23 ديسمبر، 2024 12:38 ص

الشباب والثقافة وصدمة الوعي

الشباب والثقافة وصدمة الوعي

استعنت بالاصطلاح التقني الالكتروني (شيفرة الصبا) لتقريب الفكرة التي أتناولها اليوم وهي من كبرى التحديات التي تشوش على أذهان الشباب وتحول دونهم ودون التفكير الموضوعي والتواجد التام على ضفة الوعي وجادة التفكير السليم، والمعلوم أن الشيفرة هي مفتاح الدخول إلى مجال محجوب سواء أكانت طلاسماً من حروف وأرقام للدخول إلى نافذة إلكترونية أو جهاز محمول أو كانت بصمة لاستعراض ملف التعريف الشخصي عند دوائر النفوس أو ما شابه… ولكننا بصدد الشيفرة الأعقد بين هذه الشيفرات جميعاً والتي تتكون في الإنسان منذ الصغر وهي الشيفرة الذهنية التي يصدق فيها أو يطابقها أو يشرحها المثل الذي تعرفه العامة وهو أن “التعليم في الصغر كالنقش في الحجر”.
نعم، في الصغر تتكون حجر الأساس الأولى والأقوى للقناعات وتتخلق طريقة التفكير ويستقيم منسم التوجه حسب التلقي والتلقين، وحسب البيئة المحيطة وما أضافته إلى صفحة الفطرة البيضاء ورسمته على زجاجة الذهن الصافية، وحسب الطريقة التي أشبعت بها لهفة الفضول الطفولي، حيث يكون الفضول هو الحافز الأقوى للتعلم والاكتساب والتملك على حسب المرحلة العمرية، الفضول هو محرك النفس البشرية الذي يدفعها دفعا للخروج من ضيق المدارك إلى فضاء المعارف الفسيح ومجال الثقافة الواسع، وملكة الفضول هي الأقوى عند الأطفال الذين خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ثم فتحوا نوافذ الإدراك في الأسماع والأبصار والأفئدة ليمتلئ الفراغ الفكري عندهم بما تيسر، عندما تبرد جذوة الفضول يعتدل الخط البياني للوعي عند الإنسان ويتابع بشكل مستقيم بعد التصاعد، ولذلك يوصف العلماء في كل المجالات والاختصاصات بأنهم الأكثر طفولية لأنهم الأكثر تحقيقا في كنه الأشياء وتمحيصا في ماهيتها والأكثر استغرابا في آلية عملها وهذا ما يدفعهم إلى معالجتها بدافع تفهمها فيستنبطون القوانين ويكتشفون المخترعات، وما ذلك إلا لأن جذوة الفضول عندهم لم تزل ملتهبة ولم يتعبوا من الاستشراف والاستكشاف.
وكما هو الحال في ملء الفراغ الديني في الأطفال والمتمثل بالفطرة السواء عند كل مولود ثم يتدخل أبواه تهويدا أو تنصيرا أو تمجيساً، فهناك الفراغ الفكري الذي تستلم الثقافات الاجتماعية مادته الخام وتقولبها بقالب الأعراف والتقاليد ثم تضرب عليها سكة التعليم الرسمي الذي قد يكون أبلغ أثراً من كل ما سواه في أساليب التفكير ومستويات الإدراك، وهنا تتشكل الشيفرة الذهنية التي تتبلور فيها الشخصية وتتقولب الذات بقالب ثقافي لا ترضى عنه بديلا ولا تساوم عليه.
ذاك أن المرحلة التي تقولبت فيها الشخصية وترسخت فيها القناعات هي الفترة الحرجة التي يحترم فيها المتلقي قدوته ويمشي بثقة عمياء وراء أسوته الحسنة ويتقبل كل الأفكار والتوجهات عن معلميه بقبول حسن، فلا عمل له في ذلك الوقت بتحليل المادة الثقافية ولا طاقة له بتذوقها وتمييز طيبها من خبيثها وحسنها من رديئها، بل يتلقفها على صعيد واحد بنهم كبير وشغف منقطع النظير.
يعيش الأفراد منسجمين مع شيفرتهم الذهنية حتى قدوم صدمة الوعي في الشباب خصوصا إذا كانت متخاصمة مع ما اشتملت عليه عقولهم من تركة الصبا وتراث الصغر المقدس، وهنا تحدث المفارقة التي تتجاذب الشخصية والفصام الذي يفلق الذات المتماسكة أو يقلقها على أقل تقدير، والمقارنة الحرجة بين مفترق طرق يحار السالك أيهما يتبع؛ فمن جانب بصمة التعليم المكتسبة قديما ونقشة التثقيف المصكوكة على الذهن من بواكير العمر، ومن جانب آخر ما استجد به الوعي الشاب الذي هو أكثر تمكينا وتمييزا من وعي الطفولة فأيهما يختار!
يسهل الجواب نظريا ولكن يتعسر تطبيقيا، لا شك أن الأفق المعرفي انداح عميقا أمام المدارك الشابة ولكن قل من يستطيع الثقة بجديد الشباب والإقلاع عن موروث الصبا مهما كانت الفوارق مقنعة والطيف اللوني متمايزا بين الصواب والخطأ، حتى وإن تميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الأفكار إلا أن صدمة الوعي لا يمكنها تحطيم الشيفرة الصلبة بالكامل وإن استطاعت تهشيم بعضها أو جلها ولكن لا تستطيع طمسها كلها.
وهكذا نجد كثيرا من الأذهان سابحة عكس تيار الوعي الجارف إلى ضلالها القديم وغفلتها المتأصلة وما وجدت عليه آباءها الأقدمين، فلا يمكن للعولمة أن تقضي بتاتا على القومية في ذهنٍ شب عليها وربما شاب، ولا يمكن إسقاط الرموز من القلوب التي تشربت محبتها حتى لو بدا نشازها وبان عوارها، فقد تأخر الوقت بعد أن أصبحت في قرار مكين ومستودع أمين من الأذهان.