لاشك ان مسارات التجربة، لاي شاعر تدل على قدرة في ادارة الكلمات، واجتراح بدائل لها ومن ثم ضمها الى القاموس الشعري الخاص به، مثلما فعل الشاعر حسين القاصد في قصيدته (امرأة مفخخة)، فاستعار الواقع المعيش واستثمره في التعبير عن خلجات النفس التواقة التي يحملها لعذوبة الانثى والجاذبية التي تسكنها، والظاهر ان الشاعر القاصد، حينما اراد الاستعذاب في الغزل انفعل الى شدة الوجد ان اعتبر الامرأة المتمناة مفخخة، فطرح مقترحات التفاوض بأليات عاطفية ديمقراطية تارة وتارة منفعلة الى حد الانفجار .. اذن هو وقع تحت تأثير العاطفة والاخرى تحت تأثير الواقع الضاغط .. واذا حاولنا ان نجد مخرجا جماليا، لابد لنا سلوك طريقين : الاول نشدان جمالية الحوار الديمقراطي المتحرر من القبح، باستعارة الواقع كما هو، والثاني مفخخ ينشد تثوير الجانب الجمالي من الحياة، وهو الجانب الانثوي الذي اكتنز بالجاذبية وتفخخ بمغزى العنف العاطفي ودلالة هذا تمثلت بتكرار كلمات مفخخة وفاجعة، ورغم الانفعال الا ان الشاعر سلك طريق الانتظار، والانتظار يحمل دلالة الهدوء والتصبر واصلاح الحال في خضم الدوران حول قافية الشعر، وهنا قد اقع في فخ الفهم الذي عرفه الفيلسوف الانكليزي جون لوك، حيث قال عن الفهم انه : (العمل الذهني الذي يشكل المدركات الحسية في صور جديدة)1، وهذا الفهم قد يتعارض في قضية اقناع الاخر ومحاولة ترويض ذهنه في قبول المعنى المقارب، لهذا ينزح عنا المنهج الواحد في الفهم والتحليل بعيدا عن فرض وصاية على المتلقي الاخر الى حالة تعدد مناهج التحليل، من المتلقي الاول الى الثاني وهكذا، رغم ان هذه الحداثة في كثرة المفاهيم حول النص، عده البعض من
معارضي الحداثة، انه سوء فهم الغاية منه غلق النص، الا ان تعدد القراءات، جعلت من النص افاقا مفتوحة تتصارع حولها الاذواق، وبالتالي (علمنة الدراسة الادبية والنزوع بالاحكام النقدية ما امكن عن الانطباع غير المعلل، واقتحام عالم الذوق وهتك الحجب دونه واكتشاف السر في ضروب الانفعال التي يخلقها الاثر في متقبله)ص145المصدر نفسه، فالتفخيخ في قصيدة الشاعر القاصد وبعيدا عن سخريته، هو خوف واندهاش معكوسا على حالات الغزل والرومانسية، فصراع الفحولة والانوثة، جمالية عاطفية بمقاسات الحب، الا انه يحمل انفعالا، حاول الشاعر تقريبه من تفخيخ قابل للانفجار و(تطرق بيير بوردي والى مفهوم “الهابيتوس” فعرفه على انه نسق من الاستعدادات المستمرة والقابلة للتحويل والنقل، بنى مبنية مستعدة للاشتغال بصفتها مباديء مولدة ومنظمة لممارسات وتمثلات ، فالملاذ الثقافي في دلالته وصيغته النهائية هو المجتمع وقد استقل في الجسم عن طريق سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض، فالمجتمع هنا بكل قيمه واخلاقياته، بكل محددات السلوك والتفكير والاختيار .. انه ذلك التاريخ الذي يسكن الاشخاص في صورة نظام قار للمؤهلات والمواقف)2، فحول الشاعر القاصد شعرية القصيدة الى صراع ثقافي قائم على التصادم بين الواقع بمرارته وبين الذاتية التي تطمح في استيعاب رغباتها الغريزية .. يقول :
(أنا منذ فاجعةٍ هنا
أتلو صلاة الانتظار
على الرتوش الجانبية
للحوار
لم اقتنص غير الدوار
من الملل
كانت مفخخة المفاتن
عندما التصقت على المرآة
كان مذاقها طعم البلل
لكنها كانت مفخخة العذوبة
ربما أنا في سواها لم أقع
مجنونة الاغراء
أتقنت استعارة هاجسي)
وهنا اعود الى (الملاذ الثقافي عند بيير بورديو “الذي هو عنده” دليل على قوى الاصل في الوسط الاجتماعي، وهي دعوة الى التقريب بين الحتمية الاجتماعية من جهة والفردانية من جهة اخرى، انه يسعى الى كشف ماهو (خارجي ـ داخلي)، كشف المشترك في البحث عما هو فردي فالبنيتان الداخلية والخارجية هما صورتان لحقيقة واحدة، للتاريخ المشترك، ذلك التاريخ المنقوش في الذات وفي الاشياء)ص105 المصدرنفسه، فالمسألة تكمن في البحث عن موقف محدد تجاه صراع يعيشه الشاعر نفسه، وليست المسألة تكمن في الغزل بانوثة مكتنزة متفجرة بالاغراء، ليكون الشعر رسالة تحمل مشاعر واحاسيس اضافة الى موقف محدد تجاه الواقع ومرارته .. وقد تكون رسالة تحمل سمة التاريخ، وسمة البؤرة الفكرية المنقذة باشارة الانتظار الذي يكمل رسالة اخرى تتبلور في كينونة الانسان الشاعر ..بدلالة قول القاصد :
(للأمر اكثر من خطورة
لابد من بدء التفاوض
حول فعل اللذة العمياء
في قتل الشعور
انا منذ فاجعةٍ ونصفٍ
حول قافيتي أدور
الخوفُ اول دولةٍ
انشأتها بدم الحواس
ثم اخترعتُ لها القراءة
والكتابة
والتسلح والخيول
لم انتهك وجه الطبيعة)
فظاهر الدلالة هناك فاجعة، ورغم هذه الفاجعة بقي الشاعر يدور حول القافية، ليرسم مسارات الفوق والتحت، الهدوء والانفعال ويحاول عدم انتهاك الطبيعة متسلحا بالانتظار .. وبهذا فان (القصيدة الجديدة لم تعد شكلا جاهزا يستقبل كل انواع التجارب باختلاف نماذجها وحساسيتها وعمقها ونضجها، بل هي “عالم ذو ابعاد .. عالم متموج متداخل، كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ، تعيش فيها وتعجز عن القبض عليها، تقودك في سديم من المشاعر والاحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص” بعيدا عن أي خارج على النحو الذي يجب معاينته هو بكل ما ينطوي عليه من خصوصية وتفرد، وعبر قراءة حرة لا تذعن لأي مؤثر خارجي)ص33، اذن اكتشاف المعنى هنا يكون من خلال القراءة الحرة المتساوقة مع قضية التذوق والمتعة …
مصادر البحث :
1ـ كتاب (استرداد المعنى) /عبدالعزيز ابراهيم / دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد الطبعة الاولى 2006م ص133 وص145
2ـ كتاب (النقد الثقافي) الدكتور سمير الخليل/دار الجواهري ـ بغداد شارع المتنبي/الطبعة الاولى 2012 م ص 105
3 ـ كتاب (عضوية الأداة الشعرية) أ.د.محمد صابر عبيد سلسلة كتاب جريدة الصباح الثقافي رقم 14 2008م ص33
4 ـ قصيدة (امرأة مفخخة) للشاعر حسين القاصد من ديوان (اهزوجة الليمون )