تعتبر رواية الوشم للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي من الروايات العربية النادرة التي حظيت باستقبال هام في الكثير من الأطروحات والتنظيرات الأكاديمية ، إذ تجاوزت البحوث الصادرة في المجلات الأدبية المحكمة وغيرها أربعة وسبعين بحثاً، اغلبها خارج العراق ، واهمها أطروحة دكتوراه للايطالية (ماتيلدا غالياردي) فضلا عن مئات الدراسات في الصحف المتنوعة ، وقد صدرت الرواية في طبعتها الأولى سنة 1972 في سياق تاريخيّ هام مرّت به الرّواية العربيّة الحديثة من خلال تقاناتها السردية المتعددة الأصوات ، حتى عدت من أفضل مائة رواية عربية .
ومن خلال تقانة طباعية يفصل المؤلف بين مستويين من السّرد عبر تغيير حجم الحروف، يتّصل المستوى الأول وهو مستوى الحروف العاديّة بخطاب السّارد ويتّصل المستوى الثاني وهو مستوى الحروف الغليظة بخطاب كريم الناصري وهو الشخصية المركزية في الرواية، ويتبلور الخطاب السردي ايضا بالتلاعب بالضمائر المتنوعة ، فالسّارد يستعمل ضمير الغائب وهو يروي حكاية كريم الناصري، ويوظّف كريم النّاصري ضمير المتكلم ويروي حكايته الشّخصيّة، فالسّارد يوجّه خطابه إلى قارئ الرّواية في حين يوجّه كريم الناصري خطابه إلى حسّون السلمان وهو أحد رفاق السجن، ويتقاطع الخطابان في شكل مقاطع سرديّة تطول وتقصر عبر كامل النصّ (1) في اشتغالة يندر أن نراها في السرديات العربية وقتها وبشكل فاق التنظير السردي للرواية الجديدة.
وربما تكون شخصيات الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي من أكثر الروائيين العرب قرباً من شخوص الواقع الحيّ وتمثيلاً لهم، وهو على وعي تام بهذه الحقيقية التي تشكّل لديه رؤية كتابية مخصوصة اشتغل عليها في جلّ رواياته، لذا هو يقول: لا آتي بشخصياتي من المريخ ولا من سنغافورة، بل آتي بها من بين الناس الذين عرفتهم وأحسست أن لهم أدوارهم المنفردة التي لا تذوب في روح القطيع، بمعنى أنه ينتخب شخصياته من الواقع بكل تقلباته وخيباته وسلطته، ويسعى في عملية الانتخاب هذه إلى شد المتلقي نحو شخصيات ا يمكنها أن تسهم عميقاً في الإجابة على أسئلة الروايات (2).
ينحدر بطل الرواية كريم النّاصري من عائلة فقيرة تشتغل في الفلاحة، وهو ينتسب إلى مدينة الناصرية وهي مدينة مناضلة حسب ما يتردد بسردياته لكنّها تعيش ظروفاً قاسية ، ولكنّ الرواية لم تبين لنا المهنة التي كان يعمل بها الناصري قبل اعتقاله في حين أكّد حراكه السياسي المتمثل بالانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي وتعرض، بسبب ذلك إلى التعذيب حيث يردد في الصفحة (18):
جسدي ملقى على الأرض في هذا المعتقل الموحش الذي كان يوماً اصطبلاً لخيول الشرطة الخيالة
الفضاءات الزمنية للبطل كانت ثلاثة وهي مرحلة الاعتقال وما قبلها وما بعدها، لذا فهو ليس زمناً كرونولوجيّا بقدر ما هو زمن نفسي ، فقد خسر كريم النّاصري حاضره بكل حرارته وآماله الكبار وماضيه ومستقبله ، حيث نرى الانطلاقة السردية بدأت مع خروجه من المعتقل، وهذا ما نجده في مطلع الرواية:
خرج كريم النّاصري سالماً طويلاً مبتسماً، يتفقد الأصدقاء ويردّ التحيّة على الآخرين ويستقبل تهنئتهم بمناسبة خروجه ( 3).
وتمثل هذه اللحظة الخط التحولي في حياة كريم النّاصري إذ بها سيعيد ترتيب حياته ويغيّر رؤيته للعالم والأشياء ،وبعد ذلك يشتغل القص على سبر أعماق شخصية كريم النّاصري وتحليل انفعالاتها وتحديد موقفها من العالم بقيمه الاجتماعية والسّياسيّة ليرسم بذلك صورة بليغة للشخصية الانهزامية ، والانهزامية هنا ليست ليست سلبية بل هي نتاج لعلاقة هذا البطل بروحه وبالعالم المحيط به، وكيفية خاصة من الكيفيات السيكولوجية والسوسيولوجية التي عاشها ، إن عملية المصالحة مع العالم مستحيلة وتحقيق الرغبات المؤجلة ما عاد ممكنا فنراه يقول :
لقد كنت أعاني وأبحث دائماً، أقرأ الكتب وأساهم في المظاهرات والتنظيمات وأشرب الخمور وأرتاد دور الزنا بلا انقطاع، أردت أن أكون على صلة ساخنة بالحياة وأتجدد معها ولكنّي اكتشفت أنّي كنت أخسر هذه الحياة باستمرار . ويقول في مكان أخر :
يوم أعطيت رأسي للكتب شربت الجبن والتخاذل ويوم أعطيته للانتماء عرفت الخيانة والهزيمة والأجدر بمرتدّ مثلي أن يخفي وجهه عن الأنظار.
ومن قراءة مستفيضة للمتن الحكائي للرواية نلاحظ ان الانهزامية ليست صفة فردانية وراثية بل هي معطيات المحيط الجمعي للبطل فنراه يقول في مكان أخر :
كيف أجبر الكسر في حياتي؟ لقد تآمرتم جميعكم عليّ، أسقطتموني، لماذا تستهدفونني وحدي؟ كلّكم مسؤولون عنّي، أنت ورفاقك القدامى يا حسّون وأسيل ومريم عبد الله والعالم.
إن حسون هو حسون السلمان وهو شخصيّة ثانويّة هامّةٌ في الرّواية إذ يستقبل خطاب كريم النّاصري في مستوى البنية العامة للرّواية، سرعان ما تجاوز أزمته واختار طريق الدّين نهاية له ، أما أسيل فهي رسامه مر معها بتجربة عاطفية ومريم عبد الله زميلة له في المؤسسة وخاض معها تجربة ايروسية عنيفة. أنّ الشخصيّات وعلى الرغم من تعدّدها لا تمثّل كينونات اجتماعية ونفسية مستقلة، إنما هي أصداء لصوت كريم الناصري (4).
إن الشخصية الانهزامية شخصية رئيسة في القصة أو العمل الدرامي والصراع عميق فيها وتصعب قراءتها , وغالبا ما تكون هذه الشخصية ضبابية المعالم وتتكشف صراعاتها مع الآخرين أو مع نفسها من خلال مشاهدة منفردة ذات طابع يكون في قالب التداعي أو الاستذكار سواء كان من خلال الوصف أو الحوار أو الاثنين معا , أو تمرير سلسلة من التداعيات أو الأسئلة ويكون عصيا عليها إيجاد إجابة لها , وهي تعكس حالة مركبة بين الماضي والحاضر والمستقبل أو ما هو كائن أو يكون وربما هي إسقاطات المنظومة العلائقية الداخلية أو الخارجية لها ، وتنتهي الى حالات من الجنون أو الموت او الهجرة وهي شخصية غالبا ما تكون مبدعه أو لديها ثراء ثقافي كبير تحاربها المؤسسات الدينية أو الاجتماعية وهي بهذا إحدى تجليات الشخصية المركبة ، وهذا ما تم ملاحظته في شخصية كريم الناصري.
أنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة ، محمد الباردي ، 2000.
بنيات التشكيل الروائي والياته ، سودارس ،2013 .
محمد الباردي ، مصدر سابق.
محمد الباردي مصدر سابق.