7 أبريل، 2024 2:03 ص
Search
Close this search box.

الشاعر غزاي درع الطائي : ( سلسلةٌ من ذهب )

Facebook
Twitter
LinkedIn

غزاي درع الطائي ، شاعر مخلص لأسلوبه الشعري ، صادق في طريقة التعبير عن همومه . عَرفته منذ أكثر من أربعين عاماً حين كان طالباً في قسم الهندسة الميكانيكية في الجامعة التكنولوجية في سبعينات القرن الماضي . كنتُ قد زرته بمعية صديقي الشاعر خزعل الماجدي في القسم الداخلي للجامعة ، لأطلاعه على مسودة الدعوة التي كتبناها حول ( كتابة القصيدة اليومية )، وبعد نقاش قصير ، وافق الرجل على التوقيع عليها، وظهرتْ لاحقاً منشورة في مجلة ( الكلمة )لصاحبها الأستاذ ( حميد المطبعي )، في العدد الخامس / أيلول / 1973 ، تحملُ تواقيعنا نحن الثلاثة ( غزاي ، خزعل ، وأنا ) ، وأثارتْ ، وقتئذٍ ، نقاشات وكتابات وتعليقات مختلفة في الوسط الأدبي ، وتمت ْ الأستفادة منها في بعض الرسائل الجامعية . لا مكان هنا للأستفاضة التأريخية فيها ،  لكن أمر ذكرها والأشارة أليها ، أمر ضروري ، كسياق تأريخي ، عند الحديث عن شعر غزاي درع الطائي ، الذي أصدرَ (سبع ) مجموعات شعرية قبل الأحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ، ولمْ ينشر أية مجموعة بعده ، لذا تجيء مجموعته الجديدة الموسومة ( سلسلة من ذهب )الصادرة في بغداد عام 2014 ، كأشارة لامعة على أستمرار مسيرته الشعرية .
      قبلَ نشره هذا الديوان ، كان الشاعر قد أرسلَ لي مخطوطته عبر الأيميل ، لكي اكتبَ فيها شيئاً ما يشبه التقديم، وقد شكرته على ثقته بي ، وأوضحتُ له أنني على سفر قريب جداً الى تركيا ، وسأحاول الكتابة بعد عودتي من رحلتي الى هناك التي دامت حوالي طيلة شهر ايلول من السنة الماضية . بعد عودتي ، عرفتُ من ( غزاي ) ، ان الديوان تمَّ تقديمه للطبع بناءً على رغبة الجهة الناشرة، وهو في طريقه للنشر، فباركتُ له الاصدار.
    أكتب الآن عن الديوان (سلسلة من ذهب) اعتماداً على ما توفر لدي من المخطوطة التي كان قد ارسلها الشاعر لي لأنني لم أحصل بعد على نسخة مطبوعة منه.
    أنا متابع لشعر غزاي وغيره من الشعراء منذ بداية سبعينات القرن الماضي، ورافقتُ تطورات العملية الابداعية الشعرية عنده وعند غيره، ولي  إراء معروفة وموثقة في هذا الشأن . وكمثال على ذلك أدرجُ نصاً مختصراً من دراسة تفصيلية نشرتها في مجلة (الاقلام) الادبية المتخصصة الرصينة في العدد السابع / السنة الثانية عشر عام 1977، تحت عنوان : “الشعراء الشباب: التجربة والقصيدة”، إذ أقول في هذا النص الموجز مايلي: ( القصيدة عند غزاي درع الطائي يمكن أن تكون نمطاً متميزاً بين قصائد الشعراء الشباب، لا من حيث بناءها وطريقة كتابتها، بل أيضا من حيث تناولها لموضوعات بسيطة تتصاعد في القصيدة للوصول الى نقطة معينة. أن البساطة في التناول بقدر ماهي ميزة خاصة في شعر “غزاي”، ألا أنها سلاح قد يستعمل ضده في أحياناً اخرى، حيث تفضي هذه البساطة الى وقوع الشاعر في نثرية مقيتة ولجوئه الى ما يشبه ” بعض المقررات الفكرية”) أنتهى النص.
   غزاي في ( سلسلة ذهبه) الجديدة لم يخرج عن مواضيعه الاثيرة الى نفسه: بعقوبة، خريسان، الوطن، الحبيبة، البرتقال ورائحته …. الخ، مع مزاوجة بما يتعلق بالهم الانساني الوجودي العام، بطريقة ثرية، يحرصُ فيها على ابراز معالم القبح والجمال باسلوب شعريِ موهوب.
     أن المتغيرات السياسية والاجتماعية والابداعية التي حصلت خلال فترة ما بعد الاحتلال في بُنية المجتمع العراقي، اخذت الحصة الأكبر في قصائد المجموعة في تنويعات متعددة الاشكال والاساليب والصور.
      ضمت المجموعة الجديدة (32) قصيدة مع مقدمة تنظيرية تعالج موضوعة ( زمان الشعر ومكانه). كل قصائد الديوان تشترك بسمات عامة تعتمد على استخدام اليومي المتداول من المفردات وتأويلها شعرياً، بطريقة فيها شجن ووجع ظاهر ، كما هو الحال في قصائد ( “اويلي” على هذه البلاد) و( مسؤولية اعالة العصافير) و (عصافير الحب تنقر قلب الطاغية) وغيرها كثير. هنا تبرز موهبة الشاعر في استثمار المتداول اليومي، شعريا، في تصوير موضوعات ذات هم انساني عام، وبثْ روح (الشعرّية) في تلك الاستخدامات.أن هذا الامر، قد جعل الشاعر يستخدم رموزاً أو فضاءات معروفة ، محددة باطار زماني ومكاني متداول ، واعطائها ، ضمن سياق الهَمْ اليومي، بعداً رمزياً شمولياً:
“بحيرة الوجعْ
أكثرُ عمقا من بحيرة البجع”
     أن السياقات النثرية للغة اليومية واستخدامها شعريا، ادتْ بالشاعر الى اللجوء الى (أساليب) تسعى الى كسر رتابة تلك (النثرية)، وإلباسها ثوباً شعرياً جديداً فيه ادهاشٌ وسؤال لدى المتلقي، عبر اللجوء الى (التهكميَة) و( الحكمة) في صياغة الفكرة ، مازجاً بين بساطة المفردة وعمق الدلالة الشعرية، مثلاً ، الروح التهكمية ذات النَفَس التحريضي الساخر:
“إذا تزوج الجلاد
كرسي البلاد
فعلى أهل البلاد
إعلان الحداد”
“منذ أكثر من نصف قرنٍ
ونحن نكتبُ القصائدَ الحرَّة
ولكن امتنا
مازالت غير حُرّة”
      أما في جانب الحكمة فالامثلة كثيرة ، أستفادَ منها الشاعر كاسلوب شعري للتغطية على النثرية الواضحة:
“الحياةُ
نلهو بها صغاراً
وتلهو بنا كباراً”
      هناك محوران رئيسان يتقاسمان جميع القصائد هما ( الوطن) و( الذات) وتبرزُ هذه الحقيقة بشكل اوضح في قصائد ، (البعقوبي 2009)، (البعقوبي 2011)، (البعقوبي 2012)،  التي تستحق الاشارة والوقوف عندها. لن أتحدث الآن عن مسألة بناء القصائد، لأنني سأفردُ لها مجالاً خاصاً في هذه المقالة، لكنني أرى أن عنصر (السرد) هو الغالب على نسق هذه القصائد: سردُ فيه تشويق وحركة وتصاعد بمستويات متعددة، ذاتية وموضوعية، ففي ( البعقوبي 2009) يحتل نهر (خريسان) موقع الراية في مناجاة الشاعر لنفسه وبلدته ووطنه:
“كأن فوقَ (خريسان)
وهو يسيرُ بتوأدةِ قمرٌ مقبلُ،
وأنا كنتُ أنثرُ احزانَ روحي
على رأس محبوبتي،
قالت: النهر يسمعنا،
قلت: هذا صديقي القديم الأمين
وحاملُ سرّي،
الذي كان يوصل نجوى البنفسجِ حتى يديكِ
وكان يُسلَّمُ في كلِ وقتِ عليك،
فلا تحزني”
     بينما في (البعقوبي 2011) هناك استشراقٌ للمستقبل مع استخدامات لبعض المفردات من التراث الغنائي الشعبي ( عمي يا بياع الورد):
“غداً..
غداً كل شيء سوفُ ينكشفُ
التمرُ هذا…
وهذا سادتي الحشفُ”
مع التأكيد على ان استخدامه لاسماء أماكن مثل سور الصين العظيم، قمة جبل أفرست، بحيرة قزوين، جزيرة كرين لاند،… الخ، جاء باهتاً وليس له أي محل رمزي او دلالي أو فكري داخل القصيدة.
     أما قصيدة (البعقوبي 2012)، فقد برز فيها الهَمْ العربي والانساني بشكل واضح مع اندماج بهموم الوطن الراهنة خصوصاً استعارته التأريخية لحكاية قابيل والغراب ، مؤكداً على موضوعة الموت وعبثيته الراهنة في الوطن:
“قابيل والغرابُ
والقتل والترابْ
رباعيٌّ خالدٌ يكتبُ رباعياته
ويعزفها على أوتار الموتِ والترابْ”
مع ذلك، فأن هناك تكرار في بعض مقاطع القصيدة خصوصاً المقطع العاشر: ” لا ينتهي الطيبون في هذه البلادِ”، يُكرر ثلاث مرات دون مسوغ.
     إضافة الى ما تقدم، فقد كانت هناك قصائد غارقة في نثريتها، وتكرار صورها الذهنية المستهلكة كما في المقاطع (1،2،3،4،5،6) من قصيدة ( شيركو بيكة س.. الجبال مشت وراء جنازتك)، وقصيدة ( تشيع القارة الثامنة الى الخلود)، وهما مرثيتان للشاعر الكردي (شيركو) ورئيس جنوب افريقيا السابق (نيلسن مانديلا)، إذ أن فخ النثرية المُستهلكة قد اصطاد الشاعر من حيث يدري او لايدري.
     تطرح مجموعة (سلسلة من ذهب) مشكلات فنية على صعيد أساليب البناء الشعرية، ربما أبرزها هي : تقنية المقاطع الشعرية التي لجا اليها الشاعر في معظم قصائد مجموعته. فالملاحظ أنه نجح في بناء مقاطع بعض قصائده نجاحا مقبولا بحيث جاء البناء المقطعي متكاملا يخدم فكرة القصيدة وموضوعها عبر استخدام تكرارات نابعة من نسيج القصيدة وبنيتها اللغوية والموسيقية، كما في قصيدة (البعقوبي2009):
“ما الذي يا كتابي يُبرِّر كل هذه الحروب؟
الوطن/ الحرية/ الثروة/ المستقبل؟
ملعونة الحروبْ
قاسية الحروبْ
لئيمة الحروبْ”
” وطني…
إجعلْني حبلَ نجاةٍ لكَ من الحروبْ
ولعنة الحروبْ
وقسوة الحروبْ
ولؤم الحروبْ
واصحاب الحروبْ”
في حين نجد قصائد أخرى عديدة، استخدم الشاعر فيها نفس التقنية (المقاطع) لكن ذلك لم يكن اصيلا في نسيج القصيدة نفسها، إذ يمكن تغيير تسلسل المقاطع او حذف بعضها ، دون أن يؤثر ذلك على نسق وبناء القصيدة وتكوينها الصوري واللغوي، أو مسار نموها ، والامثلة كثيرة لا اريد أن اشير اليها لأنها واضحة للقارئ دون عناء.
      في عكس هذا الاتجاه، كانت هناك قصيدة جميلة متكاملة البناء والفكرة وهي ( الطرق مغلقة فالى اين تريد؟)، استخدم فيها الشاعر آلية (الفراغ) “……” استخداما موفقاً في بناء القصيدة وهي آليةُ قد يلجا اليها  العديد من  الشعراء دون خبرة أو مهنية أو حتى مبرر، ليملأ قصيدته أو نصه، بالعديد من الفراغات غير المسوَغة بنائيا أو وظيفيا في سياق تكوين القصيدة، موضوعا وبناءا ، الامر الذي يجعل البناء الشعري هزيلا مفككا، مرتبكاً في معناه وموضوعه. إلا ان “غزاي” في هذه القصيدة أستخدمها بحرفيَة شاعر ومهارة صانع كلماتٍ خبير..
” وكنتُ كنهر خريسان أكتم سري
واحمل اوزاره طائعا
“…………..”
وقف الشعراءُ وقالوا قصائدهم
“…………”
أنها الحربُ”
هذه هي المفاجأة المتبادلة مع المخاطَب الذي / التي “كانت بساتين بهرز تمشي” ورائه ” مشي  الجنود”، والمخاطِب (المتكلم) الذي كان ” كنهر خريسان” يكتم سرّه ويحمل ( أوزار) هذا النهر ” طائعاً”، يأتي _ الفراغ _ (القطع)، بلغة المونتاج السينمائي، بوقوف “الشعراء و قصائدهم ” ليجيء _ الفراغ_ القطع الثاني، وبعده : “أنها الحربُ”. هنا نجح الشاعر باستخدام هذه الآلية في توصيل القصد الشعري الى المتلقي، بتصاعد درامي واضح.
       أخيراً، غزاي درع الطائي، شاعر ذكي موهوب ، متمكن من أدوات قصيدته، حريص على متابعة تطوره الشعري والمعرفي . له مني كل التحايا والامنيات الطيبة لمناسبة صدور مجموعة الشعرية (سلسلة من ذهب).

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب