19 ديسمبر، 2024 2:01 ص

الشباب أراد وطن لكن لم يرحمهم الجلاد

الشباب أراد وطن لكن لم يرحمهم الجلاد

“لا نريد الأحزاب السياسية، ولا نريد شيئاً منها. فقط أعطونا وطننا، نريد فقط أن نعيش في دولة”. يصرخ الشباب في المظاهرات ليعبر عن احتياجاته فهو يريد وطن لا أكثر.
التدخل الخارجي المهين واليأس من الحاضر والخوف من المستقبل المجهول والفساد والطبقية المتفشية في البلاد جعلت الأجيال الشابة تخرج للشارع مطالبة بحقوقها غير مبالية بالمليشيات التي تجثم على صدر الدولة، لم يعد لديهم ما يخسروه، لم يبق لديهم سوى الدماء التي يروون بها ارض بلدهم ليحصلوا على وطن، ولم يرحمهم الجلاد.
يبلغ عدد سكان العراق أقل من 40 مليون نسمة، ويعد حاليًا خامس أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم، وثاني أكبر منتج لأوبك. تبلغ نسبة البطالة بين الشباب 25٪، أي ضعف المعدل الإجمالي وفقًا للبنك الدولي، الذي قدّر أن 22.5٪ من السكان كانوا يعيشون في فقر في عام 2014. إن جذور الخلافات السياسية والدينية عميقة جدا في العراق ولها تشعبات إقليمية ودولية عديدة، عادة ما كانت تدعو الى الاحتجاجات جهات حزبية أو طائفة، ما يجعل مظاهرات تشرين الأخيرة استثنائية أذ انها المرة الأولى التي نسمع فيها أشخاص يقولون إنهم يريدون سقوط النظام. قادة هذه المظاهرات معظمهم من الشباب الذين حُرِموا من فرص الحياة بسبب الفساد الذي ترعاه الدولة والذي يحرم الوظائف على الافراد اللذين لا تربطهم صلات بالفاسدين.
شكلت الاحتجاجات العفوية إلى حد كبير التحدي الأكبر الذي يواجه رئيس الوزراء العراقي، الذي وصل إلى السلطة قبل عام كمرشح توافقي يعد بإصلاحات، لكن رده على المتظاهرين كان فاتراً.
التحدي الأكبر الذي يواجه العراق اليوم هو ما إذا كان لديه دولة، أي دولة أهي دولة قوية، أو دولة قائمة على المواطنة، أو لديها دولة داخل دولة، أو دول متعددة … إن أكبر خطيئة كانت تفكيك الدولة العراقية في عام 2003 ومنذ ذلك الحين يكافح العراق في منطقة إقليمية صعبة.
الاضطرابات هي أخطر تحد يواجه العراق منذ الانتصار على مقاتلي الدولة الإسلامية. تأتي الفوضى أيضاً في وقت حرج بالنسبة للحكومة، التي وقعت في خضم التوترات المتزايدة في المنطقة، وخاصة بين إيران والولايات المتحدة. إن العراق متحالف مع البلدين ويستضيف الآلاف من القوات الأمريكية، وكذلك القوات شبه العسكرية القوية المرتبطة بإيران. وقد ناشد مبعوث الأمم المتحدة للعراق إنهاء العنف ودعا إلى محاسبة المسؤولين. “يجب أن يتوقف هذا. “أناشد جميع الأطراف أن تتوقف وتتأمل”، جانين هينس متحدثا عبر تويتر.
وفي نفس سياق الحدث، قال أندرو بيك، مساعد وزارة الخارجية الأمريكية، إن التقدم الذي أحرزه العراق في الآونة الأخيرة تقوضه حقيقة أن إيران كانت تسيطر أكثر من حكومة بغداد على ما يتراوح بين 30 إلى 40 ألف رجل مسلح في البلاد. وحذر من أنه إذا اختار العراق أن يصبح دولة غير طبيعية، فسيتم عزله عن الاستثمار الأجنبي المباشر والمؤسسات المالية الغربية. وقال “نموذج الدولة الإيرانية لن يقدم أي مساعدة للعراقيين في الشوارع اليوم”. “إن مليون شاب عراقي يدخلون سوق الوظائف كل عام يريدون شيئًا أكثر من السياسة التقليدية
حاليا العراق يدفع للابتعاد عن السياسة الطائفية بواسطة اجياله الجديدة. أذ يوجد في العراق 20 مليون شاب تقل أعمارهم عن 20 سنة. لقد نشأوا بدون ذكر لصدام حسين أو أي من القضايا السياسية السابقة. لقد انتهى صبرهم فهم لا يحصلون على الخدمات في المدارس أو المستشفيات أو في الشوارع، هم حتى معطلون عن العمل.
لقد أصبح الفساد مؤسسيا في العراق لدرجة أنه يتطلب أكثر من أي تغييرات تجميلية كإنشاء اللجان وإصدار القرارات الترقيعية. إن الموقف يتطلب مواجهة مباشرة، قد تكلف خسائر سياسية باهظة. سواء كان رئيس الوزراء مستعدًا لدفع هذه التكلفة الباهظة أم لا، وهو الخارج من رحم هذه الأحزاب الفاسدة وقد اختير من قبلها كعراب للفترة الحكومية القادمة. إن رئيس الوزراء جاء ً إلى السلطة لتجنب المواجهة العنيفة بعد انتخابات 2018 اذ كان الوضع غير طبيعياً بالمرة. حيث يوجد في العراق أكثر من 10 كتل انتخابية تتمتع بسلطة حقيقية عبر أذرع من الجماعات المسلحة، والتي لديها أيضا بنوك ومحطات تلفزيون ونواب في البرلمان اذ اندمج الفساد مع تلك الكتل.
أحد أبرز زعماء المليشيات مقتدى الصدر القى بثقله مجددا خلف المظاهرات متبوعة بدعوة لاستقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. يجدر الإشارة ان حركة الصدر تتسم بالسلطة والتنظيم لإحضار أعداد كبيرة من المؤيدين إلى الشوارع، لكن مع الدعوات من الشباب المتظاهر الى عزل ورفض العديد من أولئك الذين يمثلون الفصائل السياسية المتناحرة في العراق لا تجعل الصدر بعيدا عن رفض الجماهير الحرة.
ويبدو أن القيادات العراقية غير راغبة في الاستجابة للعناصر الأساسية في مطالب المحتجين: التي تتمثل في شن حملة قمع واسعة النطاق للفساد الذي أضعف عائدات الدولة، والعمل على تحسين الخدمات.
على الورق يعد العراق أحد أكثر دول المنطقة ثراءً، كما أنه واحد من أكثر دولها فسادًا، حيث تنتشر اساليب الكسب غير المشروع على نطاق واسع في جميع مستويات الحكومة. اذ إن شبكة المحسوبية الراسخة جعلت الوزارات غالباً ما تُدار كإقطاعيات، مع تحويل الإيرادات عن الخدمات وتوزيعها على المستفيدين، بمن فيهم كبار المسؤولين والميليشيات.
في أعقاب كل انتخابات وطنية، تجتمع الأحزاب الفائزة للتفاوض حول حكومة وحدة وطنية. يتم منح الوزارات والميزانيات التي تتحكم فيها للأحزاب التي شاركت في الانتخابات، في علاقة مباشرة مع نجاحها في صناديق الاقتراع. يتم مشاركة منافع الفساد بين الأحزاب السياسية التي تهيمن على الحياة السياسية العراقية من خلال آليات ميثاق النخبة، وهي المحاصصة الطائفية، التي نظمت الحياة السياسية في البلاد منذ عام 2003. لا يقتصر ذلك على تقسيم المناصب الوزارية بين كبار أعضاء الأحزاب التي تفوز في كل انتخابات وطنية، بل يمنح، هؤلاء السياسيين، كجزء أساسي من المفاوضات الانتخابية، سلطة تعيين أصحاب المناصب العليا في جميع مفاصل الدولة. هذه الوضعية الغريبة أدت إلى سلسلة من المظاهرات الجماهيرية في 2011 و2015 و2018. في كل موجة، خرج المتظاهرون إلى الشوارع مطالبين بإصلاح النظام السياسي الذي أدى إلى هذا الفساد المستشري بشكل جذري.
نظم العراقيون مظاهرات حاشدة خلال السنوات القليلة الماضية بسبب نقص الخدمات الأساسية وكذلك الفساد الحكومي. ومع ذلك، فإن اغلب المظاهرات تحدث عادة في فصل الصيف، عندما تتسبب انقطاع التيار الكهربائي في أكبر معاناة من الحرارة الشديدة في العراق، والتي تتجاوز بشكل روتيني 48 درجة في المحافظات الجنوبية. تشير المظاهرات الأخيرة، في درجات حرارة أبرد بكثير، إلى أن المظالم الأساسية تدور حول الإحباط لدى الحكومة والبطالة بقدر ما تتعلق بنقص الخدمات.
احتجاجات تشرين كتلك التي حدثت في البصرة في سبتمبر 2018، اذ سرعان ما تحولت هذه المظاهرات إلى عنف بسبب رد الفعل من قبل الحكومة وسانديها على الأرض، حيث اشتبك المحتجون الذين كانوا يطالبون بوضع حد للفساد مع الميليشيات التي تدافع عن الأحزاب السياسية التي تنتفع منها. هذه الاحداث توجه النظر الى حجم الفجوة الحالية بين الذين يتحدون الوضع السياسي الفاسد والذين يستخدمون العنف للدفاع عنه، هذه الجدلية هي التي شكلت وضع العراق منذ هزيمة داعش. إذا لم يتم إصلاح النظام السياسي في العراق، فهذه الفجوة ستزيد من زعزعة استقرار البلد.
خلاصة القول بعد بداية صعبة اتسمت بعدم الاستقرار المؤسسي، أصبح النظام العراقي الجديد في السنوات الأخيرة يدرك بشكل متزايد تحديات الفساد الهائلة التي يوجهها. أدى الاختلاس الهائل، وعمليات الاحتيال في المشتريات، وغسل الأموال، وتهريب النفط والرشوة والبيروقراطية الواسعة، إلى وصول البلاد إلى قمة التصنيف الدولي للفساد، وأذكى العنف السياسي وأعاق بناء الدولة بشكل فعال وتقديم الخدمات. على الرغم من أن مبادرات وإطار مكافحة الفساد في البلاد قد توسعت منذ عام 2005، فإنها لا تزال تفشل في توفير نظام نزاهة قوي وشامل. إن التدخل السياسي في هيئات مكافحة الفساد وتسييس قضايا الفساد وضعف المجتمع المدني وانعدام الأمن ونقص الموارد والأحكام القانونية غير المكتملة تحد بشدة من قدرة الحكومة على كبح الفساد المتزايد بكفاءة. وبالتالي فإن ضمان نزاهة إدارة إيرادات النفط الضخمة والمتنامية في العراق سيكون أحد أكبر التحديات التي تواجه البلاد في السنوات المقبلة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات