23 ديسمبر، 2024 3:06 م

الشباب العراقي .. القنبلة الموقوتة

الشباب العراقي .. القنبلة الموقوتة

“قبل الولوج في السياسة والخوض في دهاليزها المظلمة يجب دراسة علمي النفس والاجتماع” نصيحة ثمينة لن أنساها أبدا تلقيتها ذات يوم من المستشار الثقافي العراقي في صنعاء، فمن خلال دراسة سلوكيات البشر وعاداتهم وأعرافهم وأحوالهم الدينية والثقافية والمعيشية يمكن تكوين صورة واضحة عن الخط السياسي العام لبلد ما. في العراق غالبا مايتم اختصار أزمة هذا البلد بالأحداث السياسية والأمنية والتقلبات الاقتصادية دون الالتفات والتركيز الى أثارها الاجتماعية السلبية على المواطنين عموما والشباب خصوصا.

الشباب هم أمل الوطن ورجال المستقبل كما تعلمنا فاذا وقع هؤلاء فريسة للاحباط واليأس نتيجة التخبط السياسي والانهيار الأمني والانتهازية الاقتصادية فان ميولهم ستتجه الى كل ماهو سيئ ومسيئ وسيكونون قوة معيقة سلبية داخل المجتمع تسهم في القضاء على ماتبقى من البلد بدلا من الاعتماد عليهم في السعي لاخراجه من عنق الزجاجة.

قادني عملي مؤخرا الى زيارة لجامعة بغداد أعرق وأقدم الجامعات العراقية ورغم ان الواقع المزري للمؤسسات التعليمية من حيث الكفاءة العلمية وانخفاض مستوى بعض طلابها العلمي والاخلاقي بات أمرا لايخفى على أحد فقد استحسنت جمال منظر الطلبة وهم يقصدون قاعاتهم الدراسية في مشهد صباحي رائع يشير الى ديمومة الحياة العملية والعلمية للعراقيين رغم محنتهم ، و شدني الحنين الى أيام دراستي الجامعية حينها كنت بمنأى عن ظروف الحياة الصعبة وواقعها العملي القاسي ، فجأة تحول استحساني الى استشناع وانقلب حنيني الى استهجان عندما لفت انتباهي مشهدين أكدتا لي عمق الأزمة الاجتماعية والنفسية (ان صح التعبير) في العراق والتناقض الجذري بين ميول الشباب واهتماماته وهو ما ينعكس سلبا على قدراتهم الذهنية وطاقاتهم الابداعية حينما رأيت مجموعة من الطلبة وهم يطبخون (القيمه) بقدورها الكبيرة المعتادة في وسط الجامعة على

وقع لطميات العزاء ليبدو الأمر وكأننا في موكب حسيني لا في حرم جامعي يفترض به أن يكون منارة للعلم ومنبعا للثقافة وبعيدا عن التجاذبات السياسية والطقوس المذهبية غضضت بصري ورنوت باتجاه ادارة الجامعة لانجاز ماجئت من أجله وحمدت الله اني لم اخلق سنيا والا كان مصير انتقادي لهذا المشهد هو الويل الأموي والثبور الناصبي وعظائم الأمور البعثية فاذا بي أرى محلا لبيع شالات وربطات الرأس للطالبات المحجبات !!! ملحق بمكتبة دخلته فورا من باب الفضول متذرعا بشرائي لقلم !!! لاجد قمصان نوم خليعة تباع للطالبات علنا في الحرم الجامعي دونما رقيب أو متابعة هنا أحسست كأنني في عالم أخر حيث لم أكد أستوعب الصدمة الأولى لتأتي الثانية أشد وأعتى ولتبين حجم التناقضات الهائلة التي بدأت تضرب هذا المجتمع المريض والذي دفع ثمنا غاليا لسلسلة من مأسي الحروب والحصار والاحتلال والارهاب والطائفية والديكتاتورية طوال عقود مضت .

يستخدم العلماء علم النفس عادة كمرآة لفهم السياسة, وكذلك تعتبر السياسة مرآة لعلم النفس من خلال فهم العلاقات المترابطة بين الأفراد و المواقف التي تتأثر بالمعتقدات والدوافع وبنظرة نفسية واجتماعية لواقعنا العراقي نجد ان مجتمعنا بات متطرفا في دينه ودنياه، الصلاح والفساد، الخير والشر، الحق والباطل لامكان فيه للوسطية والعقلانية ويبدو الاعتدال فيه أقرب الى التهمة ، فلا يقنعني أحد بان رفع الرايات المذهبية أو نصب القدور والطبخ في الحرم الجامعي هو من قبيل حب الامام الحسين (ع) انما هو رياء محض فهو (أي الامام) لم يأمر بذلك وحبه والايمان بقضيته مرتبط باسهام كل فرد منا ببناء دولة القانون والمؤسسات واشاعة مفهوم العدالة الاجتماعية ونبذ الظواهر السلبية في الدولة و المجتمع على حدا سواء ، كما لاتحاول استصغار عقلي واقناعي بان بيع ملابس خليعة في الجامعة هو من قبيل الحرية الشخصية أوضمن التبادل العفوي للبضائع بالبيع والشراء كما هو حاصل في الأسواق والمولات التجارية لكنها حملة مقصودة لافساد أخلاق الطلاب وتمييعهم وتشتيت انتباههم عن غاياتهم العلمية الأساسية ونتيجة حتمية لغياب الرقابة والمحاسبة في مؤسسات الدولة والتي ينشغل أغلب مدرائها بتوشيح جدرانها بأيات القران الكريم وأسماء لفظ الجلالة والرسول الأكرم (ص) والائمة الأطهار (ع) وشعارات وصور مذهبية أكثر من اهتمامهم بمتابعة سلوك موظفيهم والتحري عن نزاهتهم ومدى قيامهم بواجباتهم الوظيفية بدون تقصير وعلى أتم وجه بحيث يخيل لك انك داخل في دار عبادة للوهلة الأولى لا دائرة حكومية وعندما تنتقد ذلك حرصا منك على مدنية الدولة ومهنية دوائرها ورعايتها لكل المواطنين بدون تمييز تغدو فجأة شمر القرن الواحد والعشرين !!!

حاضر العراق مأساوي ومستقبل ماتبقى منه مظلما بعد أن يشد الجيل الحالي أزره ويصبح عمود البلد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، الشاب العراقي يمر بأسوء أحواله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية فهو تائه بين مجموعة تناقضات مريبة مابين خطب التحريض وثقافة الكراهية ومخاطبة غرائزه الجنسية التي تحفل بها القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية دون أن يكون للدولة ورجال الدين ومنظمات المجتمع المدني أي دور رقابي وتوعوي وتثقيفي لمخاطرها على مستقبله الشخصي والعملي

وتهديد مصيري لكيان بلاده المحطم فعلا واذا ماربطنا هذه التناقضات مع الضغوطات التي يتعرض لها الشاب العراقي من الشعور بالحرمان مقارنة مع نظرائه في دول أخرى واحساسه بالظلم وتمتعه بحقه الأبدي في البطالة التي تحرمه من العيش الكريم والحلم بمستقبل أفضل يبدو منطقيا حينئذ كيف يكون هذ الشاب فريسة سهلة للجماعات المسلحة؟ التي تستغل فقره ويأسه وتغريه بالدولار الامريكي في الدنيا وتوهمه بجنة عرضها السموات والأرض في الأخرة فيتحول بين ليلة وضحاها الى خنجر مسموم في خاصرة وطنه وأهله مع انه في الحقيقة مجرد ضحية لسياسات خاطئة وادارة فاسدة لحكومات عاقبته على فعله الاجرامي دون أن تسأل عن دوافعه وتسعى لعلاجها فاستمرت بذلك سلسلة الضحايا .

لقد أثبتت الدراسات والاحصاءات التي طالت شريحة الشباب العراقي (على قلتها) ان 52% منهم يتعاطون الكحول والمخدرات والتدخين ويبتعدون عن التعليم والمطالعة والمشاركة في النشاطات الاجتماعية مع تحبيذ غالبيتهم لفكرة الهجرة خارج العراق ، وان كانت أسباب هذه الظاهرة تعود الى سنوات سابقة حيث الظروف الصعبة التي مر بها المجتمع نتيجة الحروب والعقوبات الاقتصادية واستشراء العنف ، غير انها مازالت تقلق الباحثين في ظل غياب الاجراءات المفترض اتخاذها سواء من قبل الدولة أو منظمات المجتمع المدني.

الشباب في حاجة الى فرص ليكونوا قادة في مجتمعاتهم المحلية. وبحاجة الى فرص للمنافسة في سوق العمل. إنهم بحاجة الى فرص لنوعية التعليم التي تشجع التفكير النقدي. كما أنهم بحاجة الى فرص للتعبير عن أرائهم وأفكارهم دون خوف أو تردد من نظرة المجتمع.

على الدولة ومؤسساتها والمرجعيات الدينية ووسائل الاعلام ومنظمات المجتمع المدني المبادرة لانقاذ الشباب من واقعهم المرير المسكوت عنه فهم يتعرضون لحرب ممنهجة تقف وراءها قوى خفية لتجهيلهم وابعادهم عن البحث العلمي ومحو حب الاطلاع لديهم وجعلهم يدورون في حلقة مفرغة من الفعل وورد الفعل الطائفي وحصر تفكيرهم في الجنس والمخدرات والكحول، ان المحافظة على هذه الشريحة هي حفاظ على ماتبقى من العراق واهمالها شأنها شأن كل المجالات في هذه البلاد سيجعلهم أدوات متاحة بيد الارهاب الداخلي والقوى الخارجية لضرب الدولة والمجتمع حينها لن يكون للعراق وجود بعد أن يكون قد فقد عماده الحقيقي .

المال يمكن استعادته والطاقة يمكن تعويضها ببديل عنها اما الرجال فلا وألف لا .