوي على المكونات البايولوجية فقط وانما تتضمن ايضا مكونات سلوكية متوارثة من الاباء الى الاولاد
وبناء عليه فان المسيرة السياسية والحكومية منذ الحكم العثماني وقبله قد
اعطت الفرد العراقي سلوكيات معادية للوالي وللسلطان ثم للحكومة . . وقد تعزز هذا العداء من خلال الدراسات والمطالعات التاريخية او التراث الشعبي المتوارث ايضا
وعلى مر الزمان كان العراقي ينتمي الى عائلته وعشيرته وقوميته ودينه
ثم تحول انتماءه في الازمنة المتقدمة الى حزبه . وتعصب لحزبه لانه يمثل في نظره طوق النجاة للخلاص ، وكأنه المسيح المخلص . ولذلك نرى تمسك العراقي بحزبه وكرهه للحزب المقابل . حيث اصبح الحزب المظلة التي يحتمي بها بدل العشيرة او الطائفة
وبعد افول نجم الاحزاب القومية واليسارية فقد العراقي الفكر الايديولوجي
للحزب واتجه نحو الدين والعشيرة مرة اخرى . ومن ثم انتكس الى الطائفة كبديل عن الحزب . وهذا هو السبب الرئيس لضعف روح المواطنة في داخله ، وحلت محلها السلوكيات والطقوس الدينية والمذهبية . وقد كانت المواطنة رديفة للفكر الحزبي ، او من مستلزماتها
يضاف الى ذلك ان المواطن قد فقد الاطار الوطني العام نتيجة ضعف الدولة واختلال النظام العام كما رفع الغطاء الرقابي والتوجيهي عنه ، ونتيجة لذلك حلت الفوضى والاراء الشخصية المتخلفة وسادت الادعية والاعراف الدينية ، كما فقدت الاحتفالات الوطنية اهميتها وحلت محلها المناسبات الدينية التي توسعت على حساب العمل واضمحل الواجب الاداري الوطني امام الكم الهائل من الدعايات والتطرف الديني . وقد شجع هذا النهج الانتشار الواسع للفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي . وكان من نتيجة انحسار روح المواطنة ان تم استغلال الوظيفة لتحقيق مكاسب شخصية مثل الرشوة والمحسوبية . مع اخضاع المصلحة العامة للمصالح الشخصية

ان العراقي يميل بطبعه نحو التفرد في قراراته ولايؤمن بالعمل الجماعي الا اذا اضطر لذلك . . وهو يعتقد نفسه دائما افضل من غيره . ولذلك نجد كل وزير او مدير عام عندما يتسنم وظيفة يهدم كل مابناه سابقه ليعيد البناء على وفق نهجه واسلوبه ، ولا يحاول اكمال ما بدأه سابقه من اعمال . ولذلك لانرى تراكم للانجاز او الخبرات عندنا في العراق ، بعكس الدول المتقدمة حيث تضع نظم واسس محكمة للوظائف ووصف وظيفة لكل عمل مما يترتب البناء عليه دائما مع مراجعة العمل من قبل متخصصين لتطويره ، ولا يحق للموظف او العامل الاجتهاد او الخروج عن هذه الضوابط بمحض ارادته . وبالتالي ليس له الحق في هدمه واعادة بناءه بمزاجه

ان الانسان العراقي مقابل كل ذلك هو شخص ذكي مبدع عندما يعمل في دول لها اطرها القانونية والتنظيمية المتقدمة . وكذلك في وجود سلطة قوية يعمل داخل اطاراتها الرسمية . ولكنه عند ضعف الدولة او ترهل النظام يحاول الحصول على مكاسب ذاتية لنفسه لانه يعتقد ان مجهوده سيذهب الى الاخرين لينعموا به وليس الى المجتمع

يصدق علي الوردي بقوله ان العراقي لديه ازدواجية بالشخصية ولكنه يعزوها الى البداوة والحضارة . الحقيقة ان العراقي لديه ازدواجية بين التمدن والتراث الديني المتخلف . . وهو مازوم من داخله نتيجة هذه الازدواجية حتى المثقفين منهم . بل ان المثقفين يعانون اكثر من غيرهم من هذه الازدواجية ، فالمثقف يحاول ان يكون متمدنا ويسلك سلوكا مدنيا الا انه متمسك بالتقاليد الدينية وهو في هذا المنحى يخشى من الاخرين الذين يتهموه بالالحاد وربما يهدرون دمه . وكذلك يخشى من ضياع الهوية الدينية كونه مسلم له صفات وخصائص تميزه عن غيره
وعلى العموم فان العراقي غير متدين ، الا انه يحبذ الطقوس الدينيةويفضلها
على اصل الدين وروحه

ان الازدواجية في شخصية العراقي تنعكس على مجتمعه . ولذلك نراه شديد العداء لكل من يخالفه ، ولكنه شديد العاطفة والهمة في انقاذ من يحتاج الى مساعدته وهو احيانا يضحي بنفسه من اجل ذلك ، وهو يتمتع بالنخوة والفروسية بمعناها الاخلاقي ، وهو كريم ومعطاء

من كل ذلك يتضح ان الشخصية العراقية مأزومة عبر التاريخ الى يومنا
الحاضر الا ان ذلك لايعني انها شخصية ميؤوس منها ولا تقبل الاصلاح ، كما ان صفات التفرد وحب الذات والتمرد على الانظمة والقوانين التي يتصف بها العراقي ممكن تغييرها عند توفر الظروف المناسبة واهمها حكومة عادلة تطبق القوانين على كل الافراد دون تمييز او تفضيل . وكذلك التركيز على المفاهيم الحضارية والوطنية في المدرسة والاعلام مع نبذ التراث الديني المتخلف واحلال روح التسامح وانكار الذات واحترام الرأي المقابل والقبول بالتنوع واشاعة المفاهيم الدينية الهادفة الى تحقيق البناء الروحي للانسان بدل التعصب والتطرف والاستمرار على هذا النهج حتى يتم ترسيخه ويصبح سلوكا جديدا ليحل محل السلوكيات السلبية والمتعارضة مع التقدم الحضاري والعلمي