17 أبريل، 2024 9:51 ص
Search
Close this search box.

الشتاء الثامن عشر

Facebook
Twitter
LinkedIn

ما كان يحسب بعد ان امتلأ العمر وجعا ويأسا وفشلا واماكن خالية في القلب لمن رحلوا انه سيرى صورتها اخيرا ،،بين وجع الفكرة التي عشعشت في وجدانه بانها قد تكون ماتت الان،،او ربما تزوجت رجلا بربريا من قبيلتها المتوحشة واستقرت في تلك الناحية الريفية النائية،،وبين الصورة التي ارتسمت امامه على شاشة التلفاز،،
تسمر على كرسي الوجع مبهورا حين لاحت تلكما العينان الاعمق من الليل في احدى لقطات تقرير محلي عن نشاط ما،،هل كان قدره ان يراها في وقت كهذا،،وهو يقلب محطات التلفاز مللا ،،حتى اوقف الريموت على قناة لم يعتد المرور عليها ولو بالصدفة،،وكانت هي،،مثل حدث لا يحصل في العمر سوى مرة يتيمة،،هي تلك العصية على النسيان،،كصورة منحوتة في القلب،،
قبل شهرين تحديدا اتصل به صديق قديم،،كان يعرفها،،جاءت به الصدفة لا غير،،جاء ذكرها عرضا،،بلا تفاصيل،،ولم يجرؤ على السوال عنها وهي التي اجبرته على الرحيل في تلك الليلة الباردة من ليالي كانون الحزين،،
مع انه كان ينتظر تلك اللحظة ،،غير ان ما فجعه كان التوقيت،،فامرأة مثلها،،كان يصعب ان يستوطن قلبها احد،،رغم انه كان قد كسر حاجز عصيانها،،واحبته مخترقة حاجز القبيلة،،والعرف،،واحلام العائلة التي اخرجت لؤلؤتها الثمينة لتكمل دراستها بعيدا عن البيت والممنوع،،كانهم رأوا فيها قمة شاهقة يصعب الوصول اليها،،
رفع يديه كلتاهما في الهواء فاردا اصابعه العشرة يحاول حساب السنوات التي انقضت منذ الرحيل الاخير ،،تلك الاصابع التي لا زالت تحتفظ بذاكرة ملمس خصلات شعرها الاسود الفاحم المتوحش،،وكل التفاصيل الدقيقة لوجهها لا زالت تسكن عصبه البصري،،امراة تسقط امام فوضوية خلقتها كل امراة ،،فكل جزء منها حكاية ،،
يذكر مرة ان صديقة رسامة طلبت ان تجلس امامها ربع ساعة،،فقط لترسم عينيها،،وتلكما الحاجبان اللتان ترتفعان كقوس الصائد العنيد في معلقة امريء القيس الخالدة،،عيناها بيت شعر،،لطالما حاول الاخرون عبثا حفظه،،ورسمه،،
كان مكتفيا بها،،لم يطلب منها صورة،،رغم انه كان واثقا من انها لن تعطيها له باية حال،،ولم يجرؤ على ان يطلب منها ان تلتقط صورة معه،،كانت انثى لا تحب نسخا تقليدية عنها،،
مر الخبر والصورة،،وصار مستحيلا اعادة اللحظة التي اخرجتها من تلافيف دماغه العصي على النسيان،،لجأ الى الانترنت،،بحث عن الخبر وموقع القناة ولم يعثر على شيء،،كتب اسمها كما سمعه بلقبه،،وحين اكتمل تحميل الصور،،،ظهرت اخيرا،،في احدى الجلسات،،لم يكن يراها بعينه،،كانت الصور المرسومة في لاوعيه المجنون بها هي التي تحول بينه وبين الصورة،،تغيرت كثيرا بعد كل هذا الزمن،،تبدو ملامح الزمن،،وبقايا هيبة المراة العنيدة على وجهها،،شال احمر ملفوف بلا عناية،،ورداء اسود موشح بالوان ما،،وعينان تنظران الى كاميرا غريبة،،
كانت تكره الصور،،لا تحب الا ان تكون نسخة اصلية وحيدة،،!!
يعرف ملامح المراة حين تتزوج ،،وحين تصبح شيئا مستهلك الملامح مثقلا بهموم الهراء البشري،،زوج واولاد وقد يكون هناك قيح اسمه اهل الزوج،،كانت ملامح اخرى،،لامراة اخرى قد تكون اصبحت كأية امرأة،،
كانت،،تقول انها لا تشبه احدا!!
بدت منبهرة بجلستها،،مزهوة بشيء ما،،عمل ما،،مناسبة ما،،
كانت تقول انها تكتفي بذاتها،،لا يبهرها شيء،،!!
صورة لامراة اخرى كانت هذي الصورة،،،!!
استرجع اللحظات والاوجاع ،،وجعا وجعا،،وبقيت معه طوال الليلة حلما بعيدا من زمن منسي،،تذكر ولم يكن قد نسي حتى ايقاع ضحكتها التي لا تشبه اية ضحكة،،
كم كره الحياة التي لملمتها ومضت،،سافر،،واحب،،ونُكـب،،وبكى،،وضحك،،وفقد،،وكبر،،وخاف،،وتهجر،،وعاد،،تشتت،،لكنه،،لم ينس،،كان نسيانها فعلا مستقلا عن الفعل نسي في العربية،،بدت اللغة بلا جدوى،،لانه عجز ان يصف ما جرى،،
كل كلمات الحب التي كان لها معنى تحولت الى لا شيء،،لكنها مع ذلك لازالت في القلب كما دخلت اليه اول مرة،،بل انها حين قالت له انها تحبه اول مرة قالتها بالانكليزية،،رغم تواضع لغتها الانكليزية!
ظلت الكلمة حسرة في قلبه،،حتى نطقتها يوما بلا موعد،،ولا انتظار،،لكنها كانت بايقاع حزين ،،اخترقت حاجز السمع واستقرت في قلبه،،خاف من تلك اللحظة،،وانتهى بعدها كل شيء بصمت كما بدأ،،
مرت صور من الذكرى الموجعة بالتفاصيل،،استوقفته صورة كفها وهي ترتخي على على ذراعه،،وراسها العنيد يستند الى كتفه في لحظة طفولتها التي اطلت برأسها من خلف الملامح القاسية،،
نسخ الصورة،،ومضى يبحث في ملامحها التي لا تشبهها عن امراة احبها قبل ثمانية عشر شتاءا،،امطرته حنينا،،ووجعا،،وذكريات،،لكنها هي،،بروحها العنيدة،،رغم انه يعي ان كل خلية في جسد المراة التي امامه غريبة عنه،،وان خلاياها التي تعرفه قد ماتت واضمحلت بفعل البايولوجيا الغبية ،،حتى دمها الذي كان يسكنه،،تغير،،وظل هو كأن خلية واحدة منه لم تتغير،،وكأن عروقه لازالت تحتفظ بدفء العشق الذي لم يبرد رغم عواصف وامطار ثمانية عشر شتاءا تراكمت في عمره الذي تكبر معه،،،
انها خرافة لذيذة اسمها العشق تأبى ان تفارق تفكيره ،،وربما ذنب يابى ان يستغفر منه،،امر يصعب تفسيره،،

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب