ظل الحلم بحياةٍ أبديةٍ الهاجس الأكبر في حياة الإنسان، وقد تجسد ذلك في طروحات الفلاسفة والمفكرين، والشعراء، والأدباء، ولعلَّ ملحمة كلكامش في بحثه عن عشبة الخلود أقدم الإشارات المكتوبة في هذا المجال.
في سنة ١٨١٨ م صدرت في بريطانيا روايةٌ عالجت الرغبة في اكتشاف إكسير الحياة ألا وهي رواية (فرانكشتاين) لكاتبةٍ شابةٍ لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها وقتها، تدعى (ماري شيلي) تناولت في روايتها حكاية شابٍ ذكيّ يدعى فيكتور فرانكشتاين يحاول اكتشاف سر الحياة الذي يبقيه هو،وصديقه هنري وصديقتيه اليزابيث ،وجوستني أحياء للأبد، فيقوم في حقل تجاربه بصنع إنسان من أجزاء من جثث الموتى، لكنَّ النتيجة أنَّ هذا المصنوع يكون مسخاً، أو وحشاً مجرماً يتمرد عليه، ويسعى إلى قتله.
حاول بعض الكتاب إعطاء بعدٍ فكريّ وفلسفيّ للقصة التي بدلاً من أن يشتهر صاحبها المسخ اكتسبت شهرتها من شهرة صانعها، وذلك بتشبيه ما حصل هنا بتمرد الشيطان على خالقه.
ولكن يظل هذا الرأي أحد الآراء المحتملة.
لعَّل غرابة الحكاية في (فرانكشتاين) هي التي جعلتها تحقق انتشاراً واسعاً في المسرح والسينما كما في الفلم السينمائي الذي جسده روبرت دي نيرو سنة ١٩٩٤م.
سريالية الواقع العراقي، ولا معقوليته ربما ألهمت الكاتب والروائي أحمد سعدواي كتابة روايته (فرانكشتاين في بغداد) التي صدرت في طبعتها الثانية عشرة في بغداد (٢٠١٤م) بعد فوزها بالجائزة الأولى للبوكر العربية سنة ٢٠١٤م عن منشورات دار الجمل.
تتكون الرواية من تسعة عشر فصلاً جاءت في ٣٥٢ صفحة من القطع المتوسط كتبها المؤلف خلال سنوات( ٢٠٠٨م ـ ٢٠١٢م) ميلادية. وعلى خلاف (فرانكشتاين) الانكليزي فإنَّ (فرانكشتاين) العراقي يصنعه رجل فقير يعمل بجمع المواد والأنتيكات القديمة يدعى (هادي العتاك) الذي يحاول ترميم إحدى الجثث ويفاجأ بأن تدب فيها روح (دانيال بن ايليشوا) الشاب المفقود في حرب الثمانينيات، ويُطلق عليه اسم (الشسمه) الذي يعني في اللغة العراقية الدارجة الشخص المجهول (فالشسمه مصنوعٌ من بقايا أجساد لضحايا، مضافاً إليها روح ضحية أخرى. إنَّه خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم حتى يرتاحوا. وهو مخلوق للإنتقام والثأر لهم) ص ١٤٤.
قد يبدو هذا التعريف مثالياً ،ولا يعبر عن الحقيقة؛ فهذا (الشسمه) ـ حسب مجريات الرواية ـ يرتكب عدة جرائم لا مسوغ لها، مثل قتل شحاذين أربعة خنقاً بدعوى محاولتهم قتله (لقد ماتوا لأنهم أرادوا ذلك) ص ١٤٥.
(من الصعب إقناع شخص ما بهذا الهراء، ولكن ، كل الجرائم التي ترتكب يقف خلفها هراء مرتب كهذا) ص١٤٥.
تكرار جرائم الشسمه دعت العميد سرور مجيد رئيس دائرة المتابعة والتعقيب المرتبطة بسلطة الائتلاف الدولي بالعراق إلى محاولة القبض عليه مستعيناً بفريق من الضباط والمنجمين الذين يستقصون تحركاته ،ولكن المحور الرئيس الشائق في تقصي حقيقة (الشسمه) هو الصحفي محمود السوادي الهارب من محافظة العمارة بسبب طلب ثأر، لأنه كتب مقالةً في صحيفة (صدى الأهوار) عن العدالات الثلاث (عدالة السماء، وعدالة القانون ،وعدالة الشارع) التي لابدَّ أن تتحقق أحداها، وقد كتبها بعد القبض على مجرمٍ يقود عصابةً تروّع الأهالي، وبعد إطلاق سلاحه بعد يومين أو ثلاثة من اعتقاله قام شخصان ملثمان بقتله على طريقة تحقق (عدالة الشارع) مما عُدَّ محمود السوادي محرضاً على قتله فيتوعده شقيق المجرم ويدعى (الكوربان) الصفة التي تطلق على الشخص الطويل، فيضطر محمود الى الهرب إلى بغداد، والعمل في مجلة (الحقيقة) لصاحبها، ورئيس تحريرها علي باهر السعيدي الذي يعجب به ويرقيه الى منصب مدير تحرير ويكون جلّ اهتمام محمود السوادي متابعة الشسمه وتقصي أحواله.
يصف الكاتب ما يحصل بالقول : [هناك حكايات كثيرة في الواقع، لا تقل غرابةً عن عودة ابن مقتول من الموت، سمعها الأهالي خلال السنوات الثلاث الماضية. هناك موتى خرجوا من سراديب الأمن العامة، ومعدومون انبثقوا فجأةً أمام الأبواب العتيقة لبيوت أهاليهم الفقيرة. هناك أشخاص عادوا من سفرٍ بعيدٍ بأسماء وهويات جديدة، ونساء عشن طفولتهن في أقبية السجون وتعلمن، قبل أي شيء آخر في الحياة، قواعد وآداب التعامل مع السجان، هناك من نجوا من ميتات عديدة في زمن الديكتاتورية ليجدوا موتاً تافهاً حاضرا أمامهم في زمن (الديمقراطية) الجديد كأن تصدمهم دراجةٌ ناريةٌ في وسط الشارع مثلاً، مؤمنون تحولوا إلى ملحدين بعد أن خانهم أصحاب العقيدة والكفاح، و خانوا مبادئهم، وملحدون تحولوا إلى مؤمنين بعد أن رأوا (فوائد الإيمان ومنافعه)] ص ٣٨٤.
وبتكرار جرائم القتل الغامضة والعجز عن القبض على المجرم خاصةً بعد اختفاء القاتل مباشرةً، وتعذر تأثير الرصاص تتسع دائرة الرعب التي لابدَّ أن تستدعي تذكر حوادث المجرم المسمى بـ (أبي طبر) في السبعينيات وشخصيات متطرفة في زمن الديمقراطية كان يتوقع انتهاء دوامة العنف بالوصول إليها، لكن هذا لم يحصل، كما يلمس القارىء تأثير رواية (المعطف) للكاتب غوغول، وخاصةً شخصية (أكاكي فتش) التي صارت شبحاً ينتقم من الأغنياء بعد أن تسبب أحد اللصوص بسرقة معطفه، مما أدى إلى مرضه ثمَّ موته.
لكن الشسمه لم يحقق العدالة المنشودة، وظلت أفعاله مجرد ردود فعل محدودة لحوادث متفرقة .. يتساءل الساحر وهو أحد الشخصيات :
( مَن يحدد نسبة الإجرام في شخص ما؟..
إنَّ كل شخص فينا لديه نسبة من الإجرام تقابل نسبةً معينةً من البراءة. ربما يكون من قتل غدراً، ودون ذنب شخصاً بريئاً هذا اليوم، ولكنه كان مجرماً قبل عشر سنوات حين ألقى بزوجته العجوز في دار المعجزة، أو قطع الكهرباء أو الماء عن عائلةٍ لديها طفل مريض ما تسبب في موته سريعاً..) ص ١٧١، وتعجز الأجهزة الأمنية عن إلقاء القبض على الشسمه، فيلقون القبض على صانعه هادي العتاك ويعرض في التلفزيون على أنه المجرم الخطير الذي روَّع الأهالي، أما مصير مجلة (الحقيقة) فهو التصفية بعد فرار رئيس تحريرها علي باهر السعيدي واتهامه بسرقة (١٣) مليار دولار من الأموال الأمريكية.
لكنَّ الشبح يظل كما هو حتى نهاية الرواية ربما في إشارة إلى بقاء الرعب والخوف مهيمناً على الحياة العراقية.
على صعيد البناء السردي اعتمد الكاتب على راوٍ واحدٍ محتفظٍ بكل الأسرار،ولا يبوح بأي سر إلا بما تقتضي الحاجة، وللتخفيف من قتامة الموضوع عمد إلى أسلوب السخرية، واستخدام المفردات العامية العراقية الشعبية المغرقة في المحلية، أما المكان فهو محدود جداً لا يتعدى منطقة الباب الشرقي، وحي البتاويين، وفندق العروبة، وهي لا تمثل إلا نسبةً قليلةً من التجمع السكاني الحقيقي لمدينة بغداد وتظل مهارة الكاتب الأساسية هي في صنع بيئةٍ روائيةٍ لا واقعية تحاكي الواقع العراقي بكل غرائبه وصدماته !*رواية (فرانكشتاين في بغداد) للكاتب والروائي أحمد سعداوي الطبعة الثانية عشرة/ بغداد ـ منشورات دار الجمل/ ٢٠١٤ م عدد صفحات الكتاب ٣٥٢ صفحة من القطع المتوسط
في سنة ١٨١٨ م صدرت في بريطانيا روايةٌ عالجت الرغبة في اكتشاف إكسير الحياة ألا وهي رواية (فرانكشتاين) لكاتبةٍ شابةٍ لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها وقتها، تدعى (ماري شيلي) تناولت في روايتها حكاية شابٍ ذكيّ يدعى فيكتور فرانكشتاين يحاول اكتشاف سر الحياة الذي يبقيه هو،وصديقه هنري وصديقتيه اليزابيث ،وجوستني أحياء للأبد، فيقوم في حقل تجاربه بصنع إنسان من أجزاء من جثث الموتى، لكنَّ النتيجة أنَّ هذا المصنوع يكون مسخاً، أو وحشاً مجرماً يتمرد عليه، ويسعى إلى قتله.
حاول بعض الكتاب إعطاء بعدٍ فكريّ وفلسفيّ للقصة التي بدلاً من أن يشتهر صاحبها المسخ اكتسبت شهرتها من شهرة صانعها، وذلك بتشبيه ما حصل هنا بتمرد الشيطان على خالقه.
ولكن يظل هذا الرأي أحد الآراء المحتملة.
لعَّل غرابة الحكاية في (فرانكشتاين) هي التي جعلتها تحقق انتشاراً واسعاً في المسرح والسينما كما في الفلم السينمائي الذي جسده روبرت دي نيرو سنة ١٩٩٤م.
سريالية الواقع العراقي، ولا معقوليته ربما ألهمت الكاتب والروائي أحمد سعدواي كتابة روايته (فرانكشتاين في بغداد) التي صدرت في طبعتها الثانية عشرة في بغداد (٢٠١٤م) بعد فوزها بالجائزة الأولى للبوكر العربية سنة ٢٠١٤م عن منشورات دار الجمل.
تتكون الرواية من تسعة عشر فصلاً جاءت في ٣٥٢ صفحة من القطع المتوسط كتبها المؤلف خلال سنوات( ٢٠٠٨م ـ ٢٠١٢م) ميلادية. وعلى خلاف (فرانكشتاين) الانكليزي فإنَّ (فرانكشتاين) العراقي يصنعه رجل فقير يعمل بجمع المواد والأنتيكات القديمة يدعى (هادي العتاك) الذي يحاول ترميم إحدى الجثث ويفاجأ بأن تدب فيها روح (دانيال بن ايليشوا) الشاب المفقود في حرب الثمانينيات، ويُطلق عليه اسم (الشسمه) الذي يعني في اللغة العراقية الدارجة الشخص المجهول (فالشسمه مصنوعٌ من بقايا أجساد لضحايا، مضافاً إليها روح ضحية أخرى. إنَّه خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم حتى يرتاحوا. وهو مخلوق للإنتقام والثأر لهم) ص ١٤٤.
قد يبدو هذا التعريف مثالياً ،ولا يعبر عن الحقيقة؛ فهذا (الشسمه) ـ حسب مجريات الرواية ـ يرتكب عدة جرائم لا مسوغ لها، مثل قتل شحاذين أربعة خنقاً بدعوى محاولتهم قتله (لقد ماتوا لأنهم أرادوا ذلك) ص ١٤٥.
(من الصعب إقناع شخص ما بهذا الهراء، ولكن ، كل الجرائم التي ترتكب يقف خلفها هراء مرتب كهذا) ص١٤٥.
تكرار جرائم الشسمه دعت العميد سرور مجيد رئيس دائرة المتابعة والتعقيب المرتبطة بسلطة الائتلاف الدولي بالعراق إلى محاولة القبض عليه مستعيناً بفريق من الضباط والمنجمين الذين يستقصون تحركاته ،ولكن المحور الرئيس الشائق في تقصي حقيقة (الشسمه) هو الصحفي محمود السوادي الهارب من محافظة العمارة بسبب طلب ثأر، لأنه كتب مقالةً في صحيفة (صدى الأهوار) عن العدالات الثلاث (عدالة السماء، وعدالة القانون ،وعدالة الشارع) التي لابدَّ أن تتحقق أحداها، وقد كتبها بعد القبض على مجرمٍ يقود عصابةً تروّع الأهالي، وبعد إطلاق سلاحه بعد يومين أو ثلاثة من اعتقاله قام شخصان ملثمان بقتله على طريقة تحقق (عدالة الشارع) مما عُدَّ محمود السوادي محرضاً على قتله فيتوعده شقيق المجرم ويدعى (الكوربان) الصفة التي تطلق على الشخص الطويل، فيضطر محمود الى الهرب إلى بغداد، والعمل في مجلة (الحقيقة) لصاحبها، ورئيس تحريرها علي باهر السعيدي الذي يعجب به ويرقيه الى منصب مدير تحرير ويكون جلّ اهتمام محمود السوادي متابعة الشسمه وتقصي أحواله.
يصف الكاتب ما يحصل بالقول : [هناك حكايات كثيرة في الواقع، لا تقل غرابةً عن عودة ابن مقتول من الموت، سمعها الأهالي خلال السنوات الثلاث الماضية. هناك موتى خرجوا من سراديب الأمن العامة، ومعدومون انبثقوا فجأةً أمام الأبواب العتيقة لبيوت أهاليهم الفقيرة. هناك أشخاص عادوا من سفرٍ بعيدٍ بأسماء وهويات جديدة، ونساء عشن طفولتهن في أقبية السجون وتعلمن، قبل أي شيء آخر في الحياة، قواعد وآداب التعامل مع السجان، هناك من نجوا من ميتات عديدة في زمن الديكتاتورية ليجدوا موتاً تافهاً حاضرا أمامهم في زمن (الديمقراطية) الجديد كأن تصدمهم دراجةٌ ناريةٌ في وسط الشارع مثلاً، مؤمنون تحولوا إلى ملحدين بعد أن خانهم أصحاب العقيدة والكفاح، و خانوا مبادئهم، وملحدون تحولوا إلى مؤمنين بعد أن رأوا (فوائد الإيمان ومنافعه)] ص ٣٨٤.
وبتكرار جرائم القتل الغامضة والعجز عن القبض على المجرم خاصةً بعد اختفاء القاتل مباشرةً، وتعذر تأثير الرصاص تتسع دائرة الرعب التي لابدَّ أن تستدعي تذكر حوادث المجرم المسمى بـ (أبي طبر) في السبعينيات وشخصيات متطرفة في زمن الديمقراطية كان يتوقع انتهاء دوامة العنف بالوصول إليها، لكن هذا لم يحصل، كما يلمس القارىء تأثير رواية (المعطف) للكاتب غوغول، وخاصةً شخصية (أكاكي فتش) التي صارت شبحاً ينتقم من الأغنياء بعد أن تسبب أحد اللصوص بسرقة معطفه، مما أدى إلى مرضه ثمَّ موته.
لكن الشسمه لم يحقق العدالة المنشودة، وظلت أفعاله مجرد ردود فعل محدودة لحوادث متفرقة .. يتساءل الساحر وهو أحد الشخصيات :
( مَن يحدد نسبة الإجرام في شخص ما؟..
إنَّ كل شخص فينا لديه نسبة من الإجرام تقابل نسبةً معينةً من البراءة. ربما يكون من قتل غدراً، ودون ذنب شخصاً بريئاً هذا اليوم، ولكنه كان مجرماً قبل عشر سنوات حين ألقى بزوجته العجوز في دار المعجزة، أو قطع الكهرباء أو الماء عن عائلةٍ لديها طفل مريض ما تسبب في موته سريعاً..) ص ١٧١، وتعجز الأجهزة الأمنية عن إلقاء القبض على الشسمه، فيلقون القبض على صانعه هادي العتاك ويعرض في التلفزيون على أنه المجرم الخطير الذي روَّع الأهالي، أما مصير مجلة (الحقيقة) فهو التصفية بعد فرار رئيس تحريرها علي باهر السعيدي واتهامه بسرقة (١٣) مليار دولار من الأموال الأمريكية.
لكنَّ الشبح يظل كما هو حتى نهاية الرواية ربما في إشارة إلى بقاء الرعب والخوف مهيمناً على الحياة العراقية.
على صعيد البناء السردي اعتمد الكاتب على راوٍ واحدٍ محتفظٍ بكل الأسرار،ولا يبوح بأي سر إلا بما تقتضي الحاجة، وللتخفيف من قتامة الموضوع عمد إلى أسلوب السخرية، واستخدام المفردات العامية العراقية الشعبية المغرقة في المحلية، أما المكان فهو محدود جداً لا يتعدى منطقة الباب الشرقي، وحي البتاويين، وفندق العروبة، وهي لا تمثل إلا نسبةً قليلةً من التجمع السكاني الحقيقي لمدينة بغداد وتظل مهارة الكاتب الأساسية هي في صنع بيئةٍ روائيةٍ لا واقعية تحاكي الواقع العراقي بكل غرائبه وصدماته !*رواية (فرانكشتاين في بغداد) للكاتب والروائي أحمد سعداوي الطبعة الثانية عشرة/ بغداد ـ منشورات دار الجمل/ ٢٠١٤ م عدد صفحات الكتاب ٣٥٢ صفحة من القطع المتوسط