23 ديسمبر، 2024 11:07 ص

الشخصية الرئاسية بين العراق ودول الوطن العربي

الشخصية الرئاسية بين العراق ودول الوطن العربي

يعلم الجميع، ممن يعيش داخل أسوار الوطن العربي المحتل، أن اغلب هذه البلاد تُحكم من قبل عساكر دكتاتوريين أو ملوك وارثين لا يجيدون الديمقراطية وفنّها ولا الثقافة وصيغها ولا حتى الديمقراطية وأشكالها , بل بينهم وبين الحكم الرشيد العادل وأصوله وإستراتيجيته بون شاسع وفجوة سحيقة كبعد سلطتهم عن الشرعية والدستورية وتلبية متطلبات المواطن العربي الغائص حتى رقبته تحت نير ظلمهم .
ولو أن الأمر اقتصر على ذلك لكان هين، ألا أن قادة العرب وحكامهم المهزومين داخليا وخارجيا ، يحاولوا أن يُظهروا أقنعة الصرامة ويلبسوا رداء الوقار ويتصنعوا السمو ويسعون الى خلق شخصيات كاريزمية خاصة بهم ، بحيث يبدو الواحد منهم وكأنه إمبراطور أو ملك مقدس لا تطاله الظنون ولا خطرات العيون ولا لحظات الجفون , ولولا أن الأمر فوق المعقول بدرجات عدة لادعى بعضاً من هولاء، كذبا وزورا، النبوة أو ربما الإلوهية.
ولكننا نلاحظ أن هنالك رئيساً واحداً، بالمعنى الحقيقي والديمقراطي للكلمة، من بين حكّام العرب ممن خرق هذه القاعدة وكسر هذا الطوق وخرج على اطر التعقيد المفتعل والزيف الكاذب ، وظهر في مقابلاته التلفزيونية ومؤتمراته الصحفية بسيطاً جداً يتكلم معك وكأنه صديق حميم أو أخ مقرب تربطك معه علاقة أفقية لا عمودية إذا جاز لي استعمال مصطلحات سوسيولوجية في هذا المجال , بحيث يزيل بنفسه بينك وبينه أي حجاب أو حاجز سيكولوجي ترسب لديك بفعل الصورة التقليدية للحكّام العرب الأشاوس الجبابرة مع شعوبهم والجبناء أمام القوى الكبرى .
هذا الشخص هو جلال طالباني الرئيس العراقي والذي يعد برأي اغلب المراقبين المنصفين الرئيس الوحيد، في الوطن العربي ، المنتخب بطريقة ديمقراطية في ممارسة انتخابية لم يشهد الوطن العربي بل والعالم اجمع نظيرها في الاستبسال والشجاعة العراقية ولا مثيلها بالإصرار والتفاني ومواجهة فلول الإرهاب التكفيري الذي كانت ترفض هذه الانتخابات وتهدد بقتل وتكفير كل من يتوجه لصناديق الاقتراع من اجل تحديد مصيره ومصير وطنه .
وفي الواقع أن بساطة وأريحيه وتواضع الرئيس جلال طالباني أو مام جلال كما يحب البعض أن يسميه, تعد غريبة بالنسبة للعربي عموماً والعراقي على نحو الخصوص, وتعتبر غير مألوفة على الفضاء السياسي العربي الذي تُنسج فيه أوهام وحكايات خرافية حول قادته ومن يحكموه تنفع أن تشكل الجزء الثاني من حكايات قصص ألف ليلة وليلة ! .
البساطة التي يتمتع بها مام جلال لا تنبع _ وهذه نقطة مهمة ومن الضروري التنبيه
عنها_ من سذاجة ذاتية أو هزالة في الشخصية أو ضعف في السلوك ولا حتى من قلة خبرة هذا السياسي المخضرم العارف أصول اللعبة الدبلوماسية وقواعد التعاملات السياسية, وهو الذي يشهد له القاصي والداني والعدو والصديق بأنه من أعمدة المعارضة العراقية التي جاهدت الدكتاتورية وناضلت سنوات عديدة لعلها تفوق أعمار بعض حكّام العرب .
أن بساطة مام جلال تعود، في رأيي، إلى محاولته كسر التقاليد السياسية المتهرئة وتحطيم الحواجز الرئاسية المزعومة التي خلقها قادة العرب والتي جعلت من رئيس الدولة العربية يظهر وكأنه اله أو نبي أو أمام معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فجلال طالباني يشير إلى نفسه بقوله ( اغاتكم ) وهي كلمة عامية تقال في الجلسات الشعبية ويروى بنفسه أمام عدسات الكاميرا وعبر الأثير وتحت مرأى ومسمع الملايين أخر نكته سمعها تتهكم بشخصه، والتي تقول مثلاً بأنه قد سُئل عن عدد صور القران فقال بان القران لا يحتوي صور ابد وإنما كتابات وخطوط ….بل ويردد البيت الشعري الساخر الذي يقول:
فوك القهر والظيم ريسنا كردي…
أنا اعتقد أن لجلال طالباني أهداف متعددة وغايات متنوعة في ظهوره على هذا النحو البسيط الذي يحس المواطن العراقي به أكثر من غيره لكونه عاش زمن الدكتاتوريات, وعصر الفاشيات التي امتصت حرية الإنسان وسحقت ذاته وأذابت قدراته, وانكوى بها وتلظى بنارها هذا الرئيس الإنسان مثل انكوى بها وذاقها شعبه العراقي” وطنيا ” و الكردي ” قوميا ” .
هذا الرجل العراقي يحاول تأسيس أو أعادة صياغة علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم أو بين الرئيس والمرؤوس قائمة على البساطة والمرونة والكياسة في التعامل , ويريد إيصال رسالة إلى المتلقي العراقي على الصعيد المحلي، والعربي على الصعيد الإقليمي، والعالمي على الصعيد الدولي على حد سواء… بأنه مجرد موظف في الحكومة وليس مقدساً أو قائداً ضرورة كما صورتها لنا ورسمتها بالدم سلوكيات وشخصيات قادة العرب .