23 ديسمبر، 2024 6:52 ص

الشاعر عزالدين المناصرة سلاماً

الشاعر عزالدين المناصرة سلاماً

في نهاية الستينات من القرن المنصرم، حطّ بين يديّ كتاب شعر يحمل عنوان ” يا عنب الخليل” لشاعر لم أسمع به من قبل هو “عزالدين المناصرة”، ولعل سبب اقتنائي للكتاب يرجع الى العنوان المرهف الذي لا يدانيه عنوان، فهو أعطى انطباعاً ينم عن شاعرية قوامها اللفط الحزين المترع بحنين جميل ليس لمحبوبة بل للمدينة الفلسطينية “الخليل” – نسبة لمقام إبراهيم الخليل – المشهورة بالعنب الذي يعرفه أصحاب بساتين الكروم في العراق “الخليلي”.. وحيث أن صدور الكتاب جاء بعيد هزيمة حزيران عام 67 المريرة والتي هزت الأنظمة العربية وعرّتها، ما أدى إلى ارتفاع الزخم الثوري لدى الجماهير من “الخليج الثائر الى المحيط الهادر” وقد شاع هذا التعبير وأصبح على كل هتاف ويافطة ثم انقرض تدريجياً ولم يعد له وجود!..
كانت تلك هي بداية علاقتي بالشاعر المناصرة الذي بقيت أتابع وأقرأ ما ينتجه وخاصة إبان إشرافه على تحرير الصفحة الثقافية لمجلة “الهدف” الأسبوعية، وكان للشاعر بصمته الخاصة التي تميزه بالشعر ذي الجزالة وجمال الصياغة ورقة اللفظ مع عمق في المعاني والأفكار التي تضعه من بين شعراء المقاومة بحق، فهو حمل السلاح وخاض النضال المسلح ولأجل هذا عُدّ الضلع الرابع من المربع المعروف بالأربعة الكبار في الشعر الفلسطيني المقاوم بجدارة والمتمثل بمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وشاعرنا عزالدين المناصرة.
ولو كان الأمر يتعلق بي لجعلته مخمّساً ليكون الضلع الخامس الشاعر الفلسطيني معين بسيسو.. فهو أعمق شعراً وأكثر طلاوة من شعر توفيق زياد ولست مُبخساً شعر الأخير قط حيث يطغى عليه الطابع السياسي!..
وقد اتسم شعر المناصرة بخصوبته وسعة آفاقه التي تنم عن ثقافة عالية عكست تجاربه الحياتية في دول شتى حيث أكمل دراسته الجامعية وبرز شاعر منذ عام 1968 وهو لما يزل طالباً في جامعة القاهرة وسجل حضوراً في الوسط المصري الذي بدت شجرته الشعرية وارفة مورقة لعديد من الشعراء المصريين البارز حيث سجلت مصر نهضة تقافية مجددة شاملة في الشعر والرواية والمسرح والفن والموسيقى والسينما …الخ.
لقد اغتنى شعر المناصرة بالتجارب التي خاضها أو بمحطات حياته فبالإضافة الى مصر انتقل بعد تخرجه الى الأردن شقيقة فلسطين، فاشتغل مشرفا ثقافية على الإذاعة الأردنية وأسس رابطة الأدباء الأردنيين. وقد عايش تجربة طرد المقاومة بما عرف بأيلول الأسود عام 70 ولم يكن مشاركاً بأحداثها الدامية ومارس نشاطه في الشعر مما ضمن له البقاء حتى عام 73 حيث غادر الى لبنان..لينخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية وليشتغل في الوقت ذاته كمحرر ثقافي في “فلسطين الثورة” وفي مجلة “شؤون فلسطينية”، وكان خلال اجتياح بيروت من قبل القوات الإسرائلية محراراً في صحيفة “المعركة” التي كانت تصدر إبان الاجتياح ثم مقاتلا في معركة المتحف عند حصار بيروت ثم خرج مع خروج القوات الفاسطينية عام 1982 … ولينتقل أستاذاً في الجزائر بجامعة قسنطينة ومن ثم جامعة تلمسان حتى غادرها عام 1991 وكان قبلها قد تحصل على الدكتوراه في الأدب البلغاري من جامعة صوفيا.
وليعود الى الأردن ويبقى فيه حتى يوم وفاته عن خمس وسبعين سنة في العاصمة الأردنية في الخامس من نيسان/أبريل 2021 بمرض كوفيد – 19..
ترك المناصرة وراءه ثروة باذخة من الشعر موزعة في ا مجموعات شعرية، ومقالات سياسية وفكرية ضمتها كتب هامة، فلم يمر عام على مجموعته الأولى سالفة الذكر “ياعنب الخليل” حتى أصدر الثانية “الخروج من البحر الميت” عام 69 في بيروت، ثم “مذكرات البحر الميت” في العام ذاته وهكذا يتم أثنتي عشرة مجموعة..
أحسب من أهمها ” بالأخضر كفّناه” عام 67 بيروت، وهذه المجموعة من أهم مجموعاته وقصيدتها التي تحمل العنوان ذاته هي الأهم طرّا التي يكرّم بها الشهيد الأردني زياد شطناوي الذي استُشهد في إحدى المعارك دفاعاً عن بيروت عام 82، حيث لم يستطيعوا دفنه إلا بعد ثلاثة أيام من شدة القصف حتى هدأ نسبياً عندئذ لُف وكفَّن بالعلم الفلسطيني، وصادف أن سيدة مسنة قد رأت الجثمان فقالت ” سبحان الله جرحه لسة أخضر” تعني مازال ينزف دماً، فسمعها الشاعر وأوحت له بهذه القصيدة والتي أبدع في غنائها الفنان اللبناني مارسيل خليفة:
بالأخضر كفناه
بالأخضر كفّناه بالأحمركفّناه
بالأبيض كفّناه بالأسود كفّناه
لا الريح تحاسبنا إن أخطأنا لا الرمل الأصفر
لا الموج ينادينا إن خطف النوم أعيننا
والورد إحمرّ
يا دمَهُ النازف إن كنت عذاباً يومياً
لا تصفرّ
ومن مجاميعه الهامة ” جفرا” عام 81 ومجموعة “كنعانياذا” في العام ذاته من بيروت.. وكان التجديد المرتبط بنضوج تجربته الديناميكية قد وسم قصائدة بالحركة التي لا تعرف الاستكانة وارتباطها بفلسطين مع انفتاح تجربته على التجارب العالمية والإنسانية ما فتح له آفاق قصيدة الهايكو مستلهماً إياها من الشعر الياباني فهو بحق رائد تجربة الهايكو التي فتحت الطريق أمام غيره من الشعراء أن يمارسوا هذا النوع من الشعر..
مارس النقد وخاض شتى الميادين وخصّ الفن التشكيلي بكتاب ” الفن التشكيلي الفلسطيني” الذي توسع به ليصبح “موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني في القرن العشرين” في مجلدين، عمان 2003، و له كتاب في النقد السينمائي ” السينما الإسرائيلية في القرن العشرين” وقد عالج قصيدة النثر وأشكالاتها في كتابه ” إشكالات قصيدة النثر” عام 98. وله كتاب شامل عن الشعر ” نقد الشعر في لبقرن العشرين” عمان 2012..
فلم يكن عزالدين المناصرة شاعراً وحسب بل مثقفاً ومُفكرً موسوعياً في شتى مجالات الفكر الإنساني..مما يجعل رحيلة خسارة فادحة..
سلاماً أيها الشاعر المفكر عزالدين المناصرة..
السادسمن نيسان/أبريل 2021