23 ديسمبر، 2024 4:20 م

الشبيبي والبنك المركزي: قضية رأي عام!

الشبيبي والبنك المركزي: قضية رأي عام!

اللغم الذي ظل غير موقوت انفجر على نحو مفاجئ حين صدرت مذكرة إلقاء القبض بحق محافظ البنك المركزي الدكتور سنان الشبيبي، فمنذ أكثر من عام تردّد عن وجود خلافات بين رئيس الوزراء نوري المالكي والدكتور الشبيبي، لاعتذار الأخير عن قبول طلب لإقراض الحكومة بمبلغ خمسة مليارات دولار. ولعلّ اعتذار الشبيبي يعود إلى استقلالية  البنك المركزي وقانونه الخاص. وأشيع أن قرار الإحالة جاء جرّاء تأثر سعر الصرف للدينار العراقي على خلفية سوء إدارة أو فساد، علماً بأن العملة العراقية لم تشهد أية تغييرات دراماتيكية منذ العام 2004 ولحد الآن، باستثناء الفترة الأخيرة.
وتردّد أيضاً، وهو ما نقله لي أحد أقطاب العملية السياسية، أن قرار الإقالة بحق الشبيبي كان قد اتخذ قبل بضعة شهور، ونتيجة وساطات وتدخلات أطراف وشخصيات غير قليلة تم إلغاءه أو تأجيل تنفيذه، وعندما سافر الشبيبي في زيارة رسمية إلى اليابان صدرت مذكرة الاعتقال بحقّه، خصوصاً وأن الموضوع جاء على لسان بعض النواب في البرلمان، إضافة إلى ما تناوله الإعلام.
إن صدور مذكرة الاعتقال وسحب اليد من الوظيفة، والشبيبي خارج العراق،  يضع أكثر من سؤال حول التوقيت الذي كثيراً ما تكرّر مثلما حصل بالنسبة لطارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية، وذلك على خلفية اتهامه بالارهاب وبحق عدد من الوزراء والمسؤولين الآخرين، الأمر الذي يعطي انطباعاً بالاستهداف والتبييت وربما الانتقام. ولعل ذلك يتجلّى من المقصد والدلالة، خصوصاً عندما يكون المسؤول خارج العراق، فهل يعني الإشارة إليه بعدم العودة؟
وبغضّ النظر عن الاتهام ومدى صدقيته أو عدمها، فإن المتهمين الذين يتم اتهامهم لا يعودون إلى العراق ليواجهوا الأمر، لأنهم جميعاً “يتفقون” وهو أمر يثير الاستغراب، على أن القضاء غير مستقل، وأنه مسيس، وأن التهمة كيدية، وأن تآمراً قد تم نسجه على نحو بارع للإيقاع بهم، والمسألة تتكرر في كل مرّة، في حين أنهم لم ينبسوا ببنت شفة قبل ذلك. وقد تشمل قوائم الاتهام في المستقبل بعض الساكتين اليوم الذين من يتم غضّ الطرف عنهم أو أنهم ابتعدوا عن دائرة الضوء، حيث تردّد أن مفوضية النزاهة بحوزتها ملفات أكثر من 1000 شخصية رسمية مسؤولة متهمة بالفساد، بما فيها 15 وزيراً سابقاً وعدد من النواب وعشرات من وكلاء الوزراء والمدراء العامين.
مشكلة البنك المركزي لا تتعلق بشخصية سنان الشبيبي المستقلة أو إدائه الشخصي أو مهنيته أو كفاءته، بل تتعلق بعموم العملية السياسية وعلاقات الفرقاء وطرق التفكير السائدة والوعي القانوني عموماً، لاسيما بين الوظيفة العامة والشأن السياسي أو الشخصي. قد تكون ثمة أخطاء أو نواقص أو حتى فساد وقع فيه البنك المركزي بما فيها محافظه، وليس بالضرورة عن سوء قصد، وقد يكون سوء إدارة، حتى وإن تحمّل المسؤولية القانونية، لكن طريقة المعالجة لا ينبغي أن تتسم بالتشهير والإساءة وإصدار الأحكام حتى قبل التحقيق بالقضية وحتى قبل أن يتقرر ما إذا كان الأمر يستحق الذهاب إلى القضاء، وهو الجهة الوحيدة التي من حقها ومن واجبها النظر في مثل هذه القضايا التي تصله وترفع إليه.
وفي الكثير من الحالات وصلت القضية إلى الاعلام قبل أن تصل إلى الجهة ذات العلاقة، والإعلام بطبيعة الحال سيؤثر على سلطة القضاء، لأنه قد يصدر أحكامه قبل دفع القضية إلى السلطة القضائية، وذلك وفقاً لتوجّهات حكومية وامتثالاً وتساوقاً مع ما تريده السلطة التنفيذية أحياناً. وسيؤدي مثل هذا الأمر حتى وإن ذهبت القضية إلى القضاء، إلى تعرّض القضاة إلى ضغوط نفسية ومعنوية ومعلوماتية قد تكون مشوهة أو ملتبسة، ستؤثر على قرارهم وبالتالي ستلحق الضرر بمبادئ العدالة وبالمتهم بالدرجة الأساسية، لا سيما إذا كان بريئاً، وحتى لو تمت تبرئته فإن ضرراً معنوياً سيلحق به وبسمعته. وتزداد المسألة خطوة عندما تكون السلطة الاعلامية، “صاحبة الجلالة”، قوية ومؤثرة، لا سيّما إذا كانت سلبية، بحيث يخشاها القضاء، الذي سيكون موقفه ضعيفاً، خصوصاً إذا ما أدرك أن وراء حملة التشهير، الاعلام الرسمي ومن ورائه الحكومة.
هكذا يتم التأثير على قرار القضاء مسبقاً ويحدّ من دوره واستقلاله، وهناك أمثلة كثيرة في الحاضر والماضي على ذلك، حيث لعبت الضغوط والآراء المسبقة دورها السلبي في التأثير على العدالة، خصوصاً إذا ما شعر القاضي خشية من السلطة التنفيذية، أو تهديداً، وقد كان اغتيال عدد من القضاة في العراق واحداً من أسباب اختلال بعض الأحكام، فضلاً عن تداخلاته الاجتماعية.
ولعلّ الحديث عن المعايير الدولية للمحاكمة العادلة تتطلب وجود قضاء مستقل، فهذا الأخير هو المعيار الحقيقي للنظم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، تلك التي تتطلب مجتمعات حرّة وأفراد قادرين على مراقبة نزاهة القضاء. وحسب مونتسكيو وكتابه ” روح الشرائع” فالحرية تنعدم إنْ لم يكن القضاء مستقلاً ومنفصلاً عن سلطة التشريع (البرلمان)، أما إذا تماهت السلطة القضائية مع السلطة التنفيذية أو خضعت لها فسيكون القاضي إما طاغياً أو منفذاً لأوامر متنفذين وطغاة يتدخلون في شؤون القضاء ويؤثرون على أحكامه.
وذهبت المادة 11 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان لتأكيد المبدأ القانوني “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” في ” محكمة علنية” مع توفير ضمانات الدفاع عن النفس، في حين أن الإعلان العالمي لاستقلال القضاء الصادر في العام 1983 عن مؤتمر مونتريال (كندا) أكّد على ” حرية القاضي في الفصل في الدعوى دون تحيّز أو تأثير أو الخضوع لأية ضغوط أو إغراءات…” وهو ما أكّده إعلان ميلانو (إيطاليا) لعام 1985 الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومؤتمر منع الجريمة المنعقد في العام 1990 بخصوص مبادئ الأمم المتحدة بشأن المحامين ومثلما هناك حقوق للمتهم خلال المحاكمة، فهناك حقوق تسبق المحاكمة وأخرى تعقبها.
إن المتابع للشأن السياسي العراقي، لاسيما للمواقف الحادّة والمفاجئة للعديد من القوى والأشخاص يدرك حقيقة أن ما حصل للشبيبي، قد يطال غيره، طالما كانت الثقة ضعيفة والشفافية هشّة والمساءلة مؤجلة، والأكثر من ذلك غياب معايير الحكم والتقويم في إطار مسؤولية الدولة، ومن جهة أخرى فالأمر قد يتكرر طالما سكت الآخرون عمّا يجري، في حين إن المسألة تتعلق بنظام إدارة الدولة ككل، وهو لا يتعلق بامتيازات لهذه الكتلة أو تلك أو لهذا الشخص أو ذاك، فقد جرى التدخل بعدد من الهيئات المستقلة، مثل مفوضية الانتخابات، ومفوضية النزاهة، وغيرها دون وضع حد لذلك باستثناء بعض الاعتراضات  التي تتعلق بالحصص والنسب الطائفية والإثنية.
ولأن الشبيبي خبير اقتصادي مستقل فإن فرصه في الدفاع ستكون أضعف من غيره، ولأن الحملة التي استهدفته قبل التحقيق كانت واسعة وخطيرة فإن قضيته ينبغي أن تتحول إلى قضية رأي عام، إذ أن ما حصل فيها كان أقرب إلى عمل الأحزاب السرّية والحركات والأنظمة الشمولية، حين يختلف أحد معها فتنزل عليه معاول التشهير والإساءة بهدف الانتقام، وقد كان النظام السابق بارعاً في ذلك.
لقد عرفت الشبيبي في الستينيات من القرن الماضي، يوم تزاملنا في جامعة بغداد “كلية الاقتصاد والعلوم السياسية”، وكان يسبقني بصف واحد، وعندما تخرّج قبلي بسنة عيّن “أستاذاً معيداً” لأنه كان الأول على دفعته، وأتذكّر أننا دعوناه لمشاركتنا في سفرة خاصة باتحاد الطلبة إلى سدّة الهندية، وكان هدفها انقاذ إثنين من الذين هربوا من سجن الحلة (1967) حيث تم حفر نفق لتهريب السجناء السياسيين، وعندما انحرفت السيارة في طريق خاص وغير مبلط استغرب، وحينها همسنا بأذنه وقبل صعود “الرفيقين” بأن هذا عمل إنساني بمن انقطعت به السبل، وفي موقع علاوي الحلّة أفرغنا السيارة من الركاب، وبقينا فيها خمسة أشخاص أتذكر منهم سامي مهدي الهاشمي (الذي اغتيل في العام 1968) أي بعد عام واحد من التاريخ المذكور، وسليم الربيعي، إضافة إلى الشخصين الآخرين، وأحدهما هو شقيق سامي الهاشمي(سعدون الهاشمي) الذي كان محكوماً لمدة 20 عاماً (كان قد قضى منها نحو ستة سنوات قبل هروبه) والشخص الثاني الذي نسيت اسمه وأنا، واختفى الهاشمي في منطقة الزوية في بغداد لعدة أيام، ثم أخذ يزورنا غير آبه بما قد يحصل له ولنا، وبعد نحو عام غادر العراق وأصبح أحد قادة المقاومة الفلسطينية لاحقاً.
أكمل الشبيبي دراسته في بريطانيا ونال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، ثم عمل في الأمم المتحدة في جنيف، وشارك مع أديب الجادر ومهدي الحافظ في مناقشات ما سمي باللجنة الاستشارية، كما حضر مؤتمر صلاح الدين في العام 1992، ومعه شقيقه أكرم الشبيبي أيضاً، وكان قد وصل إلى كردستان عبر طهران.
 أقول ذلك الآن لأن الكثير من الأصوات حاولت الإساءة إليه، مستغلة عدم وجود جماعة سياسية تدافع عنه، مشككة بمهنيته وتاريخه، علماً بأنه نجل الشخصية الوطنية والعلمية الكبيرة الشيخ محمد رضا الشبيبي وقد قدمت عائلته للأدب والثقافة والوطنية العراقية شخصيات لامعة، كما أن شقيقه أسعد الشبيبي اختفى قسرياً في ظل النظام السابق وقيل أنه تمت تصفيته مطلع الثمانينيات.
 لعلّ القصد من هذه المرافعة ليس الدفاع عن الشبيبي، وإنما إجلاء ملابسات إقالة محافظ البنك المركزي، وذلك دفاعاً عن الحقيقة وعن النزاهة والعدالة، لا سيّما وأنها قضية رأي عام ينبغي أن يكون له دوره الذي يستأهله!

• نشرت المادة في صحيفة الخليج بعنوان : قضية رأي عام بتاريخ 31/10/2012 ونعيد نشرها كاملة مع عنوانها والفقرة التي سقطت سهواً.